فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ} أي على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} في الإيمان بأن يؤمنوا به عز وجل ويكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام، لكن لا يصرحون بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة، بل بطريق الاستلزام كما يحكيه قوله تعالى: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أي نؤمن ببعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونكفر ببعضهم كما فعل أهل الكتاب، وما ذلك إلا كفر بالله تعالى وتفريق بين الله تعالى ورسله، لأنه عز وجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلى الله عليه وسلم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضًا من حيث لا يشعر {وَيُرِيدُونَ} بهذا القول {أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك} أي الإيمان والكفر {سَبِيلًا} أي طريقًا يسلكونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعًا، إذ الحق لا يختلف، {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يوسف: 32] هذا ما ذهب إليه البعض في تفسير الآية وهو الذي تؤيده الآثار، فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فيها: أولئك أعداء الله تعالى اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى عليه السلام، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى عليه السلام وكفروا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله عز وجل وتركوا الإسلام وهو دين الله تعالى الذي بعث به رسله، وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج مثله، وقال بعضهم: الذين يكفرون بالله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع فنفوا الصانع مثلًا وأنكروا النبوات، والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا بالله تعالى وكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام لا عكسه، وإن قيل: إنه يتصور في النصارى لإيمانهم بعيسى عليه السلام وكفرهم بالله تعالى حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة، والكفر بالله سبحانه شامل للشرك والإنكار إذ لا يخفى ما فيه، والذي يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهم السلام وكفروا ببعضهم كاليهود، فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها بأو لكن أتى بالواو بدلها فهي بمعناها، وقيل: إن الموصول مقدر بناءًا على جواز حذفه مع بقاء صلته، وقيل: إن قوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ} إلخ عطف تفسيري على قوله سبحانه: {يَكْفُرُونَ} لأن هذه الإرادة عين الكفر بالله تعالى لأن من كفر برسل الله سبحانه فقد كفر بالله تعالى كالبراهمة، وأما قوله جل وعلا: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ} إلخ فعطف على صلة الموصول والواو بمعنى أو التنويعية، فالأولون فرقوا بين الإيمان بالله تعالى ورسوله؛ والآخرون فرقوا بين رسل الله تعالى عليهم السلام فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود، وعلى كل تقدير فخبر {إن}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

عادة القرآن عند التعرّض إلى أحوال مَن أظهروا النِّواء للمسلمين أن ينتقل من صفات المنافقين، أو أهل الكتاب، أو المشركين إلى صفات الآخرين، فالمراد من الذين يكفرون بالله ورسله هنا هم اليهود وَالنصارى، قاله أهل التفسير.
والأظهر أنّ المراد به اليهود خاصّة لأنّهم المختلطون بالمسلمين والمنافقين، وكان كثير من المنافقين يهودًا وعبّر عنهم بطريق الموصول دون الاسم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الخير، ومن شناعة صنيعهم ليناسب الإخبار عنهم باسم الإشارة بعد ذلك.
وجُمع الرسل لأنّ اليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام، والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فجمع الرسل باعتبار مجموع الكفّار، أو أراد بالجمع الاثنين، أو أراد بالإضافة معنى الجنس فاستوى فيه صيغة الإفراد والجمع، لأنّ المقصود ذمّ مَن هذه صفتهم بدون تعيين فريق، وطريق العرب في مثل هذا أن يعبّروا بصيغة الجموع وإن كان المعرّض به واحدًا كقوله تعالى: {أم يحسدون الناس} [النساء: 54] وقوله: {الذين يبْخلون ويأمرون الناس بالبخل} [النساء: 37] {يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا بال أقوام يشترطون شروطًا».
وجيء بالمضارع هنا للدلالة على أنّ هذا أمر متجدّد فيهم مستمرّ، لأنَّهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لما كانوا أحرياء بالذمّ.
ومعنى كفرهم بالله: أنَّهم لمّا آمنوا به ووصفوه بصفات غير صفاته من التجسيم واتّخاذ الصاحبة والولد والحلول ونحو ذلك، فقد آمنوا بالاسم لا بالمسمّى، وهم في الحقيقة كفروا بالمسمّى، كما إذا كان أحد يظنّ أنَّه يعرف فلانًا فقلت له: صفه لي، فوصفه بغير صفاته، تقول له: أنت لا تعرفه؛ على أنّهم لمَّا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفروا بما جاء به من توحيد الله وتنزيهه عن مماثلة الحوادث، فقد كفروا بإلهيته الحقّة، إذ منهم من جسّم ومنهم من ثلّث.
ومعنى قوله: {ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله} أنّهم يحاولون ذلك فأطلقت الإرادة على المحاولة، وفيه إيذان بأنَّه أمر صعب المنال، وأنَّهم لم يبلغوا ما أرادوا من ذلك، لأنّهم لم يزالوا يحاولونه، كما دلّ عليه التعبير بالمضارع في قوله: {ويريدون} ولو بلغوا إليه لقال: وفرّقوا بين الله ورسله.
ومعنى التفريق بين الله ورسله أنّهم ينكرون صدق بعض الرسل الذين أرسلهم الله، ويعترفون بصدق بعض الرسل دون بعض، ويزعمون أنَّهم يؤمنون بالله، فقد فرّقوا بين الله ورسله إذ نفوا رسالتهم فأبعدوهم منه، وهذا استعارة تمثيليّة، شبّه الأمر المتخيّل في نفوسهم بما يضمره مريد التفريق بين الأولياء والأحباب، فهي تشبيه هيئة معقولة بهيئة معقولة، والغرض من التشبيه تشويه المشبّه، إذ قد علم الناس أنّ التفرقة بين المتّصلين ذميمة.
وهذه الآية في معنى الآيات التي تقدّمت في سورة البقرة: {لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]، {لا نفرّق بين أحد من رسله} [البقرة: 285]، وفي سورة آل عمران {لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [آل عمران: 84] إلاّ أنّ تلك الآيات في التحذير من التفريق بين الرسل، والآية هذه في التحذير من التفريق بين الله وبعض رسله، ومآل الجميع واحد: لأنّ التفريق بين الرسل يستلزم التفريق بين الله وبعض رسله.
وإضافة الجمع إلى الضمير هنا للعهد لا للعموم بالقرينة، وهي قوله: {ويقولون نؤمن ببعض}.
وجملة {ويقولون نؤمن ببعض} واقعة في معنى الاستئناف البياني للتفريق بين الله ورسله، ولكنَّها عطفت؛ لأنّها شأن خاصّ من شؤونهم، إذ مدلولها قول من أقوالهم الشنيعة، ومدلول {يريدون} هيئة حاصلة من كفرهم، فلذلك حسن العطف باعتبار المغايرة ولو في الجملة، ولو فصلت لكان صحيحًا.
ومعنى {يقولون نؤمن} إلخ أنّ اليهود يقولون: نؤمن بالله وبموسى ونكفر بعيسى ومحمد، والنصارى يقولون: نؤمن بالله وبموسى وعيسى ونكفر بمحمد، فآمنوا بالله وبعض رسله ظاهرًا وفرّقوا بينه وبين بعض رسله.
والإرادة في قوله: {ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلًا} إرادة حقيقية.
والسبيل يحتمل أن يراد به سبيل النجاة من المؤخذة في الآخرة توهّمًا أنّ تلك حيلة تحقّق لهم السلامة على تقدير سلامة المؤمنين، أو سبيل التنصّل من الكفر ببعض الرسل، أو سبيلًا بين دينَين، وهذان الوجهان الأخيران يناسبان انتقالهم من الكفر الظاهر إلى النفاق، فكأنّهما تهيئة للنفاق.
وهذا التفسير جار على ظاهر نظم الكلام، وهو أن يكون حرف العطف مشرِّكًا بين المتعاطفات في حكم المعطوف عليه، وإذ قد كان المعطوف عليه الأول صلة لـ {لذين}، كان ما عطف عليه صِلات لذلك الموصول وكان ذلك الموصول صاحب تلك الصِّلات كلّها.
ونُسِب إلى بعض المفسّرين أنّه جعل الواوات فيها بمعنى (أو) وجعل الموصول شاملًا لِفرق من الكفّار تعدّدت أحوال كفرهم على توزيع الصِّلات المتعاطفة، فجعلَ المراد بالذين يكفرون بالله ورسله المشركين، والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله قومًا أثبتوا الخالق وأنكروا النبوءات كلّها، والذين يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض اليهودَ والنصارى.
وسكت عن المراد من قوله: {ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا}، ولو شاء لجعل أولئك فريقًا آخر: وهم المنافقون المتردّدون الذين لم يثبتوا على إيمان ولا على كفر، بل كانوا بين الحالين، كما قال تعالى: {مذبذبين بين ذلك} [النساء: 143].
والذي دعاه إلى هذا التأويل أنَّه لم يجد فريقًا جمع هذه الأحوال كلّها على ظاهرها لأنّ اليهود لم يكفروا بالله ورسله، وقد علمت أنّ تأويل الكفر بالله الكفر بالصفات التي يَستلزم الكفر بها نفي الإلهية.
وهذا الأسلوب نادر الاستعمال في فصيح الكلام، إذ لو أريد ذلك لكان الشأن أن يقال: والذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله والذين يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما قال: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا} [الأنفال: 72]. اهـ.

.قال الفخر:

في خبر {إن} قولان: أحدهما: أنه محذوف، كأنه قيل جمعوا المخازي.
والثاني: هو قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} والأول أحسن لوجهين: أحدهما: أنه أبلغ لأنه إذا حذف الجواب ذهب الوهم كل مذهب من العيب، وإذا ذكر بقي مقتصرًا على المذكور، والثاني: أنه رأس الآية، والأحسن أن لا يكون الخبر منفصلًا عن المبتدأ. اهـ.
قال الفخر:
إنهم إنما كانوا كافرين حقًا لوجهين: الأول: أن الدليل الذي يدل على نبوّة البعض ليس إلاّ المعجز، وإذا كان دليلًا على النبوّة لزم القطع بأنه حيث حصل حصلت النبوّة فإن جوزنا في بعض المواضع حصول المعجز بدون الصدق تعذر الاستدلال به على الصدق، وحينئذ يلزم الكفر بجميع الأنبياء فثبت أن من لم يقبل نبوّة أحد منهم لزمه الكفر بجميعهم.
فإن قيل: هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء، ولكن ليس إذا توجه بعض الالزامات على الإنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلًا به، فإلزام الكفر غير، والتزام الكفر غير، والقوم لما لم يلتزموا ذلك فيكف يقضى عليهم بالكفر.
قلنا: الإلزام إذا كان خفيًا بحيث يحتاج فيه إلى فكر وتأمل كان الأمر فيه كما ذكرتم، أما إذا كان جليًا واضحًا لم يبقَ بين الإلزام والالتزام فرق، والثاني: وهو أن قبول بعض الأنبياء إن كان لأجل الانقياد لطاعة الله تعالى وحكمه وجب قبول الكل، وإن كان لطلب الرياسة كان ذلك في الحقيقة كفرًا بكل الأنبياء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أولئك هُمُ الكافرون حَقًّا} تأكيد يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله؛ وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عز وجل، وكفروا بكل رسول مبشِّر بذلك الرسول؛ فلذلك صاروا الكافرين حقًا.
و{لِلْكَافِرِينَ} يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا؛ أي أعتدنا لجميع أصنافهم {عَذَابًا مُّهِينًا} أي مُذِلاّ. اهـ.

.قال الفخر:

في قوله: {حَقًّا} وجهان: الأول: أنه انتصب على مثل قولك: زيد أخوك حقًا، والتقدير أخبرتك بهذا المعنى إخبارًا حقًا، والثاني: أن يكون التقدير: أولئك هم الكافرون كفرًا حقًا.
طعن الواحدي فيه وقال: الكفر لا يكون حقًا بوجه من الوجوه.
والجواب أن المراد بهذا الحق الكامل، المعنى أولئك هم الكافرون كفرًا كاملًا ثابتًا حقًا يقينًا. اهـ.