فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعُمَرَ بِحَضْرَةِ أَهْلِ الشُّورَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حُكُومَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُهَا لِنَفْسِهِ حَتَّى أَنْفَذَ فِيهَا عَلَيْهِمْ عُمَرُ لِلْوَاجِبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا اسْتَوَتْ الْمَنَازِلُ أَوْ تَقَارَبَتْ؛ فَأَمَّا إذَا تَفَاوَتَتْ فَلَا تُمَكَّنُ الْغَوْغَاءُ مِنْ أَنْ تَسْتَطِيلَ عَلَى الْفُضَلَاءِ، وَإِنَّمَا تَطْلُبُ حَقَّهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِظُلْمٍ وَلَا غَضَبٍ؛ وَهَذَا صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآثَارُ.
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ»، بِأَنْ يَقُولَ مَطَلَنِي، وَعُقُوبَتُهُ بِأَنْ يُحْبَسَ لَهُ حَتَّى يُنْصِفَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَإِنْ صَبَرَ وَغَفَرَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ؛ وَصِفَةُ دُعَائِهِ عَلَى الظَّالِمِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعْنِي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ حَقِّي مِنْهُ، اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ مَنْ يَدْعُو عَلَى سَارِقٍ سَرَقَهُ، فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي عَنْهُ، أَيْ لَا تُخَفِّفْ عَنْهُ بِدُعَائِك، وَهَذَا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ كَافِرًا فَأُرْسِلْ لِسَانَك وَادْعُ بِالْهَلَكَةِ، وَبِكُلِّ دُعَاءٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّصْرِيحِ عَلَى الْكُفَّارِ بِالدُّعَاءِ وَتَعْيِينِهِمْ وَتَسْمِيَتِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ دَعَا عَلَيْهِ جَهْرًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِرْضٌ مُحْتَرَمٌ، وَلَا بَدَنٌ مُحْتَرَمٌ، وَلَا مَالٌ مُحْتَرَمٌ.
وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَنْ ظُلِمَ}: قُرِئَ بِفَتْحِ الظَّاءِ، وَقُرِئَ بِضَمِّهَا، وَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى: لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ مَنْ رَفْعًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَحَدٍ.
التَّقْدِيرُ: لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ ظُلِمَ.
وَاَلَّذِي قَرَأَهَا بِالْفَتْحِ هُوَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ أَغْفَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الْآيَةِ تَقْدِيرَهَا وَإِعْرَابَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ.
وَاخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ لابد فِيهَا مِنْ حَذْفٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ فِي فَاتِحَةِ الْآيَةِ لِيَأْتِيَ الِاسْتِثْنَاءُ مُرَكَّبًا عَلَى مَعْنًى مُقَدَّرٍ خَيْرٌ مِنْ تَقْدِيرِهِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ فَنَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ ظُلِمَ بِضَمِّ الظَّاءِ.
أَوْ نَقُولُ مُقَدَّرًا لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ ظُلِمَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَقُولَ تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ بِضَمِّ الظَّاءِ فَإِنَّهُ كَذَا.
أَوْ مَنْ ظُلِمَ فَإِنَّهُ كَذَا، التَّقْدِيرُ أَبْعَدُ مِنْهُ وَأَضْعَفُ، كَمَا قَدَّرَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ تَقْدِيرًا انْتَظَمَ بِهِ الْكَلَامُ وَاتَّسَقَ بِهِ الْمَعْنَى؛ قَالُوا: تَقْدِيرُ الْآيَةِ إنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، لَكِنْ يَخَافُ الظَّالِمُونَ، إلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول...} الآية. قال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلومًا، فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه، وإن يصبر فهو خير له.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن في الآية قال: هو الرجل يظلم فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج لي حقي حل بينه وبين ما يريد ونحو هذا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: عذر الله المظلوم كما تسمعون أن يدعو.
وأخرج أبو داود عن عائشة أنها سرق لها شيء، فجعلت تدعو عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبخي عنه بدعائك».
وأخرج الترمذي عنها. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا على من ظلمه فقد انتصر».
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال: نزلت في رجل ضاف رجلًا بفلاة من الأرض، فلم يضفه، فنزلت {إلا من ظلم} ذكر أنه لم يضفه لا يزيد على ذلك.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج من عنده فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن.
وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية يقول: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول من أحد من الخلق، ولكن يقول: من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كان أبي يقرأ {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} قال ابن زيد: يقول: من قام على ذلك النفاق فجهر له بالسوء حتى نزع.
وأخرج ابن المنذر عن إسماعيل {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} قال: كان الضحاك بن مزاحم يقول: هذا في التقديم والتأخير يقول الله: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [النساء: 147] {إلا من ظلم} وكان يقرأها كذلك، ثم قال: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول} أي على كل حال. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {بالسُّوء} متعلق بـ {الجَهْر}، وهو مصدر معرف بأل استدلَّ به الفارسيُّ على جواز إعمالِ المصدر المعرَّف بأل.
قيل: ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ الظرفَ والجارَّ يعمل فيهما روائحُ الأفعال، وفاعل هذا المصدر محذوفٌ، أي: الجَهْر أحد، وقد تقدم أن الفاعل يَطَّردُ حذفُه في صُورٍ منها المصْدرُ، ويجوز أن يكون الجهرُ مأخوذًا من فعلٍ مبنيٍّ للمفعول على خلافٍ في ذلك، فيكون الجارُّ بعده في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل؛ لأنك لو قلْتَ: لا يحبُّ الله أن يُجْهَرَ بالسوء، كان {بِالسُّوءِ} قائمًا مقام الفاعل، ولا تعلُّقَ له حينئذٍ به، و{مِنَ القَوْلِ} حال من السُّوء.
قوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} في هذا الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه متصل.
والثاني: أنه منقطع، وإذا قيل بأنه متصل، فقيل: هو مستثنى من أحد المقدَّرِ الذي هو فاعلٌ للمصدر، فيجوز أن تكون مَنْ في محلِّ نصبٍ على أصل الاستثناء، أو رفعٍ على البدل من أحد، وهو المختار، ولو صُرِّح به، لقيل: لا يُحِبُّ الله أنْ يَجْهَرُ أحَدٌ بالسُّوء إلا المَظْلومُ، أو المظلومَ رفعًا ونصبًا، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء وغيرُهما، قال أبو حيان: وهذا مذهبُ الفراء، أجاز في مَا قَامَ إلاَّ زيدٌ أن يكون زَيْد بدلًا من أحد، وأمَّا على مذهب الجمهور، فإنه يكون من المستثنى الذي فُرِّغ له العاملُ، فيكون مرفوعًا على الفاعليَّة بالمصدر، وحسَّن ذلك كونُ الجَهْر في حيِّز النفي، كأنه قيل: لا يَجْهَرُ بالسُّوءِ من القولِ إلا المظلومُ انتهى، والفرقُ ظاهرٌ بين مذهب الفراء وبين هذه الآية؛ فإن النحويِّين إنما لم يَرَوْا بمذهب الفراءِ، قالوا: لأن المحذوف صار نَسْيًا مَنْسِيًّا، وأما فاعل المصْدر هنا، فإنه كالمنطوقِ به ليس منسيًا، فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعل المقدَّر أن يكونوا تابعين لمذْهَب الفرَّاء؛ لما ظهر من الفرق، وقيل: هو مستثنى مفرَّغٌ، فتكون مَنْ في محلِّ رفع بالفاعلية؛ كما تقدَّم في كلام أبي حيان، والتفريغُ لا يكون إلا في نفي أو شبهه، ولكنْ لَمَّا وقع الجهْرُ متعلَّقًا للحُبِّ الواقعِ في حيِّز النفْي ساغ ذلك، وقيل: هو مستثنىً من الجَهْر؛ على حذف مضافٍ، تقديرُه: إلا جَهْرَ من ظُلِمَ، فهذه ثلاثة أوجه على تقدير كونه متَّصِلًا، تحصَّل منها في محل مَنْ أربعةُ أوجه: الرفع من وجهين، وهما البدلُ من أحد المقدَّر، أو الفاعليَّة؛ على كونه مفرَّغًا، والنصبُ؛ على أصلِ الاستثناء من أحد المقدَّر، أو من الجهر؛ على حَذْفِ مضاف.
والثاني: أنه استثناءٌ منقطعٌ، تقديرُه: لكنْ مَنْ ظُلِمَ له أن ينتصفَ من ظالمه بما يوازِي ظُلامته، فتكون مَنْ في محلِّ نصب فقط على الاستثناء المنقطع.
والجمهورُ على {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} مبنيًا للمفعول قال القرطبي: ويجوز إسْكان اللاَّم، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عبَّاس وابن عمر وابن جبير والضحاك وزيد بن أسلم والحسن: ظَلَمَ مبنيًّا للفاعل، وهو استثناء منقطعٌ، فهو في محلِّ نصب على أصْل الاستثناء المنقطع، واختلفتْ عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء، وحاصلُ ذلك يرجعُ إلى أحد تقديرات ثلاثة: إمَّا أن يكون راجعًا إلى [الجملة الأولى؛ كأنه قيل: لا يحبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بالسوء، لكنَّ الظالمَ يُحِبُّهُ، فهو يَفعلُهُ، وإما أنْ يكون راجعًا] إلى فاعل الجَهْر، أي: لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ أحدٌ بالسُّوء [لأحَدٍ]، لكن الظالِمَ يَجْهَرُ به، [وإمَّا أن يُجْهَرَ بالسُّوء لأحدٍ، لكن الظَّالِمَ يُجْهَرُ لَهُ به]، أي: يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه، لعلَّه أن يرتدع، وكونُ هذا المستثنى في هذه القراءة منصوبَ المحلِّ على الانقطاع هو الصحيحُ، وأجاز ابن عطية والزمخشريُّ أن يكون في محلِّ رفع على البدلية، ولكن اختلف مدركهما.
فقال ابن عطية: وإعرابُ مَنْ يحتملُ في بعض هذه التأويلاتِ النَّصْبَ، ويحتملُ الرفع على البدل من أحد المقدَّر يعني أحدًا المقدَّر في المصدر؛ كما تقدَّم تحقيقه.
وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن يكون مَنْ مرفوعًا؛ كأنه قيل: لا يحبُّ اللَّهُ الجهرَ بالسُّوء إلا الظالِمُ، على لغةِ من يقولُ: مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرو بمعنى: ما جَاءني إلاَّ عَمْرو بمعنى: ما جَاءني إلاَّ عَمرٌو، ومنه: {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65]، ورد أبو حيان عليهما فقال: وما ذكره- يعني ابن عطية- من جواز الرفع على البدل لا يَصِحُّ؛ وذلك أن المنقطع قسمان: قسمٌ يتوجَّه إليه العامل؛ نحو: ما فِيهَا أحَدٌ إلاَّ حِمَارٌ فهذا فيه لغتان: لغة الحجاز وجوبُ النصب، ولغةُ تميم جوازُ البدل، وإن لم يتوجه عليه العامل، وجب نصبُه عند الجميع؛ نحو: المالُ ما زَادَ إلاَّ النَّقْصَ، أي: لكن حصل له النقصُ، ولا يجوز فيه البدل؛ لأنك لو وجهت إليه العامل، لم يصحَّ، قال: والآيةُ من هذا القسم؛ لأنك لو قلت: لا يُحِبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ بالسُّوءِ إلا الظالمُ- فتسلطُ يَجْهَر على الظَّالِمَ فتسليط يجهر على الظالم يصح.
قال: وهذا الذي جَوَّزه- يعني الزمخشريَّ- لا يجوز؛ لأنه لا يمكن أن يكون الفاعلُ لَغْوًا، ولا يمكنُ أن يكون الظالمُ بدلًا من الله، ولا عَمْرو بدلًا من زَيْد؛ لأنَّ البدلَ في هذا البابِ يَرْجِع إلى بدل بعضٍ من كلٍّ حقيقة؛ نحو: مَا قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيدٌ، أو مجازًا؛ نحو: مَا فِيهَا أحدٌ إلاَّ حِمَارٌ، والآيةُ لا يجوز فيها البدلُ حقيقةً، ولا مجازًا، وكذا المثالُ المذكور؛ لأن الله تعالى عَلَمٌ، وكذا زيدٌ، فلا عموم فيهما؛ ليتوَهَّمَ دخولُ شيءٍ فيهما فيُستثنى، وأمَّا ما يجوزُ فيه البدلُ من الاستثناء المنقطع؛ فلأنَّ ما قبله عامٌّ يُتوهَّم دخولُه فيه، فيُبْدلُ ما قبله مجازًا، وأمَّا قوله على لغة من يقول: مَا جَاءنِي زَيْدٌ إلا عمرٌو، فلا نعلم هذه لغة إلا في كتاب سيبويه، بعد أن أنشد أبياتًا في الاستثناء المنقطع آخرها: [الطويل]
عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ** ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرِفِيُّ المُصَمِّمُ

ما نصُّه: وهذا يُقَوِّي: ما أتَانِي زَيْدٌ إلا عَمرٌو، ومَا أعانهُ إخْوَانكُم إلاَّ إخْوانُه؛ لأنها معارفُ ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضها ولم يصرِّح، ولا لَوَّحَ أن مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو من كلام العرب، قال من شرح كلام سيبويه: فهذا يُقَوِّي مَا أتَانِي زَيْدٌ إلا عمرٌو، أي: ينبغي أن يَثْبُتَ هذا من كلام العرب؛ لأن النبل معرفةٌ ليس بالمشرفيِّ، كما أن زيدًا ليس بعمرو، كما أنَّ إخوة زيدٍ ليسوا إخوتَكَ، قال أبو حيان: وليس مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو نظير البيت؛ لأنَّه قد يُتَخَيَّلُ عمومٌ في البيت؛ إذ المعنى: لا يُغْنِي السلاح، وأمَّا زَيْد فلا يتوهَّم فيه عمومٌ؛ على أنه لو ورد من كلامهم: مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو، لأمكن أن يصحَّ على مَا أتَانِي زَيدٌ ولا غَيرُهُ إلاَّ عمرٌو، فحذف المعطوفُ؛ لدلالة الاستثناء عليه، أمَّا أن يكون على إلغاء الفاعل، أو على كون عَمْرو بدلًا من زَيْد، فإنه لا يجوز، وأمَّا الآية فليست ممَّا ذكر؛ لأنه يحتمل أن تكون مَنْ مفعولًا بها، والغَيْبَ بدلٌ منها بدلُ اشتمال، والتقديرُ: لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلاَّ اللَّهُ، أي: سِرَّهُمْ وعلانيتَهُمْ لا يَعْلَمُهُم إلا الله، ولو سُلِّم أن مَنْ مرفوعةُ المحلِّ، فيتخيلَّ فيها عمومٌ، فيُبدل منها الله مجازًا؛ كأنه قيل: لا يعلمُ المَوْجُودُونَ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ، أو يكونُ على سبيل المجازِ في الظرفيَّة بالنسبة إلى الله تعالى؛ إذ جاء ذلك عنه في القرآن والسنة نحو:
{وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض} [الأنعام: 3] {وَهُوَ الذي فِي السماء إله وَفِي الأرض إله} [الزخرف: 84]، قال أيْنَ الله قالت: فِي السَّماءِ، ومن كلام العرب: لا وَذُو في السَّمَاءِ بَيْتُهُ يعنون اللَّه، وإذ احتملت الآيةُ هذه الوجوه، لم يتعيَّنْ حملُها على ما ذكره انتهى ما رَدَّ به عليهما.
وقال شهاب الدين: أمَّا ردُّه على ابن عطية، فواضحٌ، وأمَّا ردُّه على الزمخشريِّ، ففي بعضه نَظَرٌ، أما قوله: لا نعلمُهَا لغة إلا في كتاب سيبويه، فكفى به دليلًا على صحة استعمال مثله، ولذلك شَرَح الشُّرَّاحُ لكتاب سيبويه هذا الكلام؛ بأنه قياسُ كلام العرب لما أنشد من الأبيات، وأمَّا تأويله مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عمرٌو بمَأ أتَانِي ولا غَيْرُهُ، فلا يتعيَّنُ ما قاله، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قول القائل: مَا أتَانِي زَيْدٌ قد يوهِمُ أن عمرًا أيضا لم يَجِئْهُ، فنفى هذا التوهُّمَ، وهذا القدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع، ولو كان تأويلُ مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرٌو على ما قال، لم يكن استثناءً منقطعًا بل متصلًا، وقد اتفق النحويُّون على أن ذلك من المنقطِعِ، وأمَّا تأويلُ الآية بما ذكره، فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خَطِرٌ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله. اهـ.