فصل: من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ جَعْلِ مَا تَقَدَّمَ جُمْلَةً تَامَّةً ظَاهِرٌ يُسِيغُهُ الْفَهْمُ بِغَيْرِ غُصَّةٍ، وَلَا يَعْتَرِضُ الذِّهْنَ فِيهِ شُبْهَةٌ وَلَا كَبْوَةٌ، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّ جُمْلَةَ {يُؤْمِنُونَ} إِلَخْ. حَالِيَّةٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ لَا خَبَرِيَّةٌ، أَوْ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ جُمْلَةُ {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} فِي آخِرِ الْآيَةِ. وَقَدْ رَاجَعْتُ تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تِقَدَّمَ فَإِذَا هُوَ يَجْزِمُ بِأَنَّ الرَّاسِخُونَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا هُوَ يُفَسِّرُ الرَّاسِخِينَ بِالْمُسْتَدِلِّينَ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَكُونُ بِحَيْثُ إِذَا شُكِّكَ يَشُكُّ، وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَتَشَكَّكُ أَلْبَتَّةَ، وَأَوْرَدَ فِي قَوْلِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَإِلَّا لَقَالَ: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ إِلَخْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ، هُمْ وَمُؤْمِنُو الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ.
وَأَمَّا قولُهُ، تَعَالَى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} فَهُوَ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، والْمُقِيمِينَ فِيهِ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوِ الْمَدْحِ، عَلَى مَا قَالَهُ النُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ سِيبَوَيْهَ وَغَيْرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَعْنِي أَوْ أَخُصُّ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَإِنَّهُمْ أَجْدَرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُوخِ فِي الْإِيمَانِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ أَوِ الْعِنَايَةِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، وَالنُّكْتَةُ هُنَا مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ مَزِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَكَوْنِ إِقَامَتِهَا آيَةَ كَمَالِ الْإِيمَانِ. عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ فِي كَلِمَةٍ بَيْنَ أَمْثَالِهَا يُنَبِّهُ الذِّهْنَ إِلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا، وَيَهْدِي الْفِكْرَ إِلَى اسْتِخْرَاجِ مَزِيَّتِهَا، وَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْبَلَاغَةِ، وَنَظِيرُهُ فِي النُّطْقِ أَنْ يُغَيِّرَ الْمُتَكَلِّمُ جَرَسَ صَوْتِهِ وَكَيْفِيَّةَ أَدَائِهِ لِلْكَلِمَةِ الَّتِي يُرِيدُ تَنْبِيهَ الْمُخَاطَبِ لَهَا؛ كَرَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ خَفْضِهِ أَوْ مَدِّهِ بِهَا، وَقَدْ عَدَّ مِثْلَ هَذَا بَعْضُ الْجَاهِلِينَ أَوِ الْمُتَجَاهِلِينَ مِنَ الْغَلَطِ فِي أَصَحِّ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُقِيمِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ عَلَى الرُّسُلِ، وَبِالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ أَنْفُسُهُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [21: 73] أَيْ: إِقَامَتُهَا، أَوِ الْمَلَائِكَةُ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [37: 165، 166] وَوَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [21: 20] وَالْإِيمَانُ بِهِمْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ كَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَبْلَغُ عِبَارَةً، وَإِنْ عَدَّهُ الْجَاهِلُ أَوِ الْمُتَجَاهِلُ غَلَطًا أَوْ لَحْنًا، وَرُوِيَ أَنَّ الْكَلِمَةَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعَةٌ {وَالْمُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ، وَعَمَّنْ قَرَأَهَا مَرْفُوعَةً؛ كَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَعِيسَى الثَّقَفِيِّ كَانَتْ قِرَاءَةً، وَإِلَّا فَهِيَ كَالْعَدَمِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ لَحْنًا سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَقَدْ ضَعَّفَ السَّخَاوِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَفِي سَنَدِهَا اضْطِرَابٌ وَانْقِطَاعٌ؛ فَالصَّوَابُ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَلَوْ صَحَّتْ لَمَا صَحَّ أَنْ يُعَدَّ مَا هُنَا مِنْ ذَلِكَ اللَّحْنِ؛ لِأَنَّهُ فَصِيحٌ بَلِيغٌ، وَإِنَّنِي بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ، رَاجَعْتُ الْكَشَّافَ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ لِبَيَانِ فَضْلِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ كَسَرَهُ سِيبَوَيْهَ عَلَى أَمْثِلَةٍ وَشَوَاهِدَ. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا زَعَمُوا مِنْ وُقُوعِهِ لَحْنًا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ مَنْ يَنْصُرُهُ فِي الْكِتَابِ أَيْ كِتَابِ سِيبَوَيْهَ وَلَمْ يَعْرِفْ مَذَاهِبَ الْعَرَبِ وَمَا لَهُمْ مِنَ النَّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ مِنْ الِافْتِنَانِ، وَغُبِّيَ عَلَيْهِ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ كَانُوا أَبْعَدَ هِمَّةً فِي الْغَيْرَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَذَبِّ الْمَطَاعِنِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا فِي كِتَابِ اللهِ ثُلْمَةً لِيَسُدَّهَا مَنْ بَعْدَهُمْ، وَخَرْقًا يَرْفُوهُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمْ. اهـ.
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَطْفًا عَلَى الرَّاسِخُونَ وَعَلَى ضَمِيرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. أَوْ كَذَلِكَ، أَيْ مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مِثْلَ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ بِالتَّبَعِ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَسْتَلْزِمُ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الَّذِي يُقِيمُ الصَّلَاةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَمْنَعَ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُعْلِي هِمَّتَهُ، وَتُزَكِّي نَفْسَهُ، فَيَهُونُ عَلَيْهِ مَالُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [70: 19- 22] إِلَخْ.
وَقَدْ يَرِدُ هاهنا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَ الْإِيمَانَ بِاللهِ قَبْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، سَوَاءٌ ذَكَرَ الْإِيمَانَ غُفْلًا مُطْلَقًا، أَوْ ذُكِرَتْ أَرْكَانُهُ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [18: 107] وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ وَكَقَوْلِهِ: {إِنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [2: 62] وَالْجَوَابُ: أَنِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَهَمُّ؛ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ لَا الْأَهَمُّ فِي ذَاتِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ تَخْطِئَةِ الْمُفَاخِرِينَ بِدِينِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [4: 124] بَعْدَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فَالسِّيَاقُ لِبَيَانِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَمَلِ بِالدِّينِ، لَا بِالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ وَإِلَى الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَالْفَخْرِ بِذَلِكَ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالسِّيَاقُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ هُوَ بَيَانُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عَصْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَكَانَ الْمُهِمُّ أَوَّلًا بَيَانَ إِيمَانِ خِيَارِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كَإِيمَانِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ قَبْلِهِ، ثُمَّ كَوْنُ هَذَا الْإِيمَانِ إِذْعَانِيًّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَاكْتَفَى مِنْهُ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْكَلَامَ بِوَصْفِهِمْ بِأَوَّلِ صِفَاتِ الْكَمَالِ؛ أَيْ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ كُلُّهُ سَنُعْطِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا، لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ مِنْهُمْ. اهـ.

.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وإنْ من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا}.
وقد اختلف السلف في مدلول هذه الآية، باختلافهم في عائد الضمير في موته فقال جماعة: وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى عليه السلام قبل موته- أي عيسى- وذلك على القول بنزوله قبيل الساعة.. وقال جماعة وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن بعيسى قبل موته.. أي موت الكتابي- وذلك على القول بأن الميت- وهو في سكرات الموت- يتبين له الحق، حيث لا ينفعه أن يعلم!
ونحن أميل إلى هذا القول الثاني؛ الذي ترشح له قراءة أبيّ: {إلا ليؤمننّ به قبل موتهم}.
فهذه القراءة تشير إلى عائد الضمير؛ وأنه أهل الكتاب.. وعلى هذا الوجه يكون المعنى: أن اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وما زالوا على كفرهم به، وقالوا: إنهم قتلوه وصلبوه، ما من أحد منهم يدركه الموت، حتى تكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح، فيرى أن عيسى حق، ورسالته حق، فيؤمن به، ولكن حين لا ينفعه إيمان.. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدًا.
بذلك يحسم القرآن الكريم قصة الصلب. ثم يعود بعدها إلى تعداد مناكر اليهود؛ وما نالهم عليها من الجزاء الأليم في الدنيا والآخرة.
{فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه. وأكلهم أموال الناس بالباطل. وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليمًا}.
فيضيف إلى ما سبق من مناكرهم هذه المنكرات الجديدة: الظلم. والصد الكثير عن سبيل الله. فهم ممعنون فيه ودائبون عليه. وأخذهم الربا- لا عن جهل ولا عن قلة تنبيه- فقد نهوا عنه فأصروا عليه! وأكلهم أموال الناس بالباطل. بالربا وبغيره من الوسائل.
بسبب من هذه المنكرات، ومما أسلفه السياق منها.. حرمت عليهم طيبات كانت حلالًا لهم. وأعد الله للكافرين منهم عذابًا أليمًا.
وهكذا تتكشف هذه الحملة عن كشف طبيعة اليهود وتاريخهم؛ وفضح تعلاتهم وعدم الاستجابة للرسول وتعنتهم؛ ودمغهم بالتعنت مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم؛ ويسر ارتكابهم للمنكر وجهرهم بالسوء في حق الأنبياء والصالحين. بل قتلهم والتبجح بقتلهم! وتسقط بذلك وتتهاوى دسائس اليهود في الصف المسلم وكيدهم ومكرهم وحبائلهم. وتعرف الجماعة المسلمة- ما ينبغي أن تعرفه الأمة المسلمة في كل حين- عن طبيعة اليهود وجبلتهم، ووسائلهم وطرائقهم؛ ومدى وقوفهم للحق في ذاته سواء جاء من غيرهم أو نبع فيهم. فهم أعداء للحق وأهله، وللهدى وحملته. في كل أجيالهم وفي كل أزمانهم. مع أصدقائهم ومع أعدائهم.. لأن جبلتهم عدوة للحق في ذاته؛ جاسية قلوبهم، غليظة أكبادهم لا يحنون رؤوسهم إلا للمطرقة! ولا يسلمون للحق إلا وسيف القوة مصلت على رقابهم.
وما كان هذا التعريف بهذا الصنف من الخلق، ليقصر على الجماعة المسلمة الأولى في المدينة. فالقرآن هو كتاب هذه الأمة ما عاشت، فإذا استفتته عن أعدائها أفتاها، وإذا استنصحته في أمرهم نصح لها؛ وإذا استرشدت به أرشدها. وقد أفتاها ونصح لها وأرشدها في شأن يهود، فدانت لها رقابهم.. ثم لما اتخذته مهجورًا دانت هي لليهود، كما رأيناها تتجمع فتغلبها منهم الشرذمة الصغيرة، وهي غافلة عن كتابها.. القرآن.. شاردة عن هدية، ملقية به وراءها ظهريًا! متبعة قول فلان وفلان!! وستبقى كذلك غارقة في كيد يهود وقهر يهود، حتى تثوب إلى القرآن.
ولا يترك السياق الموقف مع اليهود، حتى ينصف القليل المؤمن منهم؛ ويقرر حسن جزائهم، وهو يضمهم إلى موكب الإيمان العريق، ويشهد لهم بالعلم والإيمان، ويقرر أن الذي هداهم إلى التصديق بالدين كله: ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله، هو الرسوخ في العلم وهو الإيمان:
{لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا}.
فالعلم الراسخ، والإيمان المنير، كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله. كلاهما يقود إلى توحيد الدين الذي جاء من عند الله الواحد.
وذكر العلم الراسخ بوصفه طريقًا إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور، لفتة من اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك؛ كما تصور واقع النفس البشرية في كل حين. فالعلم السطحي كالكفر الجاحد، هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة.. ونحن نشهد هذا في كل زمان. فالذين يتعمقون في العلم، ويأخذون منه بنصيب حقيقي، يجدون أنفسهم أمام دلائل الإيمان الكونية؛ أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة، لا يجيب عليها إلا الاعتقاد بأن لهذا الكون إلهًا واحدًا مسيطرًا مدبرًا متصرفًا، وذا إرادة واحدة، وضعت ذلك الناموس الواحد.. وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى- المؤمنون- يفتح الله عليهم، وتتصل أرواحهم بالهدى.. أما الذين يتناوشون المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء، فهم الذين تحول قشور العلم بينهم وبين إدراك دلائل الإيمان، أو لا تبرز لهم- بسبب علمهم الناقص السطحي- علامات الاستفهام. وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق.. وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان، أو يجعل التدين عصبية جاهلية فيفرق بين الأديان الصحيحة التي جاءت من عند ديان واحد، على أيدي موكب واحد متصل من الرسل، صلوات الله عليهم أجمعين.
وقد ورد في التفسير المأثور أن هذه الإشارة القرآنية تعني- أول من تعني- أولئك النفر من اليهود، الذين استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم وذكرنا أسماءهم من قبل، ولكن النص عام ينطبق على كل من يهتدي منهم لهذا الدين، يقوده العلم الراسخ أو الإيمان البصير.
ويضم السياق القرآني هؤلاء وهؤلاء إلى موكب المؤمنين، الذين تعينهم صفاتهم:
{والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر}.
وهي صفات المسلمين التي تميزهم: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالله واليوم الآخر.. وجزاء الجميع ما يقرره الله لهم.
{أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا}.
ونلاحظ أن {المقيمين الصلاة} تأخذ إعرابًا غير سائر ما عطفت عليه.
وقد يكون ذلك لإبراز قيمة إقامة الصلاة في هذا الموضع على معنى- وأخص المقيمين الصلاة- ولها نظائر في الأساليب العربية وفي القرآن الكريم، لإبراز معنى خاص في السياق له مناسبة خاصة. وهي هكذا في سائر المصاحف وإن كانت قد وردت مرفوعة: {والمقيمون الصلاة} في مصحف عبد الله بن مسعود.
ويستطرد السياق في مواجهة أهل الكتاب- واليهود منهم في هذا الموضع خاصة- وموقفهم من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وزعمهم أن الله لم يرسله، وتفريقهم بين الرسل، وتعنتهم وهم يطلبون أمارة على رسالته: كتابًا ينزله عليهم من السماء.. فيقرر أن الوحي للرسول ليس بدعًا، وليس غريبًا، فهو سنة الله في إرسال الرسل جميعًا، من عهد نوح إلى عهد محمد. وكلهم رسل أرسلوا للتبشير والإنذار؛ اقتضت هذا رحمة الله بعباده، وأخذه الحجة عليهم، وإنذاره لهم قبل يوم الحساب.. وكلهم جاءوا بوحي واحد، لهدف واحد؛ فالتفرقة بينهم تعنت لا يستند إلى دليل.. وإذا أنكروا هم وتعنتوا فإن الله يشهد- وكفى به شاهدًا- والملائكة يشهدون. اهـ.