فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

{رُّسُلًا مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي أرسلنا رسلًا مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار {لِئَلاَّ يَكُونَ} يقول: لكيلا يكون {لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} يعني: بعد إرسال الرسل، كي لا يقولوا يوم القيامة إنك لم ترسل إلينا رسولًا.
ولو أن الله تعالى لم يرسل رسولًا كان ذلك عدلًا منه إذ أعطى كل واحد من خلقه من العقل ما يعرفه، ولكن أرسل تفضلًا منه، ولكي يكون زيادة في الحجة عليهم.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا}.
{عَزِيزًا} بالنقمة لمن يجحده {حَكِيمًا} حكم إرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام. اهـ.

.قال الفخر:

احتج أصحابنا بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى لا يثبت إلا بالسمع قالوا لأن قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} يدل على أن قبل البعثة يكون للناس حجة في ترك الطاعات والعبادات، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءاياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134]. اهـ.

.قال القرطبي:

{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولًا.
وما أنزلت علينا كتابًا؛ وفي التنزيل {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134] وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شيء من ناحية العقل.
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف.
وقال مقاتل: كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا.
وروى أنَس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثتُ على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل» ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له؛ ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذرّ الغِفاري قال: قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون؟ قال: «كانت الأنبياء مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر».
قلت: هذا أصح ما روي في ذلك؛ خرجه الآجُرِّي وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له. اهـ.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: دلت هذه الآية على أن العبد قد يحتج على الرب، وأن الذي يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا اعتراض عليه في شيء، وأن له أن يفعل ما يشاء كما يشاء ليس بشيء قالوا: لأن قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} يقتضي أن لهم على الله حجة قبل الرسل، وذلك يبطل قول أهل السنة.
والجواب: المراد لئلا يكون للناس على الله حجة أي ما يشبه الحجة فيما بينكم.
قالت المعتزلة: وتدل هذه الآية أيضًا على أن تكليف ما لا يطاق غير جائز لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذرًا فبأن يكون عدم المكنة والقدرة صالحًا لأن يكون عذرًا كان أولى، وجوابه المعارضة بالعلم، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة} أي: لئلا يحتجوا في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل، لأن هذه الأشياء إِنما تجب بالرُسُلِ. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرفوا أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منهيون عن الغفلة، وباعثون على النظر كما ترى علماء العدل والتوحيد، مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف وتعلم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميمًا لإلزام الحجة لئلا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولًا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له انتهى.
وقوله: لئلا هو كالتعليل لحالتي: التبشير والإنذار.
والتبشير هو بالجنة، والإنذار هو بالنار.
وليس الثواب والعقاب حاكمًا بوجوبهما العقل، وإنما هو مجوّز لهما، وجاء السمع فصارا واجبًا وقوعهما، ولم يستفد وجوبهما إلا من البشارة والنذارة.
فلو لم يبشر الرسل بالجنة لمن امتثل التكاليف الشرعية، ولم ينذروا بالنار من لم يمتثل، وكانت تقع المخالفة المترتب عليها العقاب بما لا شعور للمكلف بها من حيث أن الله لا يبعث إليه من يعلمه بأنّ تلك معصية، لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير من فعله، وأنه يترتب عليه العقاب.
وأما ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية فهي موصلة إلى المعرفة والإيمان بالله على ما يجب، والعلل في الآية هو غير المعرفة والإيمان بالله، فلا يرد سؤال الزمخشري. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {رُّسُلًا مُّبَشْرِينَ وَمُنذِرِينَ}.
وقَفَ الخلْقَ عند مقاديرهم؛ وبيَّن أنه أرسل إليهم الرسل فتفردوا عليهم إلى اجتباء ثوابهم، واجتناب ما فيه استحقاق عذابهم، وأنه ليس للخلْق سبيل إلى راحة يطلبونها ولا إلى آفة يجتنبونها إما في الحال أو في المآل.
قوله جلّ ذكره: {لِئِلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.
أنَّى يكون لمن له إلى الله حاجة على الله حُجَّة؟! ولكنَّ الله خاطبهم على حسب عقولهم. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{رُّسُلًا مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} نصب على المدح، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال من {رُسُلًا} [النساء: 164] الذي قبله، أو ضميره وهي حال موطئة، والمقصود وصفها.
وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها، وجوز أن يكون نصبًا على البدلية من {رُسُلًا} الأول، وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظًا بعيد، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي مبشرين من آمن وأطاع بالجنة والثواب ومنذرين من كفر وعصى بالنار والعقاب.
{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ} أي معذرة يعتذرون بها قائلين {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه: 134] فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها.
فالآية ظاهرة في أنه لابد من الشرع وإرسال الرسل؛ وأن العقل لا يغني عن ذلك، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار، فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة، وسيأتي ردّ ذلك إن شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث.
وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها، فلا يبطل قول أهل السنة أنه لا اعتراض لأحد على الله تعالى في فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء، واللام متعلقة بأرسلنا المقدر، أو بمبشرين ومنذرين على التنازع، وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه، و{حُجَّةٌ} اسم كان وخبرها {لِلنَّاسِ} و{عَلَى الله} حال من {حُجَّةٌ} ويجوز أن يكون الخبر {عَلَى الله} و{لِلنَّاسِ} حال، ولا يجوز أن يتعلق على بحجة لأنها مصدر ومعموله لا يتقدم عليه، ومن جوزه في الظرف جوزه هنا.
وقوله تعالى: {بَعْدَ الرسل} أي بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم ظرف لحجة، وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر كما يخبر به عنها {وَكَانَ الله عَزِيزًا} لا يغالب في أمر يريده.
{حَكِيمًا} في جميع أفعاله، ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة مسألة المتعنتين، وقطع الحجة بإرسال الرسل وتنوع الوحي إليهم والإعجاز، وقيل: عزيزًا في عقاب الكفار حكيمًا في الإعذار بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب الله تعالى. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{رّسُلًا مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [165]
{رّسُلا} أي: كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلًا: {مّبَشّرِينَ} بالجنة لمن آمن.
{وَمُنذِرِينَ} من النار لمن كفر: {لِئَلاّ} لكيلا.
{يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ} يوم القيامة أي: معذرة يعتذرون بها قائلين: لولا أرسلت إلينا فيبين لنا شرائعك، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك، لقصور القوة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها، كما في قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134] الآية.
وإنما سميت حجة، مع استحالة أن يكون لأحد عليه، سبحانه، حجة في فعل من أفعاله، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء- للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى، بمقتضى كرمه ورحمته لعباده، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها، ولذلك قال تعالى: {وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]،، أفاده أبو السعود.
وفي الصحيحين عن المغيرة: «لاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المرسلين مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ».
وقوله تعالى: {بَعْدَ الرّسُلِ} أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
متعلق بـ {حجة} أو بمحذوف وقع صفة لها، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل، كما قال تعالى: {وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى، لا تثبت إلا بالسمع: {وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا} يعني في انتقامه ممن خاف أمره وعصى رسله: {حَكِيمًا} في بعث الرسل للإنذار.
تنبيه:
أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل، وإلى وظيفتهم عليه السلام، قال العلامة السيد محمد عبده، مفتي مصر في رسالة التوحيد في هذا المبحث: أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإِنسَاْن على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإِنسَاْن وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم والكتاب للتراسل- أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعِدّ لها، بمحض فضله، بعض من يصطفيه من خلقه؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يلقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم، لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها ثم يتلقون من أمره عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لابد لهم من علمه، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة، تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات، حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلًا من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين.