فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَكُفْرِهِم بآيات الله} أي حججه الدالة على صدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام والقرآن، أو ما في كتابهم لتحريفه وإنكاره وعدم العمل به.
{وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقّ} كزكريا ويحيى عليهما السلام {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع غلاف بمعنى الظرف، وأصله غلف بضمتين فخفف، أي أوعية للعلم فنحن مستغنون بما فيها عن غيره، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعطاء، وقال الكلبي: يعنون إن قلوبنا بحيث لا يصل إليها شيء إلا وعته ولو كان في حديثك شيء لوعته أيضًا، ويجوز أن يكون جمع أغلف أي هي مغشاة بأغشية خَلْقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيكون كقوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5].
{بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} كلام معترض بين المعطوفين جئ به على وجه الاستطراد مسارعة إلى ردّ زعمهم الفاسد، أي ليس الأمر كما زعمتم من أنها أوعية العلم فإنها مطبوع عليها محجوبة من العلم لم يصل إليها شيء منه كالبيت المقفل المختوم عليه، والباء للسببية، وجوز أن تكون للآلة، ويجوز أن يكون المعنى ليس عدم وصول الحق إلى قلوبكم لكونها في أكنة وحجب خلقية كما زعمتم بل لأن الله تعالى ختم عليها بسبب كفركم الكسبي، وهذا الطبع بمعنى الخذلان والمنع من التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ عند الكثير وطبع حقيقي عند البعض، وأيد بما أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترئ على الله تعالى بعث الله تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئًا» وأخرجه البيهقي أيضًا في الشعب إلا أنه ضعفه.
{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إلا إيمانًا قليلًا فهو كالتصديق بنبوّة موسى عليه السلام وهو غير مفيد لأن الكفر بالبعض كفر بالكل كما مر، أو صفة لزمان محذوف أي زمانًا قليلًا، أو نصب على الاستثناء من ضمير {لا يؤمنون} أي إلا قليلًا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، ورده السمين بأن الضمير عائد على المطبوع على قلوبهم، ومن طبع على قلبه بالكفر لا يقع منه إيمان، وأجيب بأن المراد بما مر الإسناد إلى الكل ما هو للبعض باعتبار الأكثر.
وقال عصام الملة: كما يجب استثناء القليل من عدم الإيمان المتفرع على الطبع على قلوبهم يجب استثناء قليل من القلوب من قلوبهم، فكأن المراد بل طبع الله تعالى على أكثرها فليفهم. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}
التفريع على قوله: {وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} [النساء: 154] والباء للسبيبة جَارّة لـ {نقضهم}، و(وما) مزيدة بعد الباء لتوكيد التسبّب.
وحرف (ما) المزيد بعد الباء لا يكفّ الباء عن عمل الجرّ وكذلك إذا زيد (ما) بعد (من) وبعد (عن).
وأمّا إذا زيد بعد كاف الجرّ وبعد ربّ فإنّه يكفّ الحرف عن عمل الجرّ.
ومتعلَّق قوله: {بما نقضهم}: يجوز أن يكون محذوفًا، لتذهب نَفْس السامع في مذاهب الهول، وتقديره: فعَلْنا بهم ما فَعَلْنا.
ويجوز أن يتعلّق بـ {حرّمْنا عليهم طيّبات أحلّت لهم} [النساء: 160]، وما بينهما مستطردات، ويكون قوله: {فبظلم من الذين هَادُوا} [النساء: 160] كالفذلكة الجامعة لِجرائمهم المعدودة من قبل.
ولا يصلح تعليق المجرور بـ {طَبَعَ} لأنَّه وقع ردّا على قولهم: {قلوبنا غلف}، وهو من جملة المعطوفات الطالبة للتعلّق، لكن يجوز أن يكون طبع دليلًا على الجواب المحذوف.
وتقدّم تفسير هذه الأحداث المذكورة هنا في مواضعها.
وتقدّم المتعلِّق لإفادة الحصر: وهو أن ليس التحريم إلاّ لأجلِ ما صنعوه، فالمعنى: ما حرمنا عليهم طيّبات إلاّ بسبب نقضهم، وأكّد معنى الحصر والسَّبب بما الزائدة، فأفادت الجملة حصرًا وتأكيدًا.
وقوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم} اعتراض بين المعَاطيف.
والطبع: إحْكام الغلق بجعل طين ونحوه على سدّ المغلوق بحيث لا ينفذ إليه مستخرِج ما فيه إلاّ بعد إزالة ذلك الشيء المطبوع به، وقد يَسِمُون على ذلك الغلق بسمة تترك رسمًا في ذلك المجعول، وتسمّى الآلة الواسمة طابعًا بفتح الباء فهو يرادف الخَتْم.
ومعنى {بكفرهم} بسببه، فالكفرُ المتزايد يزيد تعاصي القلوب عن تلقّي الإرشاد، وأريد بقوله: {بكفرهم} كفرهم المذكور في قوله: {وكفرهم بآيات الله}.
والاستثناء في قوله: {إلا قليلًا} من عموم المفعول المطلق: أي لا يؤمنون إيمانًا إلاّ إيمانًا قليلا، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه إذ الإيمان لا يقبل القلّة والكثرة، فالقليل من الإيمان عدم، فهو كفر.
وتقدّم في قوله: {فقليلًا ما يؤمنون} [البقرة: 88].
ويجوز أن يكون قلّة الإيمان كناية عن قلّة أصحابه مثل عبد الله بن سلاَم. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}
لقد نقضوا كل المواثيق والأشياء التي تقدمت. ومعنى الميثاق هو العهد المؤكد الموثق. ونقض الميثاق هو حله، وهذا ما يستوجب ما يهددهم الله به، وكفروا بآيات الله التي أنزلها لتؤيد موسى عليه السلام، وقتلوا أنبياء الله بغير حق. وادعوا- تعليلًا لذلك- أن قلوبهم غلف لا تسمع للدعوى الإيمانية، أي أن قلوبهم مغلفة مغطاة أي جُعل عليها غلافٌ، بحيث لا يخرج منها ما فيها ولا يدخل فيها ما هو خارج عنها. وأرادوا بذلك الاستدراك على الله، فقالوا: قلوبنا لا يخرج منها ضلال ولا يدخل فيها إيمان. وسبق أن تقدم مثل هذا في قول الحق: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 6- 7]
ونقول: أهي القلوب خُلقت غلفًا.. أي أن القلوب خلقت مختومًا عليها بحيث لا يدخلها هدى ولا يخرج منها ضلال، أم أنتم الذين فعلتم الختم وأنتم الذين صنعتم الغلاف؟
وسبحانه أوضح في آيتي سورة البقرة أنه جل وعلا الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة. فالختم على القلب حتى لا يتعرفوا إلى الدليل؛ لأن القلب محل الأدلة واليقين والعقائد. والختم على الأسماع والأبصار هو الختم على آلات إدراك الدلائل البينات على وجود الحق الأعلى؛ فمقر العقائد مختوم عليه وهو القلب، ومضروب على الآذان وعلى البصر غشاوة، فهل هذا كائن بطبيعة تكوين هؤلاء؟ لا؛ لأنه إذا كان هذا بطبيعة التكوين فلماذا خصَّهم الله بذلك التكوين؟ ولماذا لم يكن الذين اهتدوا مختومًا لا على قلوبهم ولا على أسماعهم ولا على أبصارهم؟
غير أن الواحد منهم يبرر لنفسه وللآخرين انحرافه وإسرافه على نفسه بالقول: خلقني الله هكذا وهذا قول مزيف وكاذب؛ لأن صاحبه إنما يكفر أولًا، فلما كفر وانصرف عن الحق تركه الله على حاله؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فمن اتخذ مع الله شريكًا فهو للشريك وليس لله. إذن فالختم جاء كنتيجة للكفر.
وقدمت آيات سورة البقرة الحيثية: أن الكفر يحدث أولًا، ثم يأتي الختم على القلب والسمع والبصر نتيجة لذلك. وهنا في آية سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا}. فالكفر جاء أولًا، وفي ذلك رد على أي إنسان يقول: إن الله لا يهديني. ولا يلتفت إلى أن الله لا يهدي من كفر به، وكذلك الفاسق أو الظالم، والمثال الأكبر على ذلك إبليس الذي كفر أولًا. وبعد ذلك تركه الله لنفسه واستغنى عنه.
ولنا هنا وقفة لفظية مع قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم} لأن الفهم السطحي لأصول الأسلوب قد يتساءل: لماذا جاءت ما هنا؟ وبعضهم قال: إن ما هنا زائدة.
ونقول: إياك أن تقول إن في كلام الله حرفًا زائدًا؛ لأن معنى ذلك أن المعنى يتم بغير وجوده ويكون فضولًا وزائدا على الحاجة ولا فائدة فيه، ولكن عليك أن تقول: أنا لا أفهم لماذا جاء هذا الحرف، خصوصًا ونحن في هذا العصر نعيش كأمة بلاغتها مصنوعة، ولا نملك اللسان العربي المطبوع. ولولا أننا تعلمنا العربية لما استطعنا أن نتكلمها. أما العربي الفصيح الذي نزل عليه القرآن فقد كان يتكلم اللغة العربية دون أن يجلس إلى معلم، ولم يتلق العلم بأن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب بل تكلم اللغة بطبيعته وملكته.
أما نحن فنعيش في زمن مختلف. وطغت علينا العجمة وامتلأت آذاننا باللحن، وصرنا نُعلّم أنفسنا قواعد اللغة العربية حتى نتكلم بأسلوب صحيح.
وقد جاءت القواعد في النحو من الاستنباط من السليقة العربية الأولى التي كانت بغير تعليم. واستقرأ العلماء الأساليب العربية فوجدوا أن الفاعل مرفوع والمثنى يُرفع بالألف، وجمع المذكر السالم يُرفع بالواو؛ وهكذا أخذنا القواعد من الذين لا قواعد لهم بل كانوا يتكلمون بالسليقة وبالطبيعة والملكة.
لقد سمع العربي قديمًا ساعة نزل القرآن قوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم} ولم ينتبه واحد منهم إلى أن شيئًا قد خرج عن الأسلوب الصحيح، ونعلم أن بعضًا من العرب كانوا كافرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصدقون القرآن، ولو كانت هناك واحدة تخرج عن المألوف في اللغة لصرخوا بها وأعلنوها. ولكن القرآن جاء بالكلام المعجز على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغهم به، موضحًا: جئت بالقرآن معجزة تعجزون عن محاكاته؛ مع أنكم عرب وفصحاء.
والمتحدَّى يحاول دائمًا أن يتصيد خطأ ما، ولم يقل واحد من العرب إن في القرآن لحنًا، وهذا دليل على أن الأسلوب القرآني يتفق مع الملكة العربية.
وقوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم} هي في الأصل: بنقضهم الميثاق فعلنا بهم ما صاروا إليه، وما جاءت هنا لماذا؟ قال بعض العلماء: إنها ما زائدة، وهي زائدة للتأكيد. ونكرر: إياك أن تقول إن في كلام الله حرفًا زائدًا، لقد جاءت ما هنا لمعنى واضح. والحق في موقع آخر من القرآن يقول: {مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [المائدة: 19]
وقالوا: إن أصل العبارة ما جاءنا بشير، وإن مِن جاءت زائدة حتى يتسق اللفظ. ونقول: لو أن العبارة جاءت كما قالوا لما استقام المعنى، ولإيضاح ذلك أضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- عندما يقول واحد: ما عندي مال فهذا نفى أن يكون عند القائل مال، ولعل لديه قدرًا من المال القليل الذي لا يستأهل أن يسميه مالًا.
ولكن إذا قال واحد: ما عندي من مال فالمعنى أنه لا يملك المال على إطلاقه أي أنه مفلس تمامًا، ولا يملك أي شيء من بداية ما يقال إنه مال. إذن ما جاءنا بشير ليست مثل قوله: {ما جاءنا من بشير}. فالمعنى أنه لم يأتهم أي رسول بشير أو نذير من بداية ما يقال إنه رسول.
إذن فقوله الحق: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي بسبب نقض الميثاق فعلنا بهم كذا. لماذا إذن أثار العلماء هذه الضجة؟ السبب في ذلك هو وجود ما بعد الباء وقبل المصدر، أي أنهم نقضوا العهد بكل صورة من صوره، فنقض العهد والميثاق له صور متعددة فـ (ما) هنا استفهامية جاءت للتعجيب أي على أيَّة صورة من صور نقض ونكث العهد لعناهم؟ لعناهم لكثرة ما نقضوا من العهود والمواثيق. والحق قد قال: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 155]
ولم يقل: فبما نقضتم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، طبع الله على قلوبهم. فوجود بل يدلنا على أن هناك أمرًا أضربنا عنه. فنحن نقول: جاءني زيد بل عمرو. أي أن القائل قد أخطأ، فقال: جاءني زيد واستدرك لنفسه فقال: بل عمرو. وبذلك نفى مجيء زيد وأكد مجيء عمرو.