فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

ومعنى {أنزله بعلمه} أي متلبّسًا بعلمه، أي بالغًا الغاية في باب الكتب السماوية، شأن ما يكون بعلم من الله تعالى، ومعنى ذلك أنّه معجز لفظًا ومعنى، فكما أعجز البلغاء من أهل اللّسان أعجز العلماءَ من أهل الحقائق العالية.
والباء في قوله: {وكفَى بالله شهيدًا} زائدة للتَّأكيد، وأصله: كفى الله شهيدًا كقوله:
كفَى الشيبُ والإسلام للمرء ناهيًا

أو يضمّن (كفى) معنى اقتنِعوا، فتكون الباء للتعدية. اهـ.

.قال الفخر:

قال أصحابنا: دلت الآية على أن لله تعالى علمًا، وذلك لأنها تدل على إثبات علم الله تعالى، ولو كان علمه نفس ذاته لزم إضافة الشيء إلى نفسه وهو محال. اهـ.
قال الفخر:
{والملائكة يَشْهَدُونَ} وإنما تعرف شهادة الملائكة له بذلك لأن ظهور المعجز على يده يدل على أنه تعالى شهد له بالنبوة، وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة لا محالة بذلك لما ثبت في القرآن أنهم لا يسبقونه بالقول، والمقصود كأنه قيل: يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك، وملائكة السموات السبع يصدقونك في ذلك، ومن صدقه ربّ العالمين وملائكة العرش والكرسي والسموات السبع أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس، وهم هؤلاء اليهود. اهـ.

.قال الخازن:

{وكفى بالله شهيدًا} يعني وحسبك يا محمد أن الله يشهد لك وكفى بالله شهيدًا وإن لم يشهد معه أحد غيره ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن شهادة أهل الكتاب له فإن الله يشهد له وملائكته كذلك. اهـ.

.قال القرطبي:

{والملائكة يَشْهَدُونَ} ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم.
{وكفى بالله شَهِيدًا} أي كفى الله شاهدًا، والباء زائدة. اهـ.

.قال الألوسي:

{والملائكة يَشْهَدُونَ} أيضًا بما شهد الله تعالى به لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة، والجملة عطف على ما قبلها، وقيل: حال من مفعول {أَنزَلَهُ} أي أنزله والملائكة يشهدون بصدقه وحقيته، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه صلى الله عليه وسلم في دعواه بإتيانهم لإعانته عليه الصلاة والسلام في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر، وأيًا مّا كان فيشهدون من الشهادة، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود للحفظ {وكفى بالله شَهِيدًا} على ما شهد به لك حيث نصب الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ في ذلك على وجه لا يحتاج معه إلى شهادة غيره عز وجل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)}
سلاّه الله عن تكذيب الخلق إياه بما ذكره من علم الله بصدقه، ولذلك قال: {وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا}. اهـ.

.من فوائد البيضاوي في الآية:

قال رحمه الله:
{لكن الله يَشْهَدُ} استدراك عن مفهوم ما قبله فكأنه لما تعنتوا عليه بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، واحتج عليهم بقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} قال: إنهم لا يشهدون ولكن الله يشهد، أو أنهم أنكروه ولكن الله يثبته ويقرره. {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} من القرآن المعجز الدال على نبوتك. روي أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك فنزلت. {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أنزله متلبسًا بعلمه الخاص به، وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ، أو بحال من يستعد للنبوة ويستأهل نزول الكتاب عليه، أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم، فالجار والمجرور على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث حال من المفعول، والجملة كالتفسير لما قبلها {والملائكة يَشْهَدُونَ} أيضًا بنبوتك. وفيه تنبيه على أنهم يودون أن يعلموا صحة دعوى النبوة على وجه يستغني عن النظر والتأمل، وهذا النوع من خواص الملك ولا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك سوى الفكر والنظر، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك وشهدوا بها كما عرفت الملائكة وشهدوا. {وكفى بالله شَهِيدًا} أي وكفى بما أقام من الحجج على صحة نبوتك عن الاستشهاد بغيره. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ}
وساعة نسمع لكن فمعنى ذلك أن هناك استدراكًا. وقوله الحق: {لكن الله يَشْهَدُ} نأخذ منها بلاغًا من الحق. خصومك يا محمد لا يشهدون أنك أهل لهذه الرسالة، ويستدرك الله عليهم ويوضح لهم أنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بقانون صيانته. ومنهج الله إلى البشر بواسطة الرسل هو قانون صيانة ذلك الإنسان.
وإذا كان أهل الكتاب لا يشهدون بما أنزل الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وينكرون ما في كتبهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم كرسول خاتم، فإن الله يشهد وكفى بالله شهيدًا.
لقد أنزل القرآن بعلمه، وهو الذي لا تخفى عليه خافية، وهو الذي خلق كل الخلق ويعلم- وهو العليم- ما يصلح للبشر من قوانين. وفي أعرافنا البشرية نجد أن الذي يصنع الصنعة يضع قانون صيانتها لتؤدي مهمتها كما ينبغي، كذلك الله الذي خلق الإنسان، هو سبحانه الذي وضع له قانون صيانته بافعل ولا تفعل. ولذلك يقول الحق: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14]
ونجد الإنسان منا يذهب بساعته إلى عامل إصلاح الساعات فيكشف عليها ويقرر ما فيها من فساد، فما بالنا بخالق الإنسان. إنّ العبث الذي يوجد في العالم سببه أن الناس قد استقبلوا خلق الله لهم، ولم يدع أحد أنه خلق نفسه أو خلق غيره، ومع ذلك يحاولون أن يقننوا قوانين صيانة للإنسان خارجة عن منهج الله.
ونقول: دعوا خالق الإنسان، يضع لكم قانون صيانة الإنسان بافعل ولا تفعل وإن أردتم أن تشرِّعوا، فلتشرعوا في ضوء منهج الله، وإن حدث أي عطب في الإنسان فلنرده إلى قانون صيانة الصانع الأول وهو القرآن؛ لأن المتاعب إنما تنبع من أن الإنسان يتناسى في بعض الأحيان أنه من صنعة الله، ويحاول أن يصنع لنفسه قانون صيانة بعيدًا عن منهج الله، والذي يزيل متاعب الإنسانية هو أن تعود إلى قانون صيانتها الذي وضعه الخالق تبارك وتعالى.
{لكن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ} والملائكة تشهد لأنها نالت شرف أن يكون المبلغ لرسول الله منهم وهو جبريل عليه السلام، وهم أيضًا الذين يحسبون حسابات العمل الصالح أو الفاسد للإنسان ويكتبونها في صحيفته، وهم كذلك الذين حملوا ما في اللوح المحفوظ وبلغوا ما أمروا بتبليغه وهم يعرفون الكثير {وكفى بالله شَهِيدًا} لماذا لم يقل الله هنا وكفى بالله وبالملائكة شهودًا؟. لأن الحق سبحانه وتعالى لا يأخذ شهادة الملائكة تعزيزًا لشهادته.
ونحن لا نأخذ شهادة الملائكة تعزيزًا لشهادة الله وإلا كانت الملائكة أوثق عندنا من الله. وسبحانه يؤرخ شهادة الناس وشهادة الملائكة، لكنك يا رسول الله تكفيك شهادة الله. اهـ.

.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورًا. ورسلًا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلًا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليمًا رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وكان الله عزيزًا حكيمًا}.
فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول، ورسالة واحدة بهدى واحد للإنذار والتبشير.. موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بين البشر: نوح. وإبراهيم. وإسماعيل. وإسحاق. ويعقوب. والأسباط. وعيسى. وأيوب. ويونس. وهارون. وسليمان. وداود. وموسى... وغيرهم ممن قصهم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن، وممن لم يقصصهم عليه.. موكب من شتى الأقوام والأجناس، وشتى البقاع والأرضين. في شتى الآونة والأزمان. لا يفرقهم نسب ولا جنس، ولا أرض ولا وطن. ولا زمن ولا بيئة. كلهم آت من ذلك المصدر الكريم. وكلهم يحمل ذلك النور الهادي. وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير. وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور.. سواء منهم من جاء لعشيرة. ومن جاء لقوم. ومن جاء لمدينة ومن جاء لقطر.. ثم من جاء للناس أجمعين: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.
كلهم تلقى الوحي من الله. فما جاء بشيء من عنده. وإذا كان الله قد كلم موسى تكليمًا فهو لون من الوحي لا يعرف أحد كيف كان يتم. لأن القرآن- وهو المصدر الوحيد الصحيح الذي لا يرقى الشك إلى صحته- لم يفصل لنا في ذلك شيئًا. فلا نعلم إلا أنه كان كلامًا.
ولكن ما طبيعته؟ كيف تم؟ بأية حاسة أو قوة كان موسى يتلقاه؟... كل ذلك غيب من الغيب لم يحدثنا عنه القرآن. وليس وراء القرآن- في هذا الباب- إلا أساطير لا تستند إلى برهان.
أولئك الرسل- من قص الله على رسوله منهم ومن لم يقصص- اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده يبشرونهم بما أعده الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان؛ وينذرونهم ما أعده الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب.. كل ذلك:
{لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق؛ وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ولكنه سبحانه رحمة منه بعباده، وتقديرًا لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم- أداة العقل- اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل {مبشرين ومنذرين} يذكرونهم ويبصرونهم؛ ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق.
{وكان الله عزيزًا حكيمًا}.
عزيزًا: قادرًا على أخذ العباد بما كسبوا. حكيمًا: يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه.. والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره الله في هذا الأمر وارتضاه.
ونقف من هذه اللفتة: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثًا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال.
نقف منها: أولًا: أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا الإنسان قضية الإيمان بالله؛ التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها؛ بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها؛ كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى.
لو كان الله سبحانه وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها، يعلم أن العقل البشري، الذي وهبه للإنسان، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده؛ يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب؛ ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ؛ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم؛ وتبليغهم عن ربهم؛ ولما جعل حجة الناس عنده سبحانه هي عدم مجيء الرسل إليهم: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.. ولكن لما علم الله سبحانه أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى- بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط- وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة؛ وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة.