فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله.. وإلا فهي التبعة الثقيلة. تبعة ضلال البشرية كلها؛ وشقوتها في هذه الدنيا، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله، وعدم النجاة من النار.
فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟!
إن الذي يقول: إنه مسلم إما أن يبلغ ويؤدي هكذا. وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى.. إنه حين يقول إنه مسلم ثم لا يبلغ ولا يؤدي.. كل ألوان البلاغ والأداء هذه، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلًا من أداء شهادة له، تحقق فيه قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا} وتبدأ شهادته للإسلام، من أن يكون هو بذاته. ثم ببيته وعائلته. ثم بأسرته وعشيرته، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه.. وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامه بدعوة الأمة- بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة- إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها.. الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق.. فإذ استشهد في هذا فهو إذن شهيد أدى شهادته لدينه، ومضى إلى ربه.
وهذا وحده هو الشهيد.
وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته؛ ممثلة في علمه، وعدله، ورعايته، وفضله، ورحمته وبره.. بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى.
نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن؛ وما أودعه من القوى والطاقات؛ وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال. وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله وحده.. على عظمة هذه الأداة التي وهبها له؛ وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان.. فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات؛ وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى، ويحجبها الجهل والقصور.. ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال- إلا بعد الرسالة والبيان- ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله.. ثم ترك له ما وراء ذلك- وهو ملك عريض- يبدع فيه ما شاء، ويغير فيه ما شاء، ويركب فيه ما شاء، ويحلل فيه ما شاء. منتفعًا بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطئ عقله ويصيب، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق!
ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله سبحانه لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين. هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق، ووحدانيته، وتدبيره وتقديره، وقدرته وعلمه.. ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس.. ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج.. ولكن الله سبحانه بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها، فتعطلها، أو تفسدها، أو تطمسها، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط، قد أعفى الناس من حجية الكون، وحجية الفطرة، وحجية العقل، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة، هذه الأجهزة، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي.. وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع؛ أو تسقط حجتها وتستحق العقاب.
ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره، على ما يعلم به من ضعف ونقص؛ فيكل إليه هذا الملك العريض.. خلافة الأرض.. وهو بالقياس إليه ملك عريض! وإن كان في ملك الله ذرة تمسكها يد الله فلا تضيع في ملكه الكبير!
ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس؛ ومن عقل هاد ولكنه يضل؛ بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى.
وهو يكذب ويعاند؛ ويشرد وينأى؛ فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه؛ ولا يحبس عنه بره وعطاياه، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة.. ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل؛ فيعرض ويكفر، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب.
ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه.. استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره.. استغنى عن هدايته ودينه ورسله.. استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه- ما لم تقوّم بمنهج الله- فلم يكتب عليه عقابًا إلا بعد الرسالة والبيان.. فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده، ليتكفأ ويتعثر! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة. إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه؛ وإنماء قدرات ممكنة النماء؛ وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب.. أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد الله، ويتنكب هداه، فإن كينونته- بكل ما يكمن فيها من قوى- يعلم الله أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد الله وهداه. وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة الله. وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها، وتنكبت هداه!
وخطأ وضلال- إن لم يكن هو الخداع والتضليل- كل زعم يقول: إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة.. فالعقل ينضبط- مع الرسالة- بمنهج النظر الصحيح؛ فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلًا، وتركت للفوضى والمصادفة! وشتان شتان!
وآية أن ما يتم بالرسالة- عن طريق العقل نفسه- لا يمكن أن يتم بغيرها؛ فلا يغني العقل البشري عنها.. أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلًا واحدًا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة.. لا في تصور اعتقادي؛ ولا في خلق نفسي، ولا في نظام حياة، ولا في تشريع واحد لهذا النظام.
إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعًا.. بل إنهم ليقولون: إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية- بعيدًا عن رسالة الله وهداه- فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه- كما وصفه- رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديًا بهدى الرسالة.
وقد وصل أخناتون- في مصر القديمة- إلى عقيدة التوحيد- وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف- فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة.
وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية.
وفي المبادئ والنظم والتشريعات لا نجد أبدًا ذلك التناسق والتوازن، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته. ولا نجد أبدًا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها.
إنه ليس المستوى الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم. فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها العلم الصاعد.. ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها.. هو التوازن الذي ينشئ السعادة والطمأنينة، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة.. والفترة التي عاشت بالإسلام كاملًا لم تبلغها البشرية- بعيدًا عن الرسالة- في أي عصر.. والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام؛ مهما التمعت بعض الجوانب؛ ومهما تضخمت بعض الجوانب. فإنما تلتمع لتنطفئ جوانب أخرى. وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى.. والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى.
ونقف عند هذا الحد- المناسب لسياق الظلال- في الحديث عن الإيحاءات القوية العميقة، التي يثيرها في النفس قول الله تعالى: {رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
لنمضي بعدها مع السياق القرآني: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك. أنزله بعلمه. والملائكة يشهدون. وكفى بالله شهيدًا}.
فإذا أنكر أهل الكتاب هذه الرسالة الأخيرة- وهي جارية على سنة الله في إرسال الرسل لعباده {مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وأهل الكتاب يعترفون بالرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم اليهود يعترفون بمن قبل عيسى عليه السلام والنصارى يعترفون بهم، وبعيسى الذي ألهوه كما سيجيء.. فإذا أنكروا رسالتك- يا محمد- فلا عليك منهم. فلينكروا: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك. أنزله بعلمه. والملائكة يشهدون. وكفى بالله شهيدًا}.
وفي هذه الشهادة من الله.. ثم من ملائكته ومنهم من حملها إلى رسوله.. إسقاط لكل ما يقوله أهل الكتاب. فمن هم والله يشهد؟ والملائكة تشهد؟ وشهادة الله وحدها فيها الكفاية؟!
وفي هذه الشهادة تسرية عن الرسول صلى الله عليه وسلم وما يلقاه من كيد اليهود وعنتهم.
وفيها كذلك تصديق وتثبيت وتطمين للمسلمين- في أول عهدهم بالإسلام بالمدينة- أمام حملة يهود التي يدل على ضخامتها هذه الحملة القرآنية المنوعة الأساليب والإيحاءات في ردها والقضاء عليها.
وعندئذ يجيء التهديد الرعيب للمنكرين في موضعه، بعد شهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة بكذبهم وتعنتهم والتوائهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {لكن الله يَشْهَدُ} هذه الجملة الاستدراكية لا يبتدأ بها، فلابد من جملة محذوفة، وتكون هذه الجملةُ مستدركةً عنها، والجملة المحذوفةُ هي ما رُويَ في سبب النزول؛ أنه لَمَّا نَزَلَت: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الآية: 163 النساء]، قالوا: ما نشهد لك بهذا أبدًا، فنزلت: {لكن الله يَشْهَدُ}، وقد أحسن الزمخشريُّ هنا في تقدير جملةٍ غيرِ ما ذكرتُ، وهو: فإنْ قلْتَ: الاستدراكُ لابد له من مُسْتدركٍ، فأيْنَ هو في قوله: {لكن الله يَشْهَدُ}؟ قلتُ: لمَّا سأل أهلُ الكتاب إنزال الكتاب من السماء، وتعنَّتوا بذلك، واحتجَّ عليهم بقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} قال: {لكن الله يَشْهَدُ} بمعنى أنهم لا يشهدون، لكن اللَّهُ يَشْهَدُ، ثم ذكر الوجه الأول.
وقرأ الجمهور بتخفيفِ لَكِن ورفعِ الجلالة، والسُّلَمِيُّ والجرَّاح الحكمي بتشديدها ونَصْب الجلالة، وهما كالقراءتين في {ولكن الشياطين} [البقرة: 102] وقد تقدَّم، والجمهورُ على أنْزَلَهُ مبينًا للفاعل، وهو الله تعالى، والحسن قرأه {أُنْزِلَ} مبنيًّا للمفعول، وقرأ السلميُّ {نَزَّلَهُ بِعِلْمِهِ} مشدَّدًا، والباء في {بعلْمِهِ} للمصاحبة، أي: ملتبسًا بعلمه، فالجارُّ والمجرور في محلِّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: الهاءُ في {أنْزَلَهُ}.
والثاني: الفاعل في {أنْزَلَهُ} أي: أنزله عالمًا به، و{والمَلائِكةُ يَشْهَدُونَ} مبتدأ وخبر، يجوز أن تكون حالًا أيضًا من المفعول في {أنْزَلَهُ}، أي: والملائكة يَشْهَدُونَ بصدْقه، ويجوزُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ، وحكمه حينئذٍ كحُكْم الجملة الاستدراكيّة قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على مِثْلِ قوله: {وكفى بالله شَهِيدًا} [النساء: 166]. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة في الآيات: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} أي لا يحب أن يهتك العبد ستره إذا صدرت منه هفوة أو اتفقت منه كبوة {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} [النساء: 148] أي إلا جهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه فإنه مأذون له بإظهار ما فيه من تلك الملكات وعرضها على أطباء القلوب ليصفوا له دواءها، وقيل: لا يحب الله تعالى إفشاء سر الربوبية وأظهار مواهب الألوهية، أو كشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إلا من ظلم بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني، وفي تسمية تلك الغلبة ظلمًا خفاء لا يخفى.