فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِنَّ المنافقين في الدرك الأسفل مِنَ النار} أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل: جهنم، والثانية: لظى، والثالثة: الحطمة، والرابعة: السعير، والخامسة: سقر، والسادسة: الجحيم، والسابعة: الهاوية، وقد تسمى النار جميعًا باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها؛ وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض، والدرك كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وفي كون المنافق في الدرك الأسفل إشارة إلى شدّة عذابه.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل وإنما كان أشد عذابًا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاءًا بالإسلام وخداعًا لأهله، وأما ما روى في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد غدر، وإذا خاصم فجر» فقد قال المحدثون فيه: إنه مخصوص بزمانه صلى الله عليه وسلم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم، ولم يعينهم حذرًا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين، وقيل: ليس بمخصوص ولكنه مؤل بمن استحل ذلك، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص، وأطلق صلى الله عليه وسلم ذلك عليه تغليظًا وتهديدًا له، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه، أو هو منافق في أمور الدين عرفًا والمنافق في العرف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانًا وكفرًا، وكأنه مأخوذ من النافقاء، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلى الله عليه وسلم باقتضاء المقام، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع».
وقرأ الكوفيون. بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ، وزند وأزناد وكونه استغنى بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر، فلا يندفع به الترجيح والكلام مخرّج مخرج الحقيقة، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال: إن السلطان بلغ فلانًا الحضيض وفلانًا العرش، يريدون بذل انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة، ولايخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار، و{مِنَ النار} في محل النصب على الحال؛ وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنه. والعامل الاستقرار، والثاني: أنه الضمير المستتر في {الاسفل} لأنه صفة، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار.
{وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في الدرك الأسفل وكون المراد ولن تجد لهم نصيرًا في الدنيا لتكون الآية وصفًا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى، والخطاب لكل من يصلح له. اهـ.

.قال الخازن:

{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} يعني في الطبق في قعر جهنم والنار سبع دركات بعضها فوق بعض سميت طبقات جهنم دركات لأنها متداركة متتابعة.
وقيل الدرك بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم وقيل هي توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار.
فإن قلت لم كان المنافق أشد عذابًا من الكافر؟ قلت إن المنافق مثل الكافر في الكفر وزيادة وهو أنه ضم إلى كفره نوعًا آخر من الكفر أخبث منه وهو الاستهزاء بالإسلام والمسلمين وإفشاء أسرار المسلمين ونقلها إلى الكفار.
فلهذا السبب جعل الله عذاب المنافقين أشد عذابًا من الكفار والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر وقيل هو الذي يصف الإسلام بلسانه ولا يعمل بشرائعه ولا يتقيد بقيوده ولا يدخل تحت أحكامه وأما تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقًا فللتغليظ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام صلّى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» فإن هذه الخصال صفات المنافقين فمن فعلها فقد تشبه بالمنافقين.
وقوله تعالى: {ولن تجد لهم نصيرًا} يعني ولن تجد يا محمد لهؤلاء المنافقين ناصرًا ينصرهم من عذاب الله إذا نزل بهم. اهـ.

.قال ابن القيم:

النفاق نفاقان:
نفاق اعتقاد ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان». وفي الصحيح أيضا: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا ائتمن خان».
فهذا نفاق عمل قد يجتمع مع أصل الإيمان ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لايكون إلا منافقا خالصا، وكلام الإمام أحمد يدل على هذا فإن إسماعيل بن سعيد الشالنجي قال: سألت أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم، وهل يكون مصرا من كانت هذه حاله؟. قال: هو مصر، مثل قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام، ونحو قوله: «لا يشرب الخمر حين بشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن». ونحو قول ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. قال إسماعيل: فقلت: له ما هذا الكفر؟ قال: كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن هذه الآية فيها تغليظات عظيمة على المنافقين، وذلك لأنه تعالى شرط في إزالة العقاب عنهم أمورًا أربعة: أولها: التوبة، وثانيها: إصلاح العمل، فالتوبة عن القبيح، وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن، وثالثها: الاعتصام بالله، وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت، لأنه لو كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار لتغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعًا، أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله تعالى وسعادة الآخرة والاعتصام بدين الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها.
ورابعها: الإخلاص، والسبب فيه أنه تعالى أمرهم أولًا: بترك القبيح، وثانيًا: بفعل الحسن، وثالثًا: أن يكون غرضهم في ذلك الترك والفعل طلب مرضاة الله تعالى، ورابعًا: أن يكون ذلك الغرض وهو طلب مرضاة الله تعالى خالصًا وأن لا يمتزج به غرض آخر، فإذا حصلت هذه الشرائط الأربعة فعند ذلك قال: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين} ولم يقل فأولئك مؤمنون، ثم أوقع أجر المؤمنين في التشريف لإنضمام المنافقين إليهم، فقال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْرًا عَظِيمًا} وهذه القرائن دالة على أن حال المنافق شديد عند الله تعالى. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ}
استثناء ممن نافق.
ومِن شرط التائب من النفاق أن يصلح في قوله وفعله، ويعتصم بالله أي يجعله ملجأً ومَعاذا، ويُخلِص دينه لله؛ كما نصت عليه هذه الآية؛ وإلا فليس بتائب؛ ولهذا أوقع أجر المؤمنين في التسويف لانضمام المنافقين إليهم. والله أعلم.
روى البخاري عن الأسود قال: كنا في حَلْقة عبد الله فجاء حُذيفَة حتى قام علينا فسلّم ثم قال: لقد نزل النفاق على قوم خيرٍ منكم، قال الأسود: سبحان اللها إن الله تعالى يقول: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار}.
فتبسم عبدُالله وجلس حذيفة في ناحية المسجد؛ فقام عبد الله فتفرّق أصحابه فرماني بالحصى فأتيته.
فقال حذيفة: عجبت من ضحِكه وقد عرف ما قلت: لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرًا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم.
وقال الفرّاء: معنى {فأولئك مَعَ المؤمنين} أي من المؤمنين.
وقال القتبي: حاد عن كلامهم غضبًا عليهم فقال: {فأولئك مَعَ المؤمنين} ولم يقل: هم المؤمنون.
وحذفت الياء من {يُؤْتِ} في الخَطِّ كما حذفت في اللفظ؛ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله {يَوْمَ يُنَادِ المناد} [ق: 41] و{سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] و{يَوْمَ يَدْعُ الداع} [القمر: 6] حذفت الواوات لالتقاء الساكنين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين} أي تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم، وتمسكوا بالله وكتابه، ولم يكن لهم ملجأ ولا ملاذ إلا الله، وأخلصوا دينهم لله أي: لا يبتغون بعمل الطاعات إلا وجه الله تعالى.
ولما كان المنافق متصفًا بنقائص هذه الأوصاف من الكفر وفساد الأعمال والموالاة للكافرين والاعتزاز بهم والمراءاة للمؤمنين، شرط في توبتهم ما يناقض تلك الأوصاف وهي التوبة من النفاق، وهي الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى.
ثم فصل ما أجمل فيها، وهو الإصلاح للعمل المستأنف المقابل لفساد أعمالهم الماضية، ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لموالاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي، ثم الإخلاص لدين الله وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين، ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون، ولا من المؤمنين، وإن كانوا قد صاروا مؤمنين تنفيرًا مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق وتعظيمًا لحال من كان متلبسًا به.
ومعنى: مع المؤمنين، رفقاؤهم ومصاحبوهم في الدارين.
والذين تابوا مستثنى من قوله: {في الدرك}.
وقيل من قوله: فلن تجد لهم.
وقيل: هو مرفوع على الابتداء، والخبر فأولئك.
وقال الخوفي: ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط المتعلق بالذين.
{وسوف يؤت الله المؤمنين أجرًا عظيمًا} أتى بسوف، لأن إيتاء الأجر هو يوم القيامة، وهو زمان مستقبل ليس قريبًا من الزمان الحاضر.
وقد قالوا: إنّ سوف أبلغ في التنفيس من السين، ولم يعد الضمير عليهم فيقال: وسوف يؤتيهم، بل أخلص ذلك الأجر للمؤمنين وهم رفقاؤهم، فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِلاَّ الذين تَابُواْ} عن النفاق وهو استثناء من المنافقين، أو من ضميرهم في الخبر، (أو) من الضمير المجرور في لهم؛ وقيل: هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد الفاء؛ ودخلت لما في الكلام من معنى الشرط {وَأَصْلَحُواْ} ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق، وقيل: ثبتوا على التوبة في المستقبل، والأول أولى {واعتصموا بالله} أي تمسكوا بكتابه، أو وثقوا به {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس، ودفع الضرر كما في النفاق، وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روح الله من المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز (الصفة) وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة {مَعَ المؤمنين} أي المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلًا منذ آمنوا، والمراد أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة، أو معدودون من جملتهم في الدنيا والآخرة.
{وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْرًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود، والتعميم أولى، والمراد بالمؤمنين هاهنا ما أريد به فيما قبله، واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد، ولولا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر.
وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلًا، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه، والظاهر ما ذكرناه، ورسم {يُؤْتِ} بغير ياء، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظًا وخطًا إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وجاء الرسم تبعًا للفظ، والقراء يقفون عليه دونها اتباعًا للرسم إلا يعقوب فإنه يقف بالياء نظرًا إلى الأصل.
وروي ذلك أيضًا عن الكسائي وحمزة ونافع، وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها. اهـ.