فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق. وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل. مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون.. {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا}.
ثم يمضي السياق بعد هذا الوعد القاطع المطمئن للمؤمنين، المخذّل للمنافقين الذين يتولون الكافرين يبتغون عندهم العزة.. يمضي فيرسم صورة زرية أخرى للمنافقين، مصحوبة بالتهوين من شأنهم، وبوعيد الله لهم:
{إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلًا. مذبذبين بين ذلك. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا}.
وهذه لمسة أخرى من لمسات المنهج للقلوب المؤمنة. فإن هذه القلوب لابد أن تشمئز من قوم يخادعون الله. فإن هذه القلوب تعرف أن الله سبحانه- لا يخدع- وهو يعلم السر وأخفى وهي تدرك أن الذي يحاول أن يخدع الله لابد أن تكون نفسه محتوية على قدر من السوء ومن الجهل ومن الغفلة كبير. ومن ثم تشمئز وتحتقر وتستصغر كذلك هؤلاء المخادعين!
ويقرر عقب هذه اللمسة أنهم يخادعون الله {وهو خادعهم}.. أي مستدرجهم وتاركهم في غيهم؛ لا يقرعهم بمصيبة تنبههم؛ ولا يوقظهم بقارعة تفتح عيونهم.. تاركهم يمضون في طريق الهاوية حتى يسقطوا.. وذلك هو خداع الله سبحانه لهم.. فالقوارع والمحن كثيرًا ما تكون رحمة من الله، حين تصيب العباد، فتردهم سريعًا عن الخطأ؛ أو تعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.. وكثيرًا ما تكون العافية والنعمة استدراجًا من الله للمذنبين الغاوين؛ لأنهم بلغوا من الإثم والغواية ما يستحقون معه أن يتركوا بلا قارعة ولا نذير؛ حتى ينتهوا إلى شر مصير.
ثم يستمر السياق يرسم لهم صورًا زرية شائنة؛ لا تثير في قلوب المؤمنين إلا الاشمئزاز والاحتقار:
{وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس. ولا يذكرون الله إلا قليلًا} فهم لا يقومون إلى الصلاة بحرارة الشوق إلى لقاء الله، والوقوف بين يديه، والاتصال به، والاستمداد منه.. إنما هم يقومون يراءون الناس. ومن ثم يقومون كسالى، كالذي يؤدي عملًا ثقيلًا؛ أو يسخر سخرة شاقة! وكذلك هم لا يذكرون الله إلا قليلًا.
فهم لا يتذكرون الله إنما يتذكرون الناس! وهم لا يتوجهون إلى الله إنما هم يراءون الناس.
وهي صورة كريهة- ولا شك- في حس المؤمنين. تثير في نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز، ومن شأن هذا الشعور أن يباعد بينهم وبين المنافقين؛ وأن يوهن العلائق الشخصية والمصلحية.. وهي مراحل في المنهج التربوي الحكيم؛ للبت بين المؤمنين والمنافقين!
ويستمر السياق في رسم الصور الزرية المنفرة:
{مذبذبين بين ذلك. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا}.
وموقف الذبذبة، والأرجحة، والاهتزاز، وعدم الاستقرار والثبات في أحد الصفين: الصف المؤمن أو الصف الكافر.. موقف لا يثير إلا الاحتقار والاشمئزاز كذلك في نفوس المؤمنين. كما أنه يوحي بضعف المنافقين الذاتي. هذا الضعف الذي يجعلهم غير قادرين على اتخاذ موقف حاسم هنا أو هناك.. ولا على المصارحة برأي وعقيدة وموقف.. مع هؤلاء أو هؤلاء.
ويعقب على هذه الصور الزرية، وهذه المواقف المهزوزة، بأنهم قد حقت عليهم كلمة الله؛ واستحقوا ألا يعينهم في الهداية؛ ومن ثم فلن يستطيع أحد أن يهديهم سبيلًا. ولا أن يجد لهم طريقًا مستقيمًا:
{ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا}.
وإلى هنا يكون السياق قد بلغ من إثارة الاشمئزاز والاحتقار والاستضعاف للمنافقين في نفوس المؤمنين مبلغًا عظيمًا.. فيلتفت بالخطاب للمؤمنين محذرًا إياهم أن يسلكوا طريق هؤلاء المنافقين.. وطريق المنافقين- كما سبق- هو اتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين. ويحذرهم بطش الله ونقمته، كما يصور لهم مصير المنافقين في الآخرة. وهو مصير مفزع رعيب، مهين كذلك ذليل:
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. ولن تجد لهم نصيرًا. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله. فأولئك مع المؤمنين. وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا}.
إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا، بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم. والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم. والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات.
نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين، ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين.. وهو نداء لابد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك. حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة؛ وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش- ولو من الناحية النفسية- ونقول بعض المسلمين لأن هناك البعض الآخر؛ الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي- حتى مع الآباء والأبناء- وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم؛ كما علمهم الله.
وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين- بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة- وتحذيره من التعرض لغضب الله وبطشه ونقمته:
{أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا}
ولا يفرَق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقه وارتجافه من التعرض لبطش الله ونقمته.. ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام.. ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين!
وطرقة أخرى عالية على هذه القلوب. غير موجهة إليها مباشرة. ولكن عن طريق التلويح.. طرقة تقرر المصير الرعيب المفزع المهين للمنافقين:
{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار. ولن تجد لهم نصيرًا}.
في الدرك الأسفل.. إنه مصير يتفق مع ثقلة الأرض التي تلصقهم بالتراب، فلا ينطلقون ولا يرتفعون، ثقلة المطامع والرغائب، والحرص والحذر، والضعف والخور! الثقلة التي تهبط بهم إلى موالاة الكافرين ومداراة المؤمنين. والوقوف في الحياة ذلك الموقف المهين: {مذبذبين بين ذلك. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}.
فهم كانوا في الحياة الدنيا يزاولون تهيئة أنفسهم وإعدادها لذلك المصير المهين في... بلا أعوان هنالك ولا أنصار.. وهم كانوا يوالون الكفار في الدنيا، فأنى ينصرهم الكفار؟
ثم يفتح لهم- بعد هذا المشهد المفزع- باب النجاة.. باب التوبة لمن أراد النجاة:
{إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخصلوا دينهم لله. فأولئك مع المؤمنين. وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا}.
وفي مواضع أخرى كان يكتفي بأن يقول: {إلا الذين تابوا وأصلحوا}.. فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام بالله، وإخلاص الدين لله، ولكنه هنا ينص على الاعتصام بالله، وإخلاص الدين لله. لأنه يواجه نفوسًا تذبذبت، ونافقت، وتولت غير الله. فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح، على التجرد لله، والاعتصام به وحده؛ وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة، وتلك الأخلاق المخلخلة.. ليكون في الاعتصام بالله وحده قوة وتماسك، وفي الإخلاص لله وحده خلوص وتجرد.
بذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض، وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار.
وبذلك يرتفع التائبون منهم إلى مصاف المؤمنين؛ المعتزين بعزة الله وحده. المستعلين بالإيمان. المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان.. وجزاء المؤمنين- ومن معهم- معروف:
{وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا}.
وبهذه اللمسات المنوعة، يكشف حقيقة المنافقين في المجتمع المسلم، ويقلل من شأنهم؛ وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق، ويحذرهم مصيره. ويفتح باب التوبة للمنافقين؛ ليحاول من فيه منهم خير، أن يخلص نفسه، وينضم إلى الصف المسلم في صدق وفي حرارة وفي إخلاص.
وأخيرًا تجيء تلك اللمسة العجيبة، الموحية المؤثرة العميقة.. أخيرًا بعد ذكر العقاب المفزع، والأجر العظيم.
لتشعر قلوب البشر أن الله في غنى عن عذاب العباد. فما به سبحانه من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب. وما به سبحانه من حاجة لإظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق. وما به سبحانه من رغبة ذاتية في عذاب الناس. كما تحفل أساطير الوثنية كلها بمثل هذه التصورات.. وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله.. مع تحبيبهم في الإيمان والشكر لله. وهو الذي يشكر صالح العمل ويعلم خبايا النفوس:
{ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا}.
نعم! ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ إن عذابه لجزاء على الجحود والكفران؛ وتهديد لعله يقود إلى الشكر والإيمان.. إنها ليست شهوة التعذيب، ولا رغبة التنكيل؛ ولا التذاذ الآلام، ولا إظهار البطش والسلطان.. تعالى الله عن ذلك كله علوًا كبيرًا.. فمتى اتقيتم بالشكر والإيمان؛ فهنالك الغفران والرضوان. وهناك شكر الله سبحانه لعبده. وعلمه سبحانه بعبده.
وشكر الله سبحانه للعبد، يلمس القلب لمسة رفيقة عميقة.. إنه معلوم أن الشكر من الله سبحانه معناه الرضى، ومعناه ما يلازم الرضى من الثواب.. ولكن التعبير بأن الله سبحانه شاكر.. تعبير عميق الإيحاء!
وإذا كان الخالق المنشئ، المنعم المتفضل، الغني عن العالمين.. يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وامتنانهم.. وهو غني عنهم وعن إيمانهم وعن شكرهم وامتنانهم.. إذا كان الخالق المنشئ، المنعم المتفضل، الغني عن العالمين يشكر.. فماذا ينبغي للعباد المخلوقين المحدثين؛ المغمورين بنعمة الله.. تجاه الخالق الرازق المنعم المتفضل الكريم؟!
ألا إنها اللمسة الرفيقة العميقة التي ينتفض لها القلب ويخجل ويستجيب.
ألا إنها الإشارة المنيرة إلى معالم الطريق.. الطريق إلى الله الواهب المنعم، الشاكر العليم.
وبعد.. فهذا جزء واحد، من ثلاثين جزءًا، من هذا القرآن.. يضم جناحيه على مثل هذا الحشد العجيب من عمليات البناء والترميم؛ والتنظيف والتقويم. وينشئ في عالم النفس، وفي واقع المجتمع، وفي نظام الحياة، ذلك البناء الضخم المنسق العريض. ويعلن مولد الإنسان الجديد؛ الذي لا تعرف له البشرية من قبل ولا من بعد مثيلًا ولا شبيهًا، في مثاليته وواقعيته. وفي نظافته وتطهره، مع مزاولة نشاطه الإنساني في شتى الميادين.. هذا الإنسان الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية، ودرج به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة. في يسر. وفي رفق وفي لين.. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
هذه الآية من الآيات التي توجب حُسْنَ الرجاء وقوة الأمل، لأنه جعل من أمارات الأمان من العقوبات شيئين اثنين: الشكر والإيمان، وهما خصلتان يسيرتان خفيفتان؛ فإن الشكر قالة، والإيمان حالة، ولقد هوَّن السبيل على العبد حين رضي منه بقالته وحالته. والشكر لا يصح إلا من المؤمنين فأمَّا الكافر فلا يصح منه الشكر؛ لأن الشكر طاعته والطاعة لا تصح من غير المؤمن.
وقوله: {وَآمَنتُمْ} يعني في المآل؛ فكأنه بيَّن ان النجاة إنما تكون لمن كانت عاقبته على الإيمان، فمعنى الآية لا يعذبكم الله عذاب التخليد، إن شكرتم في الحال وآمنتم في المآل.
ويقال: إن شكرتم وآمنتم صدقتم بأن نجاتكم بالله لا بشكركم وبإيمانكم.
ويقال الشكر شهود النعمة من الله والإيمان رؤية الله في النعمة، فكأنه قال: إن شاهدتم النعمة من الله فلا يقطعنَّكم شهودها عن شهود المُنْعِم.
وقوله: {وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} أي والله شاكر عليم، ومعنى كونه شاكرًا أنه مادِحٌ للعبد ومُشْهِدٌ عليه فيما يفعله لأن حقيقة الشكر وحَدَّه الثناء على المُحْسِن بذكر إحسانه؛ فالعبد يشكر الله أي يثني عليه بذكر إحسانه إليه الذي هو نعمته عليه، والربُّ يشكر للعبد أن يثني عليه بذكر إحسانه الذي هو طاعته له، فإن الله يثني عليه بما يفعله من الطاعة مع علمه بأن له ذنوبًا كثيرة.
ويقال يشكره- وإنْ عِلِمَ أنه سيرجع في المستأنف إلى قبيح أعماله.
ويقال يشكره لأنه يعلم ضعفه، ويقال يشكره لأنه يعلم أنه لا يعصي وقَصْدُه مخالفةُ ربِّه ولكنه يُذْنِبُ لاستيلاء أحوال البشرية عليه من شهوات غالبة.
ويقال يشكره لأن العبد يعلم في حالة ذنوبه أنه له ربًّا يغفر له. اهـ.