فصل: فصل نفيس للعلامة ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم، فأين المؤمنون به الذي قال فيهم: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ} [آل عِمْرَان: 55]، وقوله: {فَأَيّدْنَا الّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، قيل: ظنٌّ من ظن منهم أنه صلب لا يقدح في إيمانه، إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح، بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه- فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه، فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين، وغاية الصلب أن يكون قتلًا له، وقتل النبي لا يقدح في نبوته، وقد قتل بنو إسرائيل كثيرًا من الأنبياء، قال تعالى: {وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ} [آل عِمْرَان: 146] الآية، وقال تعالى: {وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عِمْرَان: 143]، وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم، هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم جاءهم في اليقظة، فإنهم لا يكفرون بذلك، بل هذا كان يعتقده من هو أكثر الناس اتباعًا للسنة وأتباعًا لها، وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره، وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله فهذا غلط منه لا يوجب كفره، فكذلك ظنُّ من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح، لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح، ولا يقدح فيما نقلوه عنه، وعُمَرُ- لما كان يعتقد أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يمت، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه- لم يكن هذا قادحًا في إيمانه، وإنما كان غلطًا ورجع عنه، وقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلم} هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم. انتهى كلام ابن تيمية رضي الله عنه.
ولإمام الأدباء شرف الدين البوصيري رحمه الله، قصيدة في هذا المقام، نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام، قال قدس سره:
جاء المسيح من الإله رسولًا ** فأبى أقل العالمين عقولا

قوم رأوا بشرًا كريمًا فادعوا ** من جهلهم لله فيه حلولا

وعصابة ما صدقته وَأكثرت ** بالإفك والبهتان، فيه القيلا

لم يأت فيه مُفْرِط ومُفَرِّط ** بالحق تجريحًا ولا تعديلا

فكأنما جاء المسيح إليهم ** ليكذبوا التوراة والإنجيلا

فاعجب لأمته التي قد صيرت ** تنزيهها لإلهها التنكيلا

وإذا أراد الله فتنة معشر ** وأضلهم، رَأوُا القبيح جميلا

هم بجّلوه بباطل فابتزّه ** أعداؤه بالباطل التبجيلا

وتقطعوا أمر العقائد بينهم ** زمرًا، ألَمْ تَرَ عقدها محلولا

هو آدم في الفضل إلا أنه ** لم يُعْطَ حال النفخة التكميلا

أسمعتموا أنه الإله لحاجة ** يتناول المشروب والمأكولا؟

وينام من تعب ويدعو ربه ** ويروم من حر الهجير مقيلا

ويمسُّه الألم الذي لم يستطع ** صرفًا له عنه ولا تحويلا

يا ليت شعري، حين مات بزعمهم ** من كان بالتدبير عنه كفيلا؟

هل كان هذا الكون دبر نفسه ** من بعده أم آثر التعطيلا؟

زعموا الإله فدى العبيد بنفسه ** وأراه كان القاتل المقتولا

أجْزُوا اليهود بصلبه خيرًا ولا ** تجزوا (يهوذا) الآخذ البرطيلا

أيكون قوم في الجحيم ويصطفى ** منهم كليمًا ربُّنا، وخليلا

وإذا فرضتم أن عيسى ربكم ** أفلم يكن لفدائكم مبذولًا؟

وأجل روحًا قامت الموتى به ** عن أن يرى بيد اليهود قتيلا

فدعوا حديث الصلب عنه **ودونكم ** من كتبكم ما وافق التنزيلا

شهد الزبور بحفظه ونجاته ** أفتجعلون دليله مدخولًا؟

أيكون من حفظ الإله مضيعًا ** أو من أشيد بنصره مخذولًا؟

أيجوز قول منزه لإلهه ** سبحان قاتل نفسه مقتولا؟

أو جل ّمن جعل اليهودُ بزعمكم ** شوك القتاد لرأسه إكليلا

ومضى لحبل صليبه مستسلمًا ** للموت مكتوف اليدين ذليلا

كم ذا أبكتكم ولم تستنكفوا ** أن تسمعوا التبكيت والتخجيلا

ضل النصارى في المسيح وأقسموا ** لا يهتدون إلى الرشاد سبيلًا

وهي سابغة الذيل، كلها من هذا النفس البديع. اهـ.

.فصل نفيس للعلامة ابن القيم:

قال رحمه الله:
اليهود أساتذة النصارى في قصة الصلب وأخبار المسيح:
فنقول: إذا كفرتم معاشر المثلثة عبّاد الصليب بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن أين لكم أن تثبتوا لعيسى فضيلة أو معجزة، ومن نقل إليكم عنه آية أو معجزة؟!، فإنكم إنما تبعتم من بعده بنيف على مائتين وعشرات من السنين، أخبرتم عن منام رؤى فأسرعتم إلى تصديقه، وكان الأولى لمن كفر بالقرآن أن ينكر وجود عيسى في العالم، لأنه لا يقبل قول اليهود فيه، ولاسيما وهم أعظم أعدائه الذين رموه وأمه بالعظائم، فأخبار المسيح والصليب إنما شيوخكم فيها اليهود، وهم فيما بينهم مختلفون في أمره أعظم اختلاف، وأنتم مختلفون معهم في أمره، فاليهود تزعم أنهم حين أخذوه حبسوه في السجن أربعين يومًا، وقالوا: ما كان لكم أن تحبسوه أكثر من ثلاثة أيام ثم تقتلوه، إلا أنه كان يعضده أحد قواد الروم، لأنه كان يداخله في صناعة الطب عندهم.
وفي الأناجيل التي بأيديكم: أنه أخذ صبح يوم الجمعة، وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه، فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره، واليهود ممعون أنه لم يظهر له معجزة، ولا بدت منه لهم آية، غير أنه طار يومًا وقد هموا بأخذه، فطار على أثره آخر منهم، فعلاه في طيرانه، فسقط إلى الأرض بزعمهم.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم في غير موضع ما يشهد أنه لا معجزة له ولا آية!!، فمن ذلك أن فيه منصوصًا: أن اليهود قالوا له يومًا: ماذا تفعل حتى تنتهي به إلى أمر الله تعالى؟، فقال: أمر الله أن تؤمنوا بمن بعثه، فقالوا له: وما آيتك التي ترينا ونؤمن بك، وأنت تعلم أن آبائنا قد أكلوا المن والسلوى بالمفاوز؟، قال: إن كان أطعمكم موسى خبزًا فأنا أطعمكم خبزًا سماويًا، يريد نعيم الآخرة، فلو عرفوا له معجزة ما قالوا ذلك.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أن اليهود قالت له: ماآيتك التي نصدقك بها؟، قال: اهدموا البيت أبنيه لكم في ثلاثة أيام، فلو كانت اليهود تعرف له آية لم تقل هذا، ولو كان قد أظهر لهم معجزة لذكرهم بها حينئذ.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أيضًا: أنهم جاؤا يسألونه آية فقذفهم، وقال: إن القبيلة الفاجرة الخبيثة تطلب آية فلا تعطي ذلك.
وفيه أيضًا: أنهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة: بظنكم إن كنت المسيح فأنزل نفسك، فتؤمن بك، يطلبون بذلك آية فلم يفعل.
فإذا كفرتم معاشر المثلثة عبّاد الصليب بالقرآن لم يتحقق لعيسى بن مريم آية ولا فضيلة، فإن أخباركم عنه وأخبار اليهود لا يلتفت إليها لاختلافكم في شأنه أشد الاختلاف، وعدم تيقنكم لجميع أمره.
وكذلك اجتمعت اليهود على أنه لم يدع شيئًا من الإلهية التي نسبتم إليه أنه ادعاها، وكان أقصى مرادهم أنه يدعى، فيكون أبلغ في تسلطهم عليه، وقد ذكر السبب في استفاضة ذلك عنه، وهو: أن أحبارهم وعلماءهم لما مضى وبقي ذكره، خافوا أن تصير عامتهم إليه، إذ كان على سنن تقبله قلوب الذين لا غرض لهم، فشنعوا عليه أمورًا كثيرة، ونسبوا إليه دعوى الإلهية تزهيدًا للناس في أمره.
أخبار اليهود والنصارى عن عيسى ونسبه لا يوثق بها:
ثم إن اليهود عندهم من الاختلاف في أمره ما يدل على عدم تيقنهم بشيء من أخباره.
فمنهم من يقول: إنه كان رجلًا منهم، ويعرفون أباه وأمه، وينسبونه لزانية!. وحاشاه وحاشا أمه الصديقة الطاهرة البتول التي لم يقرعها فحل قط، قاتلهم الله أنى يؤفكون، ويسمون أباه الزاني النديرا الرومي، وأمه مريم الماشطة، ويزعمون: أن زوجها يوسف بن يهودا وجد البنديرا عندها على فراشها، وشعر بذلك، فهجرها وأنكر ابنها.
ومن اليهود من رغب عن هذا القول، وقال: إنما أبوه يوسف بن يهودا، الذي كان زوجًا لمريم، ويذكرون أن السبب في استفاضة اسم الزنا عليه: أنه بينا هو يومًا مع معلمه بهشوع بن برخيا وسائر التلاميذ في سفر، فنزلوا موضعًا، فجاءت امرأة من أهله، وجعلت تبالغ في كرامتهم، فقال بهشوع: ما أحسن هذه المرأة؟!، يريد أفعالها، فقال عيسى بزععمهم: لولا عور في عينها، فصاح بهشوع وقال له يا:
ممزار- ترجمته يا زنيم-، أتزني بالنظر، وغضب غضبًا شديدًا، وعاد إلى بيت المقدس، وحرم اسمه، ولعنه في أربعمائة قرن، فحينئذ لحق ببعض قواد الروم، وداخله بصناعة الطب، فقوي بذلك على اليهود، وهم يومئذ في ذمة قيصر بتاريوش، وجعل يخالف حكم التوراة، ويستدرك عليها، ويعرض عن بعضها، إلى أن كان من أمره ما كان.
وطوائف من اليهود يقولون غير هذا، ويقولون: إنه كان يلاعب الصبيان بالكرة، فوقعت منهم بين جماعة من مشايخ اليهود، فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياءً من المشايخ، فقوي عيسى وتخطى رقابهم وأخذها، فقالوا له: ما نظنك إلا زنيمًا.
ومن اختلاف اليهود في أمره: أنهم يسمون أباه بزعمهم الذي كان خطب مريم يوسف بن يهودا النجار.
وبعضهم يقول: إنما هو يوسف الحداد.
والنصارى تزعم أنها كانت ذات بعل، وأن زوجها يوسف بن يعقوب.
وبعضهم يقول: يوسف بن آل.
وهم يختلفون أيضًا في آبائه وعددهم إلى إبراهيم، فمن مقل ومن مكثر.
فهذا ما عند اليهود، وهم شيوخكم في نقل الصلب وأمره، وإلا فمن المعلوم أنه لم يحضره أحد من النصارى، وإنما حضره اليهود وقالوا: قتلناه وصلبناه، وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم، فإن صدقتموهم في الصلب فصدقوهم في سائر ما ذكروه، وإن كذبتموهم فيما نقلوه عنه فما الموجب لتصديقهم في الصلب، وتكذيب أصدق الصادقين، الذي قامت البراهين القطعية على صدقه، أنهم ما قتلوه وما صلبوه، بل صانه الله وحماه وحفظه، وكان أكرم على الله وأوجه عنده من أن يبتليه بما تقولون أنتم واليهود.
النصارى أشد الأمم افتراقًا في دينهم:
ما اتفقت عليه فرقهم المشهورة:
وأما خبر ما عندكم أنتم، فلا نعلم أمة أشد اختلافًا في معبودها ونبيها ودينها منكم، فلو سألت الرجل وامرأته وابنته وأمه وأباه عن دينهم؛ لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر، ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن أحد شعر مذهبًا، مع اتفاق فرقهم المشهورة اليوم على القول بالتثليث وعبادة الصليب، وأن المسيح ابن مريم ليس بعبد صالح ولا نبي ولا رسول، وأنه إله في الحقيقة، وأنه هو خالق السموات والأرض والملائكة والنبيين، وأنه هو الذي أرسل الرسل وأظهر على أيديهم المعجزات والآيات، وأن للعالم إلهًا هو أب والد لم يزل، وان ابنه نزل من السماء، وتجسم من روح القدس ومن مريم، وصار هو ابنها الناسوتي إلهًا واحدًا، ومسيحًا واحدًا، وخالقًا واحدًا، ورازقًا واحدًا، وحبلت به مريم وولدته، وأخذ وصلب وألم ومات ودفن، وقام بعد ثلاثة أيام وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه. قالوا: والذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله، وهو ابن الله، وهو كلمة الله، فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي حبلت به مريم وأقام هناك تسعة أشهر، وهو الذي ولد ورضع وفطم، وأكل وشرب وتغوط، وأخذ وصلب وشد بالحبال وسمرت يداه.