فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {ورُسلا قد قصصناهم عليك من قبل} يعني في آي القرآن مثل: هود، وصالح، وشعيب، وزكرياء، ويحيى، وإلياس، والْيسع، ولوط، وتبّع.
ومعنى قوله: {ورسلًا لم نقصصهم عليك} لم يذكرهم الله تعالى في القرآن، فمنهم من لم يرد ذكره في السنّة: مثل حنظلة بن صفوان نبيء أصحاب الرسّ، ومثل بعض حكماء اليونان عند بعض علماء الحكمة.
قال السهروردي في حكمة الإشراق: منهم أهل السفارة.
ومنهم من ذكرته السنّة: مثل خالد بن سنَان العبسي.
وإنَّما ذكر الله تعالى هنا الأنبياء الذين اشتهروا عند بني إسرائيل لأنّ المقصود محاجّتهم.
وإنَّما ترك الله أن يقصّ على النّبيء صلى الله عليه وسلم أسماء كثير من الرسل للاكتفاء بمن قصّهم عليه، لأنّ المذكورين هم أعظم الرسل والأنبياء قصصًا ذات عبر.
وقوله: {وكلم الله موسى تكليما} غُيّر الأسلوب فعُدل عن العطف إلى ذكر فعل آخر، لأنّ لهذا النّوع من الوحي مزيد أهمّيّة، وهو مع تلك المزيّة ليس إنزال كتاب من السماء، فإذا لم تكن عبرة إلاّ بإنزال كتاب من السماء حسب اقتراحهم، فقد بطل أيضًا ما عدا الكلمات العشر المنزّلة في الألواح على موسى عليه السّلام.
وكلام الله تعالى صفة مستقلّة عندنا، وهي المتعلّقة بإبلاغ مراد الله إلى الملائكة والرسلِ، وقد تواتر ذلك في كلام الأنبياء والرسل تواترا ثبت عند جميع المِلّيِّين، فكلام الله صفة له ثبتت بالشرع لا يدلّ عليها الدليل العقليّ على التحقيق إذ لا تدلّ الأدلّة العقلية على أنّ الله يجب له إبلاغ مراده الناس بل يجوز أن يُوجد الموجودات ثم يتركها وشأنَها، فلا يتعلّق علمه بحملها على ارتكاب حَسَن الأفعال وتجنّب قبائحها.
ألا ترى أنّه خلق العجماوات فما أمرها ولا نهى، فلو ترك النّاس فوضى كالحيوان لما ستحال ذلك.
وأنّه إذا أراد حمل المخلوقات على شيء يريده فطرها على ذلك فانساقت إليه بجبلاّتها، كما فطر النحل على إنتاج العسل، والشجر على الإثمار.
ولو شاء لحمل النّاس أيضًا على جِبِلّة لا يعدونها، غير أنَّنا إذ قد علمنا أنَّه عالم، وأنّه حكيم، والعلم يقتضي انكشاف حقائق الأشياء على ما هي عليه عنده، فهو إذ يعلم حسن الأفعال وقبحها، يريد حصول المنافع وانتفاء المضارّ، ويرضى بالأولى، ويكره الثّانية، وإذْ اقتضت حكمته وإرادته أن جعل البشر قابلًا للتعلّم والصلاح، وجعل عقول البشر صالحة لبلوغ غايات الخير، وغايات الشرّ، والتفنّن فيهما، بخلاف الحيوان الذي يبلغ فيما جبل عليه من خير أو شرّ إلى غاية فطر عليها لا يعدوها، فكان من المتوقّع طغيان الشرّ على الخير بعمل فريق الأشرار من البشر كان من مقتضى الحكمة أن يحمل النّاس على فعل الخير الذي يرضاه، وترككِ الشرّ الذي يكرهه، وحملُهم على هذا قد يحصل بخلق أفاضل النّاس وجبْلهم على الصلاح والخير، فيكونون دعاة للبشر، لكنّ حكمة الله وفضله اقتضى أن يخلق الصالحين القابلين للخير، وأن يعينهم على بلوغ ما جُبلوا عليه بإرشاده وهديه، فخلق النّفوس القابلة للنبوّة والرسالة وأمدّها بالإرشاد الدالّ على مراده المعبّر عنه بالوحي، كما اقتضاه قوله تعالى: {الله أعلم حيثُ يجعل رسالاته} [الأنعام: 124] فأثبت رسالة وتهيئة المرسَل لقبولها ومن هنا ثبتَت صفة الكلام.
فعلمنا بأخبار الشريعة المتواترة أنّ الله أراد من البشر الصلاح وأمرهم به، وأن أمره بذلك بلغ إلى البشر في عصور، كثيرة وذلك يدلّ على أنّ الله يرضى بعض أعمال البشر ولا يرضى بعضها وأنّ ذلك يسمّى كلامًا نفسيًا، وهو أزلي.
ثُمّ إنّ حقيقة صفة الكلام يحتمل أن تكون من متعلَّقات صفة العلم، أو من متعلَّقات صفة الإرادة، أو صفة مستقلّة متميّزة عن الصفتين الأخريين؛ فمنهم من يقول: عَلم حاجة النّاس إلى الإرشاد فأرشدهم، أو أرادَ هَدي الناس فأرشدهم.
ونحن نقول: إنّ الإلهية تقتضي ثبوت صفات الكمال الّتي منها الرضا والكراهيّة والأمر والنهي للبشر أو الملائكة، فثبتت صفة مستقلّة هي صفة الكلام النفسي؛ وكلّ ذلك متقارب، وتفصيله في علم الكلام.
أمّا تكليم الله تعالى بعض عباده من الملائكة أو البشر فهو إيجاد ما يعرِف منه الملَك أو الرسول أنّ الله يأمر أوْ ينهَى أو يخبر.
فالتكليم تعلُّق لصفة الكلام بالمخاطب على جَعْل الكلام صفة مستقِلّة، أو تعلّق العِلم بإيصال المعلوم إلى المخاطب، أو تعلّق الإرادة بإبلاغ المراد إلى المخاطب.
فالأشاعرة قالوا: تكليم الله عبده هو أن يخلق للعبد إدراكًا من جهة السمع يتحصّل به العلم بكلام الله دون حروف ولا أصوات.
وقد ورد تمثيله بأنّ موسى سمع مِثْل الرعد عَلِم منه مدلول الكلام النفسي.
قلت: وقد مثّله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة: «إنّ الله تعالى إذا قضى الأمر في السماء ضرَبَتْ الملائكة بأجنحتها خُضْعَانًا لقولِهِ كأنَّه سِلْسِلَة على صَفْوَانٍ فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربّكم، قالوا للّذي قال: {الحقّ وهو العليّ الكبير}» فعلى هذا القول لا يلزم أن يكون المسموع للرسول أو الملك حروفًا وأصواتًا بل هو علم يحصل له من جهة سمعه يتّصل بكلام الله، وهو تعلّق من تعلّقات صفة الكلام النفسي بالمكلِّم فيما لا يَزال، فذلك التعلّق حادث لا محالة كتعلّق الإرادة.
وقالت المعتزلة: يخلق الله حروفًا وأصواتًا بلغة الرسول فيسمعها الرسول، فيعلم أنّ ذلك من عند الله، بعلم يجده في نفسه، يعلم به أنّ ذلك ورد إليه من قِبَل الله، إلاّ أنَّه ليس بواسطة الملك، فهم يفسّرونه بمثل ما نفسّر به نحن نزول القرآن؛ فإسناد الكلام إلى الله مجاز في الإسناد، على قولهم، لأنّ الله منزّه عن الحروف والأصوات.
والكلام حقيقة حروف وأصوات، وهذه سفسطة في الدليل لأنّه لا يقول أحد بأنّ الحروف والأصوات تتّصف بها الذات العليّة.
وهو عندنا وعندهم غير الوحي الذي يقع في قلب الرسول، وغير التبليغ الذي يكون بواسطة جبريل، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {أوْ مِنْ وراء حِجاب} [الشورى: 51].
أمّا كلام الله الواردُ للرسول بواسطة الملَك وهو المعبّر عنه بالقرآن وبالتّوراة والإنجيل وبالزّبور: فتلك ألفاظ وحروف وأصوات يعلِّمها الله للملك بكيفية لا نعلمها، يَعلَم بها الملَكُ أنّ الله يَدلّ، بالألفاظ المخصوصة الملقاةِ للملَك، على مدلولاتتِ تلك الألفاظ فيلقيها الملَك على الرسول كما هي قال تعالى: {أو يرسلُ رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] وقال: {نزل به الروح الأمين على قبلك لتكون من المنذِرين بلسان عربيّ مُبين} [الشعراء: 193 195].
وهذا لا يمتري في حدوثه من له نصيب من العلم في الدّين.
ولكن أمسك بعض أئمّة الإسلام عن التصريح بحدوثه، أو بكونه مخلوقًا، في مجالس المناظرة التي غشيتْها العامَّة، أو ظُلمة المكابرة، والتحفّز إلى النبز والأذَى: دفعًا للإيهام، وإبقاء على النسبة إلى الإسلام، وتنصّلًا من غوغاء الطغام، فَرَحم الله نفوسًا فُتنت، وأجسَادًا أوجعت، وأفواهًا سكتت، والخير أرادوا، سواء اقتصدوا أم زادوا.
والله حسيب الذين ألّبوا عليهم وجمعوا، وأغروا بهم وبئس ما صنعوا.
وقوله: {تكليمًا} مصدر للتوكيد.
والتوكيد بالمصدر يرجع إلى تأكيد النسْبة وتحقيقها مثل (قَدْ) و(إنّ)، ولا يقصد به رفع احتمال المجاز، ولذلك أكّدت العرب بالمصدر أفعالًا لم تستعمل إلاّ مجازًا كقوله تعالى: {إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرًا} فإنَّه أراد أنّه يطهّرهم الطهارة المعنوية، أي الكمال النفسي، فلم يفد التأكيد رفع المجاز.
وقالت هند بنت النعمان بن بشير تذمّ زوجها رَوْح بن زِنْباع:
بَكَى الخَزّ من رَوْح وأنْكَرَ جِلْده ** وعجَّتْ عجيجًا من جُذَامَ المَطَارف

وليس العجيج إلاّ مجازًا، فالمصدر يؤكِّد، أي يُحقِّق حصول الفعْل الموكَّد على ما هو عليه من المعنى قبل التَّأكيد.
فمعنى قوله: {تكليمًا} هنا: أنّ موسى سمع كلامًا من عند الله، بحيث لا يحتمل أنّ الله أرسل إليه جبريل بكلام، أو أوحى إليه في نفسه.
وأمّا كيفية صدور هذا الكلام عن جانب الله فغرض آخر هو مجال للنظر بين الفِرق، ولذلك فاحتجاج كثير من الأشاعرة بهذه الآية على كون الكلام الَّذي سمعه موسى الصفة الذاتية القائمة بالله تعالى احتجاج ضعيف.
وقد حكى ابن عرفة أنّ المازري قال في شرح التلقين: إنّ هذه الآية حجّة على المعتزلة في قولهم: إنّ الله لم يكلّم موسى مباشرة بل بواسطة خَلق الكلام لأنَّه أكَّده بالمصدر، وأنّ ابن عبد السلام التّونسي، شيخ ابن عرفة، ردّه بأنّ التأكيد بالمصدر لإزالة الشكّ عن الحديث لا عن المحدّث عنه.
وتعقّبه ابن عرفة بما يؤول إلى تأييد ردّ ابن عبد السلام. اهـ.

.قال الزمخشري:

ومن بدع التفاسير أنه من الكَلْم، وأن معناه وجرّح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} وهو منتهى مراتب الوحي خص به موسى من بينهم، وقد فضل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}
سُنَّةُ الله في أوليائه سترُ قومٍ، وشَهْرُ قومٍ، وبذلك جَرَتْ سُنَّتُه أيضًا في الأنبياء- عليهم السلام- أظهر أسماء قومٍ وأجمل تفصيل آخرين. والإيمان واجب بجميع الأنبياء جملة وتفصيلًا، كما أنّ الاحترام واجب لجميع الأولياء جملة وتفصيلًا، وكذلك أحوال العباد ستر عليهم بعضًا وأظهر لهم بعضها، فما أظهرها لهم- طالبهم بالإخلاص فيها، وما سترها عليهم- فلأنه غار على قلوبهم من ملاحظة أحوالهم تأهيلًا لهم للاختصاص بحقائق أفردهم بمعانيها.
{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}: إخبار عن تخصيصه إياه باستماع كلامه بلا واسطة. اهـ.

.من فوائد ابن كثير في الآية:

وقوله: {وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أي: من قبل هذه الآية، يعني: في السور المكية وغيرها.
وهذه تسمية الأنبياء الذين نُصَّ على أسمائهم في القرآن، وهم: آدم وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، والْيَسَع، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلى الله وعليه وسلم.