فصل: تفسير الآية رقم (171):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (171):

قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما اقتضى السياق الأكمل فيما سبق إتمام أمر عيسى عليه الصلاة والسلام إذ كان الكلام في بيان عظيم جرأتهم وجفاءهم، وكان ما فعلوا معه أدل دليل على ذلك، وكان كل من أعدائه وأحبابه قد ضل في أمره، وغلا في شأنه اليهود بخفضه، والنصارى برفعه؛ اقتضى قانون العلم والحكمة المشار إليهما بختام الآية السالفة بيان ما هو الحق من شأنه ودعاء الفريقين إليه فقال: {يا أهل الكتاب} أي عامة {لا تغلوا في دينكم} أي لا تفرطوا في أمره، فتجاوزوا بسببه حدود الشرع وقوانين العقل {ولا تقولوا على الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له شيئًا من القول {إلا الحق} أي الذي يطابقه الواقع، فمن قال عن عيسى عليه الصلاة والسلام أنه لغير رشدة، فقد أغرق في الباطل، فإنه لو كان كذلك ما وقفت أمه للدوام على الطاعات، ولا ظهرت عليها عجائب الكرامات، ولا تكلم هو في المهد، ولا ظهرت على لسانه ينابيع الحكمة، ولا قدر على إحياء الموتى، وذلك متضمن لأن الله تعالى العليم الحكيم أظهر المعجزات على يد من لا يحبه، وذلك منافٍ للحكمة، فهو كذب على الله بعيد عن تنزيهه، ومن قال: إن الله أو ابن الله، فهو أبطل وأبطل، فإنه لو كان كذلك لما كان حادثًا ولما احتاج إلى الطعام والشراب وما ينشأ عنهما، ولا قدر أحد على أذاه ولثبتت الحاجة إلى الصاحبة للإله، فلم يصلح للإلهية، وذلك أبطل الباطل.
ولما ادعى اليهود أنه غير رسول، والنصارى أنه إله، حسن تعقيبه بقوله: {إنما المسيح} أي المبارك الذي هو أهل لأن يمسحه الإمام بدهن القدس، لما فيه من صلاحية الإمامة، وهو أهل أيضًا لأن يمسح الناس ويطهرهم.
لما له من الكرامة، ولما ابتدأ سبحانه بوصفه الأشهر، وكان قد يوصف به غيره بيّنه بقوله: {عيسى} ثم أخبر عنه بقوله: {ابن مريم} أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم، لا يصح نسبته للبنوة إلى غيرها، وليس هو الله ولا ابن الله- كما زعم النصارى {رسول الله} لا أنه لغير رشدة- كما كذب اليهود.
ولما كان تكّونه بكلمة الله من غير واسطة ذكر، جعل نفس الكلمة فقال: {وكلمته} لأن كان بها من غير تسبب عن أب بل، كونًا خارقًا للعوائد {ألقاها} أي تشريفًا بقوله: {وروح} أي عظيمة نفخها فيما تكّون في مريم من الجسد الذي قام بالكلمة، لا بمادة من ذكر، والروح هو النفخ في لسان العرب، وهو كالريح إلا أنه أقوى، بما له من الواو والحركة المجانسة لها، ولغلبة الروح عليه كان يحيي الموتى إذا اراد، وأكمل شرفه بقوله: {منه} أي وإن كان جبرئيل هو النافخ، وإذا وصف شيء بغاية الطهارة قيل: روح، لاسيما إن كان به حياة في دين أو بدن.
ولما أفصح بهذا الحق سبب عنه قوله: {فآمنوا بالله} أي الذي لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى شيء {ورسله} أي عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره عامة، من غير إفراط ولا تفريط، ولا تؤمنوا ببعض ولا تكفروا ببعض، فإن ذلك حقًا هو الكفر الكامل- كما مر.
ولما أمرهم بإثبات الحق نهاهم عن التلبس بالباطل فقال: {ولا تقولوا} أي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام {ثلاثة} أي استمروا أيها اليهود على التكذيب بما يقول فيه النصارى، ولا تقولوا: إنه متولد من أب وأم لغير رشدة- المقتضي للتثليث، وارجعوا أيها النصارى عن التثليث الذي تريدون به أن الإله بثلاثة وإن ضممتم إليه أنه إله واحد، لأن ذلك بديهي البطلان، فالحاصل أنه نهى كلًا عن التثليث وإن كان المرادان به مختلِفَين، وإنما العدل فيه أنه ابن مريم، فهما اثنان لا غير، وهو عبدالله ورسوله وكلمته وروح منه.
ولما نهاهم عن ذلك بصيغة النهي صرح به في مادته مرغبًا مرهبًا في صيغة الأمر بقوله: {انتهوا} أي عن التثليث الذي نسبتموه إلى الله بسببه، وعن كل كفر، وقد أرشد سياق التهديد إلى أن التقدير: إن تنتهوا يكن الانتهاء {خيرًا لكم}.
ولما نفى أن يكون هو الله، كما تضمن قولهم، حصر القول فيه سبحانه في ضد ذلك، كما فعل في عيسى عليه الصلاة والسلام فقال: {إنما الله} أي الذي له الكمال كله؛ ولما كان النزاع إنما هو في الوحدانية من حيث الإلهية، لا من حيث الذات قال: {إله واحد} أي لا تعدد فيه بوجه.
ولما كان المقام عظيمًا زاد في تقديره، فنزهه عما قالوه فقال: {سبحانه} أي تنزه وبعد بعدًا عظيمًا وعلا علوًا كبيرًا {أن} أي عن أن {يكون له ولد} أي كما قلتم أيها النصارى! فإن ذلك يقتضي الحاجة، ويقتضي التركيب والمجانسة، فلا يكون واحدًا؛ ثم علل ذلك بقوله: {له} أي لأنه إله واحد لا شريك له له {ما في السماوات} وأكد لأن المقام له فقال: {وما في الأرض} أي خلقًا ومِلكاَ ومُلكًا، فلا يتصور أن يحتاج إلى شيء منهما ولا إلى شيء متحيّز فيهما، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزءًا منه وولدًا له، وعيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام من ذلك، وكل منهما محتاج إلى ما في الوجود.
ولما كان معنى ذلك أنه الذي دبرهما وما فيهما، لأن الأرض في السماء، وكل سماء في التي فوقها، والسابعة في الكرسي، والكرسي في العرش، وهو ذو العرش العظيم لا نزاع في ذلك، وذلك هو وظيفة الوكيل بالحقيقة ليكفي من وكله كل ما يهمه؛ كان كأنه قيل: وهو الوكيل فيهما وفي كل ما فيهما في تدبير مصالحكم، فبنى عليه قوله: {وكفى بالله} أي الذي أحاط بكل شيء علمًا وقدرة {وكيلًا} أي يحتاج إليه كل شيء، ولا يحتاج هو إلى شيء، وإلا لما كان كافيًا. اهـ.

.اللغة:

{تغلوا} الغلو: مجاوزة الحد ومنه غلا السعر.
{يستنكف} يأنف والاستنكاف: الأنفة والترفع، قال الزجاج: مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته باصبعك عن خدك.
{برهان} البرهان: الدليل والمراد به هنا المعجزات.
{اعتصموا} لاذوا ولجأوا، والعصمة: الامتناع.
{الكلالة} من لا ولد له ولا والد وقد تقدم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك مع النصارى في هذه الآية، والتقدير يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا في تعظيم المسيح، وذلك لأنه تعالى حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح، وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه وكلا طرفي قصدهم ذميم، فلهذا قال للنصارى {لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ} وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} يعني لا تصفوا الله بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان أو روحه، ونزهوه عن هذه الأحوال.
ولما منعهم عن طريق الغول أرشدهم إلى طريق الحق، وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وعبده وأما قوله: {وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ}.
فاعلم أنا فسرنا (الكلمة) في قوله تعالى: {إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسمه المسيح} [آل عمران: 45] والمعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة كما قال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] أما قوله: {وَرُوحٌ مّنْهُ} ففيه وجوه: الأول: أنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئًا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح، والمراد من قوله: {مِنْه} التشريف والتفضيل كما يقال: هذه نعمة من الله، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة.
الثاني: أنه كان سببًا لحياة الخلق في أديانهم، ومن كان كذلك وصف بأنه روح.
قال تعالى في صفة القرآن: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] الثالث: روح منه أي رحمة منه، قيل في تفسير قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} [المجادلة: 22] أي برحمة منه، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا رحمة مهداة» فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحًا منه.
الرابع: أن الروح هو النفخ في كلام العرب، فإن الروح والريح متقاربان، فالروح عبارة عن نفخة جبريل وقوله: {مِنْهُ} يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، وهذا كقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] الخامس: قوله: {رُوحُ} أدخل التنكير في لفظ {رُوحُ} وذلك يفيد التعظيم، فكان المعنى: وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية، وقوله: {مِنْهُ} إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{يَا أَيُّهَا الناس} قال ابن عباس: يعني أهل مكة {قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ} أي بشهادة أن لا إله إلا الله، ويقال: ببيان الحق.
ويقال: للحق، يعني للعرض والحجة وقوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمُ} على وجه المجاز، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان فيهم، ولكن معناه أنه قد ظهر فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في آية أخرى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] أي ظهر فيكم ثم قال: {يأَيُّهَا الناس قَدْ} أي صدقوا بوحدانية الله تعالى، والقرآن الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم خيرًا لكم من عبادة الأوثان، لأن عبادة الأوثان لا تغنيكم شيئًا.
ثم قال تعالى: {وَإِن تَكْفُرُواْ} أي إن تجحدوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله غنيٌّ عنكم {فَإِنَّ للَّهَ مَا فِي السموات والأرض} كلهم عبيده وإماؤه {وَكَانَ الله عَلِيمًا} بخلقه {حَكِيمًا} في أمره.
ثم قال تعالى: {يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ} قال الضحاك: أي لا تكذبوا في دينكم.
وقال بعض أهل اللغة: الغلو مجاوزة القدر في الظلم.
ويقال: الغلو أن تجاوز ما حدَّ لك.
وقال القتبي: يعني لا تفرطوا في دينكم، فإن دين الله بين المقصر والغالي.
وغلا في القول إذا تجاوز المقدار.
وقال ابن عباس: وذلك أن اليعقوبية وهم صنف من النصارى قالوا: عيسى هو الله.
وقالت النسطورية: هو ابن الله.
وقالت المرقوسية ويقال لهم الملكانية: هو ثالث ثلاثة، فنزل {يا أَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ}.
قال مقاتل: الغلو في الدين أن يقول على الله غير الحق.
ويقال: لا تتعمقوا في دينكم.
ثم قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} يعني: لا تصنعوا بالله بما لا يليق بصفاته، فإن الله تعالى واحد لا شريك له ولا ولد له.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ} وهو قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ثم قال: {وَرُوحٌ مّنْهُ} قال ابن عباس في رواية الكلبي: يعني أمر منه فأتاها جبريل، فنفخ في جيب درعها فدخلت تلك النفخة بطنها، ثم وصل إلى عيسى ابن مريم فتحرك في بطنها وأمه أمة الله تعالى. اهـ.