فصل: تفسير الآية رقم (159):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (159):

قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أنجز الكلام إلى أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على هذا المنهاج البديع بما ذكر في نصائح اليهود وقبائح أفعالهم، وأنهم قصدوا قتله عليه الصلاة والسلام، فخاب قصدهم، واصلد زندُهم، وقال رأيهم، ورد عليهم بغيهم، وحصل له بذلك أعلى المناصب وأولى المراتب؛ قال محققًا لما أثبته في الآية قبلها من القطع بكذبهم، مثبتًا أنهم في مبالغتهم في عداوته سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره الذي منه التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومؤكدًا له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له: {وإن} أي والحال أنه ما {من أهل الكتاب} أي أحد يدرك نزوله في آخر الزمان {إلا} وعزتي {ليؤمنن به} أي بعيسى عليه الصلاة والسلام {قبل موته} أي موت عيسى عليه الصلاة والسلام، أي إنه لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان، يؤيد الله دين الإسلام، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل، إشارة إلى أن موسى عليه الصلاة والسلام إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زمانًا طويلًا، فالنبي الذي نسخ شريعة موسى- وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام- هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربي في تجديد شريعته وتمهيد أمره والذب عن دينه، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة وأتباع مستكثرة، أمر قضاء الله في الأزل فأمضاه، فأطيلوا أيها اليهود أو أقصروا! فمعنى الآية إذن- والله أعلم- أنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه الصلاة والسلام على شك إلا وهو يوقن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موته بعد نزوله من السماء أنه ما قتل وما صلب، ويؤمن به عند زوال الشبهة- والله أعلم؛ روى الشيخان وأحمد وأبو بكر بن مردويه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا وإمامًا عادلًا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها»؛ وفي رواية: «وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين»؛ وفي رواية: «حتى يهلك الله الملل كلها غير الإسلام، فيهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته}» الآية: موت عيسى عليه الصلاة والسلام- ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات- ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد؛ وفي رواية: «ويفيض المال حتى لا يقبله أحد»؛ ولمسلم عنه رضي الله عنه: «كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم»؛ وفي رواية: «فأمكم منكم»، قال الوليد بن مسلم- أحد رواة الحديث: قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت تخبرني! قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ ولمسلم أيضًا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا! فيقول: لا! إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة»؛ وروى عن ابن عباس ومحمد بن علي المشهور بابن الحنفية رضي الله عنهم أن المعنى: ألا ليؤمنن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موت ذلك الكتابي عند الغرغرة حين لا ينفعه الإيمان، ليكون ذلك زيادة في حسرته، قال الأصبهاني: وتدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ: ليؤمنن قبل موتهم- بضم النون.
ولما أخبر تعالى عن حالهم معه في هذه الدار أتبعه فعله بهم في تلك فقال: {ويوم القيامة} أي الذي يقطع ذكره القلوب، ويحمل التفكر فيه على كل خير ويقطع عن كل شر {يكون} وأذن بشقائهم بقوله: {عليهم شهيدًا} أي بما عملوا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام وبيّن أنه ما حصل لهم ذلك المقصود، وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجل المراتب بيّن تعالى أن هؤلاء اليهود الذين كانوا مبالغين في عداواته لا يخرج أحد منهم من الدنيا إلا بعد أن يؤمن به فقال: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.
واعلم أن كلمة {إن} بمعنى (ما) النافية كقوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] فصار التقدير: وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به.
ثم إنا نرى أكثر اليهود يموتون ولا يؤمنون بعيسى عليه السلام.
والجواب من وجهين: الأول: ما روي عن شهر بن حوشب قال: قال الحجاج إني ما قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء، يعني هذه الآية فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك.
فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيًّا فكذبت به، فيقول آمنت أنه عبد الله، وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيًا فزعمت أنه هو الله وابن الله، فيقول: آمنت أنه عبد الله فأهل الكتاب يؤمنون به، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان، فاستوى الحجاج جالسًا وقال: عمن نقلت هذا؟ فقلت: حدّثني به محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكت في الأرض بقضيب ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية.
وعن ابن عباس أنه فسّره كذلك فقال له عكرمة: فإن خر من سقف بيت أو احترق أو أكله سبع قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به، ويدل عليه قراءة أُبي {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} بضم النون على معنى وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم لأن أحدًا يصلح للجمع، قال صاحب الكشاف: والفائدة في أخبار الله تعالى بإيمانهم بعيسى قبل موتهم أنهم متى علموا أنه لابد من الإيمان به لا محالة فلأن يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان أولى من أن يؤمنوا به حال ما لا ينفعهم ذلك الإيمان.
والوجه الثاني: في الجواب عن أصل السؤال: أن قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي قبل موت عيسى، والمراد أن أهل الكتاب الذين يكونون موجودين في زمان نزوله لابد وأن يؤمنوا به: قال بعض المتكلمين: إنه لا يمنع نزوله من السماء إلى الدنيا إلا أنه إنما ينزل عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف، إذ لو نزل مع بقاء التكاليف على وجه يعرف أنه عيسى عليه السلام لكان إما أن يكون نبيًا ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، أو غير نبي وذلك غير جائز على الأنبياء، وهذا الإشكال عندي ضعيف لأن انتهاء الأنبياء إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فعند مبعثه انتهت تلك المدة، فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعًا لمحمد عليه الصلاة والسلام.
ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} قيل: يشهد على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه، وعلى النصارى أنهم أشركوا به، وكذلك كل نبي شاهد على أمته. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال الأستاذ الإمام: معناه ومامن أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به وتلا قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي ومامنا أحد إلاّ له مقام معلوم.
وقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] المعنى: ومامنكم أحد إلاّ واردها. قال الشاعر:
لو قلت ما في قومها لم تيثم ** يفضلها في حسب ومبسم

المعنى: ما في قومها أحد يفضلها، ثمّ حذف.
عن قتادة والربيع بن أنس وأبو مالك وابن زيد: هما راجعتان إلى عيسى، المعنى فإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلاّ آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام، وهو رواية سعيد بن جبير وعطية عن ابن عباس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وروى قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلاّت أُمهاتهم شتّى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، ويوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا فإذا رأيتموه وهو رجل مربوع فلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كان رأسه يقطره وان لم يصبه بلل بين ممصّرتين، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام وتكون السجدة واحدة لله تعالى ويهلك الله في زمانه الرجل الكذاب الدجال يقع الأمنة في الأرض في زمانه حتى ترتع الأُسود مع الإبل، والنمور مع البقرة، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع بعضهم بعضًا ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه وإقرأوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته} عيسى بن مريم» رددها أبو هريرة ثلاث مرات.
عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي: الهاء في قوله تعالى: {به} راجعتين إلى عيسى ابن مريم إلى الكتابي الذي يؤمن والمعنى وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنَنَّ بعيسى قبل موته إذا عاين الملك فلا ينفعه حينئذ ايمانه، لأن كل من نزل عليه الموت يعاين نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه وهذه رواية أبي هريرة عن أبي عليّ عن ابن عباس قالوا: لايبقى يهودي ولاصاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى، وإن احترق أو غرق أو تردى أو سلط عليه حيتان أو أكله السبع أو أي ميتة كانت.
قيل لابن عباس: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقال: أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يتلجلج بها لسانه.
يدل على صحة هذا التأويل، قراءة أُبيّ: قبل موتهم.
الكلبي: خرجت من الكوفة حتى أتيت طابت وهي قرية دون واسط فنزلتها فإذا أنا بشهر بن حوشب فتذاكرنا هذه الآية. {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} فقال شهر: خرج العطاء والحجاج يؤمئذ بواسط فأمر بالعطاء فوضع بين يديه فجعل يدعو الرجل فيدفع العطاء بما قال، فدعا باسمي وجئت على فرس لي عجفاء رثّة الهيئة وعليّ ثياب رثّة، فلما رآني الحجاج قال لي: ياشهر مالي أرى ثيابك رثة وفرسك رثة، فقلت: أصلح الله الأمير أما ماذكرت من فرسي فإني قد اشتريتها ولم آل نفسي خيرًا، وأما ما تذكر من الثياب فحسب المؤمن من الثياب ما وارى عورته، فقال: لا ولكنك رجل تكره الخز وتعيب من يلبسه، فقلت: إني لا أكره ذلك ولا أعيب على من يلبسه، قال: فدعا بقطعة له خزّ فأعطانيها فصببتها عليه فلما أردت أن أخرج، قال لي: هلم، فرجعت فقال: آية من كتاب الله تعالى ماقرأتها قط إلاّ اختلج في نفسي منها شيء، قلت: أصلح الله الأمير، ما هي؟ فقرأ هذه الآية {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} فإني لأُوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب أعناقهم فما أسمعه يتكلّم بشيء، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالت: يا عدوّ الله أتاك عيسى ابن مريم عبدًا نبيًا فكذبت به، فيقول: إني آمنت به إنه نبي عبد فيؤمن به حين لاينفعه إيمانه، ويؤتى بالنصراني فيقولون له: يا عدو الله أتاك عيسى عبد نبي فقلت: إنه الله وابن الله، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه.
قال شهر: فنظر إليّ الحجاج وقال: من حدثك بهذا الحديث؟ فقلت: محمد بن الحنفية، قال: وكان متكئًا فجلس ثم نكث بقضيبه في الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليّ وقال: أخذتها من عين صافية أخذتها من معدنها.
قال الكلبي: فقلت: يا شهر ما الذي أردت أن تقول: حدثني محمد بن الحنفية وهو يكرهه ويكره ماجاء من قبلهم، قال: أردت أن أُغيظه.
وقال بعضهم: الهاء في (به) راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وفي (موته) راجعة إلى الكتابي.
وهو رواية حماد بن حميد عن عكرمة قال: لايموت اليهودي ولا النصراني حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل الهاء في (به) راجعة إلى الله تعالى، وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمننّ به قبل أن يموت عند المعاينة ولاينفعه إيمانه في وقت البأس {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ} عيسى {عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} بأنّه قد بلّغهم رسالة من ربه وأقرَّ له بالعبودية على نفسه، نظير قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 116] وهو نبي شاهد على أُمّته، قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} الآية، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [النحل: 84]. اهـ.