فصل: من لطائف القشيري في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]
وبعد ذلك يتيح الحق لأقوام من المنافقين أن يعدلوا رأيهم في المسألة وأن يعلنوا إيمانهم وأن يتوبوا عما فعلوه- أتاح لهم أن يراجعوا أنفسهم ويحاسبوها فلم يغلق الباب دونهم بل قال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
إذن فمن الممكن أن توجد فتحة خير قد تدفع الإنسان إلى التوبة، وحتى لا يظن أحد أن الحكم هنا نهائي، وذلك حتى لا يفقد الإنسان نفسه ويتورط في مزيد من الشرور؛ لذلك قال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} أي تاب عن نفاقه الأول، وإذا ما كان قد ترتب على نفاقه السابق إفساد فلابد أن يصلح ما أفسده ويعتصم بالله ويُخْلِص لله نيّةً وعملًا. {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ}. إذن فشروط النجاة من الدرك الأسفل من النار هي التوبة، وإصلاح ما أفسد، والاعتصام بالله، وإخلاص دينه لله.
والتوبة هنا إقلاع عن النفاق، وألا يترك المنافق الفساد الذي صنعه نفاقه بل عليه أن يحاول جاهدًا أن يصلح ما أفسده بهذا النفاق. والاعتصام بالله كيف يكون؟
لقد عرفنا من قبل أنهم كانوا يفعلون ذلك لابتغاء العزة عند الكافرين.. أي أن نفس المنافق تطمئن إلى هؤلاء الكافرين فيفزع إليهم ويعتز بشدتهم وبصلابتهم؛ لذلك يوضح الله: تنزعوا هذه الفكرة من رءوسكم وليكن اعتصامكم بالله وحده لأنه لا يُجِير أحد على الله، واجعلوا العزة والمرجع إليه وحده.
والملاحظ أن الذي يتوب ويصلح ويعتصم بالله يكون قد استوفى أركان اليقين الإيماني بالله، لكن الحق يقول: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} فلماذا أكد على الإخلاص هنا؟ لأن تدبير النفاق كان ينبع من قلوبهم أولا. ونعلم أن القلب قد يذنب، فذنب الجارحة أن تعتدي، مثال ذلك العين تذنب حين تعتدي على محارم الآخرين، واللسان يذنب إن تعرض بالسب أو الشتم للناس. إذن. فكل جارحة لها مجال معصية، وهنا مجال معصية القلب هو النفاق وهو الأمر المستور. إذن فقوله الحق: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} جاء ليؤكد ضرورة الإخلاص في التوبة عن النفاق، والإخلاص محله القلب.
فكأن توبة القلوب غير توبة الجوارح، فتوبة الجوارح تكون بأن تكف الجوارح عن مجال معاصيها. أما توبة القلب فهو أن يكف عن مجال نفاقه بأن يخلص. وبذلك أثبت الحق مزية المؤمنين الذين لم ينغمسوا في النفاق. وجعل التائبين من المنافقين مع المؤمنين، فكأن الأصل في التنعيم وفي نيل الجزاء العظيم هو الوجود مع المؤمنين. {فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
ومن هنا نعلم أن الأجر العظيم يكون للمؤمنين. ومن يوجد مع المؤمنين ينال الأجر نفسه. وقد جعل الحق الجزاء من جنس العمل. وكان المنافقون ينافقون ليأخذوا من المؤمنين ظواهر الإسلام كصون المال والدماء وليعتبرهم الجميع ظاهريا وشكليا من المسلمين، وهم حين نافقوا المسلمين أعطاهم المسلمون ما عندهم. وعندما تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا الدين لله جعلهم الله مع المؤمنين، ويعطي سبحانه لأهل الإيمان أجرًا عظيمًا. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآيتين:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ}
دلَّت الآية على أنَّ المنافق ليس بمُسْتأمنٍ لأنَّ الإيمان ما يوجب الأمان، فالمؤمن يتخلَّص بإيمانه من النار، فما يكون سبب وقوعه في الدرك الأسفل من النار لا يكون إيمانًا، ويقال هذا تحقيق قوله: {وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [آل عمران: 54، والأنفال: 30] أي مَكْرُه فوق كل مَكْرٍ. لمَّا أظهر المنافق ما هو مكر مع المؤمنين كانت عقوبتهم أشد من عقوبة من جاهر بكفره.
ويقال نقلهم في آجلهم إلى أشد ما هم عليه في عاجلهم، لِمَا في الخبر: من كان بحالةٍ لقي الله بها فالمنافق- اليومَ- في الدرك- الأسفل من الحجر- فكذلك ينقلون إلى الدرك الأسفل من النار. والدرك الأسفل من الحجر- اليوم- لهم ما عليهم من اسم الإيمان وليس لهم من الله شظية وهذا هو البلاء الأكبر.
ويقال استوجبوا الدرك الأسفل من النار لأنهم صحبوا اليوم اسم الله الأعظم لا على طريقة الحرمة. ويقال استوجبوا ذلك لأنهم أساءوا الأدب في حال حضورهم بألسنتهم، وسوءُ الأدبِ يوجِبُ الطردَ.
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ}
لم يشترط كل هذه الشرائط في رجوع أحدٍ عن جُرْمِه ما اشترط في رجوع المنافقين عن نفاقهم لصعوبة حالهم في كفرهم. وبعد تحصيلهم هذه الشروط قال لهم: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} ولم يقل من المؤمنين، وفي هذا إشارة أيضًا إلى نقصان رتبتهم وإن تداركوا بإخلاصهم ما سبق من آفتهم، وفي معناه أنشدوا:
والعُذر مبسوطٌ ولكنما ** شتان بين العذر والشكر

ويقال إن حرف (مع) للمصاحبة، فإذا كانوا مع المؤمنين استوجبوا ما يستوجب جماعة المؤمنين، فالتوبة هاهنا أي رجعوا عن نفاقهم، وأصلحوا- بصدقهم في إيمانهم، واعتصموا بالله بالتبرؤ من حولهم وقوتهم، وشاهدوا المِنَّة لله عليهم حيث هداهم، وعن نفاقهم نجَّاهم.
قوله: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ}: ونجاتهم بفضل ربهم لا بإيمانهم في الحال، ورجوعهم عن نفاقهم فيما مضى عليهم من الأحوال.
ويقال أخلصوا دينهم لله وهو دوام الاستعانة بالله في أن يثبتهم على الإيمان، ويعصمهم عن الرجوع إلى ما كانوا عليه من النفاق.
ويُقال: تابوا عن النفاق، وأصلحوا بالإخلاص في الاعتقاد، واعتصموا بالله باستدعاء التوفيق وأخلصوا دينهم لله في أن نجاتهم بفضل الله ولطفه لا بإتيانهم بهذه الأشياء- في التحقيق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
الدَّرْك: قرأ الكوفيُّون- بخلاف عن عاصمٍ- بسكون الراء، والباقون بفتحها، وفي ذلك قولان:
أحدهما: أنَّ الدَّرْك والدَّرَكِ لغتان بمعنى واحدٍ، كالشَّمْعِ، والقَدْرِ والقَدَرِ.
والثاني: أن الدَّرَكَ بالفتح جمعُ دَرَكَة على حدِّ بَقَر وبَقَرة.
وقال أبو حاتم: جَمْع الدَّرْكِ: أدْرَاك؛ مثل حَمْل وأحْمَال، وفَرْس وأفراس وجمع الدرك: أدْرُك؛ مثل أفْلُس وأكْلُب.
واختار أبو عُبيد الفتح، قال: لأنه لم يَجِئْ في الآثار ذكرُ {الدَّرَك} إلا بالفتح، وهذا غيرُ لازمٍ مجيء الأحاديثِ بإحدى اللغتين، واختار بعضهم الفتح؛ لجمعه علَى أفعال قال الزمخشريُّ: والوجهُ التحريكُ؛ لقولهم: أدْرَاكُ جَهَنَّمَ، يعني أنَّ أفْعَالًا منقاسٌ في فَعَلٍ بالفتحِ، دونَ فَعْل بالسكون، على أنه قد جاء أفعالٌ في فعْلٍ بالسكون؛ نحو: فَرْخٍ وأفراخ، وزنْدٍ وأزنَادٍ، وفَرْدٍ وأفْرَادٍ، وقال أبو عبد الله الفاسيُّ في شرحِ القصيدِ: وقال غيرُه- يعني غيرَ عاصم-؛ محتجًا لقراءة الفتحِ؛ قولهم في جمعه: أدْرَاك يدُلُّ على أنه دَرَكٌ بالفتح، ولا يلزمُ ما قال أيضًا؛ لأن فعلًا بالتحريك قد جُمِعَ فعلٌ بالسكون على أفعالٍ نحو: فَرْخٍ وأفْرَاخٍ، كما ذكرته لك، وحُكِيَ عن عاصم أنه قال: لو كان الدَّرَكُ بالفتح، لكان ينبغي أن يقال السُّفْلى لا الأسفل قال بعض النحويِّين: يعني أنَّ الدَّرَك بالفتح جمع دَرَكَة؛ كبَقَرٍ جمع بقَرَةٍ، والجمعُ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة، وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ اسم الجنس الفارقُ بين واحده وجمعه تاءُ التأنيث يجوز تذكيرُه وتأنيثه، إلا ما استُثني وجوبُ تذكيره أو تأنيثه، والدَّرَكُ ليس منه، فيجوزُ فيه الوجهان، هذا بعد تسليم كون الدَّرْكِ جمع دَرَكَةٍ بالسكون كما تقدم، والدَّرَكُ مأخوذٌ من المُداركة، وهي المتابعةُ، وسُمِّيَتْ طبقاتُ النارِ دَرَكَاتٍ؛ لأنَّ بعضها مَدَارِكُ لبعض، أي: متتابعة.
قوله: {من النَّارِ} في محلَّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه {الدَّرْك}، والعامل فيها الاستقرار.
والثاني: أنه الضميرُ المستتر في {الأسْفَل}؛ لأنه صفةُ، فيتحمل ضميرًا.
قال الليث: الدَّرْكُ أقْصَى قعْر الشيء؛ كالبَحْر ونحوه، فعلى هذا المُرَاد بالدَّرْكِ الأسْفَل: أقْصَى قعر جَهَنَّم، وأصْلُ هذا من الإدْرَاكِ بمعنى اللُّحُوق، ومنه إدراكُ الطَّعَام وإدْراكُ الغُلاَمِ، قال الضحاك: الدَّرج إذا كان بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ، والدَّرك إذا كانَ بعضها أسْفَل مِنْ بَعْضٍ.
قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ}: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه منصوبٌ على الاستثناء من قوله: {إِنَّ المُنَافِقِينَ}.
الثاني: أنه مستثنىً من الضمير المجْرُورِ في لَهُمْ.
الثالث: أنه مبتدأ، وخبرُه الجملةُ من قوله: {فأولئك مَعَ المؤمنين}، قيل: ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ؛ لشبه المبتدأ باسم الشرط، قال أبو البقاء ومكي وغيرُهما: {مَعَ المُؤمنينَ} خبرُ {أولَئِكَ}، والجملةُ خبر {إِلاَّ الَّذِينَ}، والتقدير: فأولئك مؤمنون مع المُؤمِنِينَ، وهذا التقديرُ لا تقتضيه الصناعةُ، بل الذي تقتضيه الصناعةُ: أن يُقَدَّر الخبرُ الذي يتعلَّق به هذا الظرف شيئًا يليقُ به، وهو فأولئِكَ مُصَاحِبُونَ أو كائِنونَ أو مستقرُّون ونحوه، فتقدِّرُه كونًا مطلقًا، أو ما يقاربه.
قوله: {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْرًا عَظِيمًا} رُسِمَتْ {يُؤتِ} دون يَاءٍ وهو مضارعٌ مرفوع، فحقُّ يائه أن تثبت لفظًا وخَطًّا، إلا أنها حذفتْ لفظًا في الوصل؛ لالتقاء الساكنين وهما اليَاءُ في اللفظ واللام في الجلالة فجاءُ الرسمُ تابعًا للفظ، وله نظائرُ تقدَّم بعضها، والقراءُ يقفون عليه دون ياءٍ اتِّباعًا للرسْمِ، إلا يعقوب، فإنه يقف بالياء؛ نظرًا إلى الأصل، ورُوي ذلك أيضًا عن الكسَائيِّ وحمزة، وقال أبو عَمْرو: ينبغي ألاَّ يُوقفَ عليها؛ لأنَّه إنْ وُقِفَ عليها كما في الرسْمِ دون ياء خالَفَ النحويين، وإن وقف بالياء خالَفَ رسْم المصْحَف، ولا بأسَ بما قالَ؛ لأن الوقْفَ ليس ضروريًّا، فإن اضْطُرَّ إليه واقفٌ؛ لقَطْعِ نفس ونحوه، فينبغي أن يُتابعَ الرسمُ؛ لأنَّ الأطرافَ قد كَثُر حَذفُهَا، ومِمَّا يشبه هذا الموضع قوله: {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ} [غافر: 9] فإنه رسم تَقِ بقافٍ، دون هاءِ سكت، وعند النحويين: أنه أنه إذا حُذِفَ من الفعل شيءٌ؛ حتى لم يَبْقَ منه إلا حرفٌ واحدٌ، ووُقِفَ عليه، وجَبَ الإتيانُ بهاء السكت في آخره؛ جَبْرًا له؛ نحو: قِهْ ولَمْ يَقِهْ وعِهْ ولَمْ يَعِهْ، ولا يُعتَدُّ بحرف المضارعة؛ لزيادته على بنية الكلمة، فإذا تقرَّر هذا، فنقول: ينبغي ألاَّ يُوقَفَ عليه؛ لأنه إن وُقِفَ بغير هاءِ سكتٍ، خالف الصناعةَ النحويةَ، وإنْ وُقِفَ بهاء خالف رَسْمَ المُصْحف.
والمراد: {يؤتي الله المؤمنين} في الآخِرَةِ، {أَجْرًا عَظِيمًا} [يعني: الجَنَّة]. اهـ. بتصرف يسير.

.تفسير الآية رقم (147):

قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان معنى الاستثناء أنه لا يعذبهم، وأنهم يجدون الشفيع بإذنه؛ قال مؤكدًا لذلك على وجه الاستنتاج منكرًا على من ظن أنه لا يقبلهم بعد الإغراق في المهالك: {ما يفعل الله} أي وهو المتصف بصفات الكمال التي منها الغنى المطلق {بعذابكم} أي أيها الناس، فإنه لا يجلب له نفعًا ولا يدفع عنه ضرًا.
ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا قال: {إن شكرتم} أي نعمه التي من أعظمها إنزال الكتاب الهادي إلى الرشاد، المنقذ من كل ضلال، المبين لجميع ما يحتاج إليه العباد، فأداكم التفكر في حالها إلى معرفة مسديها، فأذعنتم له وهرعتم إلى طاعته بالإخلاص في عبادته وأبعدتم عن معصيته.
ولما كان الشكر هو الحامل على الإيمان قدمه عليه، ولما كان لا يقبل إلا به قال: {وآمنتم} أي به إيمانًا خالصًا موافقًا فيه القلب ما أظهره اللسان؛ ولما كان معنى الإنكار أنه لا يعذبكم، بل يشكر ذلك قال عاطفًا عليه: {وكان الله} أي ذو الجلال والإكرام أزلًا وأبدًا {شاكرًا} لمن شكره بإثابته على طاعته فوق ما يستحقه {عليمًا} بمن عمل له شيئًا وإن دق، لا يجوز عليه سهو ولا غلط ولا اشتباه. اهـ.