فصل: قال النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني: إن الله لا يجعل لهم سبيلًا يمحو به دولة المؤمنين، ويُذهب آثارهم ويستبيح بَيْضَتهم؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثَوْبَان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «وإني سألت ربي ألاّ يهلكها بسَنَة عامة وألاّ يُسلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذ قضيت قضاء فإنه لا يُرَدّ وإني قد أعطيتك لأُمتك ألاّ أهلكهم بسَنَة عامة وألاّ أُسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويَسْبِي بعضهم بعضًا».
الثالث: إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا منه إلاَّ أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدوّ من قبلهم؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
قال ابن العربيّ: وهذا نفيس جدًا.
قلت: ويدل عليه قوله عليه السَّلام في حديث ثَوْبَان «حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبى بعضهم بعضًا» وذلك أن {حتى} غاية؛ فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوّهم فيستبيحهم إلاَّ إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم لبعض، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين؛ فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلاَّ أقله؛ فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه.
الرابع: إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا شرعًا؛ فإن وجد فبخلاف الشرع.
الخامس: {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} أي حجة عقلية ولا شرعية يستظهرون بها إلاَّ أبطلها ودحضت.
الثانية: ابن العربي: ونزع علماؤنا بهذه الآية في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم.
وبه قال أشهب والشافعي: لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه، والمِلك بالشراء سبيل، فلا يشرع له ولا ينعقد العقد بذلك.
وقال ابن القاسم عن مالك، وهو قول أبي حنيفة: إن معنى {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} في دوام المِلك؛ لأنا نجد الابتداء يكون له عليه وذلك بالإرث.
وصورته أن يسلم عبد كافر في يد كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه، فقبل الحكم عليه ببيعه مات، فيرث العبد المسلم وارث الكافر.
فهذه سبيل قد ثبت قهرا لا قصد فيه، وأن ملك الشراء ثبت بقصد النية، فقد أراد الكافر تملكه باختياره، فإن حكم بعقد بيعه وثبوت ملكه فقد حقق فيه قصده، وجعل له سبيل عليه.
قال أبو عمر: وقد أجمع المسلمون على أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صحيح نافذ عليه.
وأجمعوا أنه إذا أسلم عبد الكافر فبيع عليه أن ثمنه يدفع إليه.
فدلّ على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت العتق له، إلا أنه ملك غير مستقرّ لوجوب بيعه عليه؛ وذلك والله أعلم لقول الله عز وجل: {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلًا} يريد الاسترقاق والملك والعبودية مِلكًا مستقِرًا دائمًا.
واختلف العلماء في شراء العبد الكافر العبد المسلم على قولين: أحدهما البيع مفسوخ.
والثاني: البيع صحيح ويباع على المشتري.
الثالثة: واختلف العلماء أيضًا من هذا الباب في رجل نصراني دَبّر عبدًا له نصرانيًا فأسلم العبد؛ فقال مالك والشافعي في أحد قوليه: يحال بينه وبين العبد، ويخارجَ على سيده النصراني، ولا يباع عليه حتى يتبين أمره.
فإن هلك النصراني وعليه ديْن قُضي دَيْنه من ثمن العبد المدبَّر، إلا أن يكون في ماله ما يحمل المُدَبَّر فَيعتق المدبَّر.
وقال الشافعي في القول الآخر: إنه يباع عليه ساعة أسلم؛ واختاره المزني؛ لأن المدبَّر وصية ولا يجوز ترك مسلم في مِلك مشرك يُذِلّه ويخارجه، وقد صار بالإسلام عدوًا له.
وقال الليث بن سعد: يباع النصراني من مسلم فيعتقه، ويكون ولاؤه للذي اشتراه وأعتقه، ويدفع إلى النصراني ثمنه.
وقال سفيان والكوفيون: إذا أسلم مدبر النصراني قُوِّم قيمته فيسعى في قيمته، فإن مات النصراني قبل أن يفرغ المدبر من سعايته عَتَق العبدُ وبطلت السعاية. اهـ.

.قال النيسابوري في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}
ثم لما رغب في الإيمان والثبات عليه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فقال: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا} والمراد الذين تكرر منهم الكفر بعد الإيمان تارات وأطوارًا. قال القفال: وليس المراد بيان العدد بل المراد ترددهم وتمرنهم على ذلك. وقيل: اليهود هم آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بعزير ثم ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرًا عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم المنافقون أظهروا الإسلام ثم كفروا بنفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم، ثم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، ثم ازدادوا كفرًا بجدهم واجتهادهم في استخراج وجوه المكايد في حق المسلمين. قيل: هم طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} [آل عمران: 72] ثم إنهم بالغوا في ذلك وازدادوا إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام. وفي الآية دلالة على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وذلك يبطل مذهب القائلين بالموافات وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت الشخص على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان. وفيها أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان فيجب أن يكون الإيمان كذلك لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذا الآخر. وكيف يزداد كفرهم فيه وجوه: أحدهها أنهم ماتوا على كفرهم. وثانيها بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم وعلى هذا فإصابة الطاعات وقت الإيمان تكون زيادة في الإيمان. وثالثها استهزاؤهم بالدين. أما قوله تعالى: {لم يكن الله ليغفر لهم} فقيل عليه اللام تفيد نفي التأكيد وهذا لا يليق بالوضع إنما اللائق به تأكيد النفي.
وأجيب بأن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم أفاد تأكيد النفي. ثم أورد عليه أن الكفر قبل التوبة غير مغفور على الإطلاق وحينئذٍ تضيع الشرائط المذكورة في الآية، وبعد التوبة مغفور ولو بعد ألف مرة فكيف يصح النفي؟ وأجيب بأن اللام في الذين لمعهودين وهم قوم علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر لا يتوبون عنه قط، فقوله: {لم يكن الله ليغفر لهم} إخبار عن موتهم على الكفر، أو اللام للاستغراق وخرج الكلام على الغالب المعتاد وهو أن من كان مضطرب الحال كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر، لم يكن للإيمان في قلبه وقع واحتشام. فالظاهر من حال مثله أنه يموت على الكفر، فليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبرًا بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب كالفاسق يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يرجى منه الثبات والغالب أنه يموت على الفسق. {ولا ليهديهم سبيلًا} أي إلى الإيمان عند الأشاعرة، وعند المعتزلة إلى الجنة. أو محمول على المنع من زيادة الألطاف. {بشر المنافقين} تهكم كقولهم: عتابك السيف وتحيتهم الضرب {أيبتغون عندهم العزة} كان المنافقون يوادّون اليهود اعتقادًا منهم أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم وحينئذٍ يبتغون بودّهم أن يحصل لهم بهم قوة وغلبة، فخيّب الله آمالهم بقوله: {فإن العزة لله جميعًا} وعزّة الله تستتبع عزة الرسول والمؤمنين كقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] و{جميعًا} حال من العزة أي مجموعة. قال المفسرون: إنّ المشركين كانوا بمكة يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزؤن به وبين أظهرهم المسلمون ولا يتهيّأ لهم حينئذِ الإنكار عليهم ظاهرًا فنزلت إذا ذاك. {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} فكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين ويجالسهم بعض المنافقين فأنزل الله تعالى في هؤلاء المنافقين {وقد نزل عليكم في الكتاب} معنى آية الأنعام {أن إذا سمعتم آيات الله} هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر والمعنى أنه إذا سمعتم آيات الله حال كونها يكفر بها ويستهزأ بها. وقال الكسائي: المعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها، ولكن أوقع فعل السماع على الآيات كما يقال: سمعت عبد الله يلام وفيه نظر، لأنّ إيقاع فعل السماع على الآيات ممكن بخلاف إيقاعه على عبد الله. {إنكم} أيها المنافقون {إذا مثلهم} مثل الأحبار في الكفر و«إذن» هاهنا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر ولذلك لم يذكر بعدها الفعل أي إذن تكونوا مثلهم، وأفرد {مثلهم} لأنها في معنى المصدر نحو {أنؤمن لبشرين مثلنا} [المؤمنون: 47] وقد جمع في قوله: {ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38] وإنما لم يحكم بكفر المسلمين بمكة لمجالسة المشركين الخائضين وحكم بنفاق هؤلاء بالمدينة لمجالسة أحبار اليهود الخائضين، لأن مجالسة أولئك المسلمين كانت للضرورة وفي أوان ضعف الإسلام ولم يرد نهي بعد، ومجالسة هؤلاء المنافقين كانت في وقت الاختيار وقوة الإسلام وبعد ورود النهي. قال أهل العلم: في الآية دليل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن لم يباشر كان شريكهم في الإثم.
ثم حقق كون المنافقين مثل الكافرين بقوله: {إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا} يعني القاعدين والمقعود معهم. والضمير في {معهم} يعود إلى الكافرين المستهزئين بدلالة {يكفر بها ويستهزأ بهأ} وأراد {جامع} بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين تخفيفًا في اللفظ. والمعنى أنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» {يتربصون بكم} ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من نصر أو إخفاق. {فإن كان لكم فتح من الله} ظهور على اليهود {قالوا ألم نكن معكم} مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة {وإن كان للكافرين} أي اليهود نصيب استيلاء مّا في الظاهر {قالوا ألم نستحوذ عليكم} الحوذ السوق السريع والاستحواذ الغلبة. وهذا جاء بالواو على أصله كما جاء استروح واستصوب. وفي الآية وجهان: الأول ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئًا من ذلك {ونمنعكم من المؤمنين} بأن ثبطناهم عنكم فهاتوا نصيبًا لنا مما أصبتم. الثاني أنّ أولئك الكفار كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام. ثم إنّ المنافقين نفروهم وأطعموهم أنه سيضعف أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويقوى أمركم. فالمراد ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وأرشدناكم إلى مصالحكم فادفعوا إلينا نصيبًا مما وجدتم. وفي تسمية ظفر المؤمنين فتحًا وظفر الكافرين نصيبًا تثبيت للمؤمنين وتعظيم لما هم عليه من الدين وتحقير لشأن الكافرين وتوهين لأمرهم، فكان ظفر المسلمين أمر عظيم يفتح له أبواب السماء حين ينزل على أولياء الله، وظفر الكافرين حظ دنيوي ينقضي ولا يبقى منه إلاّ الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة {فالله يحكم بينكم يوم القيامة} أي بين المؤمن والمنافق. والغرض أنه يقال: ما وضع السيف على المنافقين في الدنيا ولكن أخر عقابهم إلى يوم القيامة {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} قال علي وابن عباس: المراد في الدنيا ولكن بالحجة أي حجة المسلمين غالبة على حجة الكل. وقيل: في الآخرة. وقيل: عام في الكل. والشافعي بنى عليه مسائل منها: أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه إلى دار الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية.
ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدأً مسلمًا. ومنها أنّ المسلم لا يقتل بالذمي والله تعالى أعلم. اهـ.