فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أن العلماء على ثلاثة أقسام:
الأول: العلماء بأحكام الله تعالى فقط.
والثاني: العلماء بذات الله وصفات الله فقط.
والثالث: العلماء بأحكام الله وبذات الله، أما الفريق الأول فهم العالمون بأحكام الله وتكاليفه وشرائعه، وأما الثاني: فهم العالمون بذات الله وبصفاته الواجبة والجائزة والممتنعة، وأما الثالث: فهم الموصوفون بالعاملين وهم أكابر العلماء، وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء.
وإذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى وصفهم بكونهم راسخين في العلم، ثم شرح ذلك فبيّن أولًا: كونهم عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بتلك الأحكام، فأما علمهم بأحكام الله فهو المراد من قوله: {والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} وأما عملهم بتلك الأحكام فهو المراد بقوله: {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} وخصهما بالذكر لكونهما أشرف الطاعات لأن الصلاة أشرف الطاعات البدينة، والزكاة أشرف الطاعات المالية، ولما شرح كونهم عالمين بأحكام الله وعاملين بها شرح بعد ذلك كونهم عالمين بالله، وأشرف المعارف العلم بالمبدأ والمعاد، فالعلم بالمبدأ هو المراد بقوله: {والمؤمنون بالله} والعلم بالمعاد هو المراد من قوله: {واليوم الآخر} ولما شرح هذه الأقسام ظهر كون هؤلاء المذكورين عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بها وظهر كونهم عالمين بالله وبأحوال المعاد، وإذا حصلت هذه العلوم والمعارف ظهر كونهم راسخين في العلم لأن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز هذا المقام في الكمال وعلو الدرجة، ثم أخبر عنهم بقوله: {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة النساء: آية 148]:

{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)}
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إلا جهر من ظلم استثنى من الجهر الذي لا يحبه اللَّه جهر المظلوم. وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء. وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} وقيل: ضاف رجل قوما فلم يطعموه، فأصبح شاكيا، فعوتب على الشكاية فنزلت، وقرئ {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} على البناء للفاعل للانقطاع. أي ولكن الظالم راكب ما لا يحبه اللَّه فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون {مَنْ ظُلِمَ} مرفوعا، كأنه قيل: لا يحب اللَّه الجهر بالسوء، إلا الظالم على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ثم حث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، بعد ما أطلق الجهر به وجعله محبوبا، حثا على الأحب إليه والأفضل عنده والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيبا للعفو، ثم عطفه عليهما اعتدادا به وتنبيها على منزلته، وأن له مكانا في باب الخير وسيطا. والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا أي يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة اللَّه.

.[سورة النساء: الآيات 150- 151]:

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا (151)}
جعل الذين آمنوا باللَّه وكفروا برسله أو آمنوا باللَّه وببعض رسله وكفروا ببعض كافرين باللَّه ورسله جميعا لما ذكرنا من العلة، ومعنى اتخاذهم بين ذلك سبيلا: أن يتخذوا دينا وسطا بين الإيمان والكفر كقوله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا} أي طريقا وسطا في القراءة وهو ما بين الجهر والمخافتة. وقد أخطؤا، فإنه لا واسطة بين الكفر والإيمان ولذلك قال أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي هم الكاملون في الكفر. و{حَقًّا} تأكيد لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد اللَّه حقا، أي حق ذلك حقا، وهو كونهم كاملين في الكفر، أو هو صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه.

.[سورة النساء: آية 152]:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}
فإن قلت: كيف جاز دخول بَيْنَ على أَحَدٍ وهو يقتضى شيئين فصاعدا؟ قلت: إن أحدا عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، تقول: ما رأيت أحدا، فتقصد العموم، ألا تراك تقول: إلا بنى فلان، وإلا بنات فلان فالمعنى: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة ومنه قوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ}، {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} معناه: أنّ إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتثبيته لا كونه متأخرا.

.[سورة النساء: الآيات 153- 159]:

{يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتابًا مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
روى أنّ كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وغيرهما قالوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
إن كنت نبيا صادقا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى. فنزلت. وقيل: كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان أنك رسول اللَّه، وقيل: كتابا نعاينه حين ينزل. وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت، قال الحسن: ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم، وفيما آتاهم كفاية فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى جواب لشرط مقدر. معناه: إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت جَهْرَةً عيانا بمعنى أرناه نره جهرة بِظُلْمِهِمْ بسبب سؤالهم الرؤية. ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصاعقة، فتبا للمشتبهة ورميا بالصواعق آتَيْنا مُوسى سُلْطانًا مُبِينًا تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا لك من سلطان مبين بِمِيثاقِهِمْ بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه وَقُلْنا لَهُمُ والطور مطل عليهم ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا ولا تعدوا في السبت، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك، وقولهم سمعنا وأطعنا، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد. وقرئ: {لا تعتدوا} و{لا تعدّوا}، بإدغام التاء في الدال فَبِما نَقْضِهِمْ فبنقضهم. «وما» مزيدة للتوكيد. فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ وما معنى التوكيد؟ قلت: إما أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا، وإما أن يتعلق بقوله: {حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ} على أنّ قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا} بدل من قوله: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ} وأما التوكيد فمعناه تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك. فإن قلت: هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها فيكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم طبع اللَّه على قلوبهم، بل طبع اللَّه عليها بكفرهم. قلت: لم يصح هذا التقدير لأنّ قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ} ردّ وإنكار لقولهم: {قُلُوبُنا غُلْفٌ} فكان متعلقًا به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم: {قُلُوبُنا غُلْفٌ} أنّ اللَّه خلق قلوبنا غلفًا، أي في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، كما حكى اللَّه عن المشركين وقالوا: {لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ} وكمذهب المجبرة أخزاهم اللَّه، فقيل لهم: بل خذلها اللَّه ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها، لا أن تخلق غلفًا غير قابلة للذكر ولا متمكنة من قبوله. فإن قلت: علام عطف قوله وَبِكُفْرِهِمْ؟ قلت: الوجه أن يعطف على: {فَبِما نَقْضِهِمْ} ويجعل قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ} كلامًا تبع قوله: {وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ} على وجه الاستطراد، يجوز عطفه على ما يليه من قوله: {بِكُفْرِهِمْ}. فإن قلت: ما معنى المجيء بالكفر معطوفًا على ما فيه ذكره، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب، أو على ما بعده، وهو قوله: {وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ} وقوله: {بِكُفْرِهِمْ}؟
قلت: قد تكرّر منهم الكفر، لأنهم كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد صلوات اللَّه عليهم، فعطف بعض كفرهم على بعض، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل:
فيجمعهم بين نقض الميثاق، والكفر بآيات اللَّه، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم، وافتخارهم بقتل عيسى، عاقبناهم. أو بل طبع اللَّه عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. والبهتان العظيم: هو التزنية. فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى عليه السلام، أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر بن الساحرة، والفاعل بن الفاعلة، فكيف قالوا: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ}؟ قلت: قالوه على وجه الاستهزاء، كقول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ويجوز أن يضع اللَّه الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعًا لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}. روى أنّ رهطًا من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم «اللهم أنت ربى وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي» فمسخ اللَّه من سبهما قردة وخنازير، فأجمعت اليهود على قتله، فأخبره اللَّه بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود، فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا فألقى عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل: كان رجلا ينافق عيسى، فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عيسى فرفع عيسى وألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى، ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنه إله لا يصح قتله. وقال بعضهم: إنه قتل وصلب. وقال بعضهم إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم رفع إلى السماء.