فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

{وكفى بالله وَكِيلًا} يعني كفيلًا ويقال شاهدًا ولا شاهد أفضل منه. اهـ.

.قال في الأمثل:

اُسطورة التثليث الوهمية:
تتطرق هذه الآية والآية التي تليها إِلى واحد من أهم انحرافات الطائفة المسيحية، وهذا الإِنحراف هو اعتقاد المسيحيين بالتثليث، أي وجود آلهة ثلاثة ويأتي التطرق إِلى هذا البحث في سياق البحوث القرآنية التي وردت في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والكفار.
فهذه الآية تحذر في البداية أهل الكتاب من المغالاة والتطرف في دينهم، وتدعوهم أن لا يقولوا على الله غير الحق، حيث تقول: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إِلاّ الحق...).
لقد كانت قضية الغلو في حق القادة السابقين إِحدى أخطر منابع الإِنحراف في الأديان السماوية، فالإِنسان بما أنّه يميل إِلى ذاته يندفع بهذا الميل إِلى إِظهار زعمائه وقادته بصورة أكبر ممّا هم عليه، لكي يضفي على نفسه الأهمية والعظمة من خلال هؤلاء القادة، وقد يدفع الإِنسان التصور الواهي بأن الإِيمان هو المبالغة والغلو في احترام وتعظيم القادة- إِلى الوقوع في متاهات هذا النوع من الإِنحراف الرهيب.
والغلو في أصله ينطوي على عيب كبير يفسد العنصر الأساسي للدين- الذي هو عبادة الله وتوحيده- ولهذا السبب فقد عامل الإِسلام الغلاة أو المغالين بعنف وشدّة، إِذ عرفت كتب الفقه والعقائد هذه الفئة من الناس بأنّهم أشد كفرًا من الآخرين.
بعد ذلك تشير الآية الكريمة إِلى عدّة نقاط، يعتبر كل واحد منها في حدّ ذاته دليلا على بطلان قضية التثليث، وعدم صحة اُلوهية المسيح عليه السلام، وهذه النقاط هي:
1- لقد حصرت الآية بنوة السيد المسيح عليه السلام بمريم (عليها السلام) (إنّما المسيح عيسى بن مريم)، وإِشارة البنوة- هذه الواردة في ستة عشر مكانًا من القرآن الكريم- إِنّما تؤكّد أنّ المسيح عليه السلام هو إنسان كسائر الناس، خلق في بطن اُمّه، ومرّ بدور الجنين في ذلك الرحم، وفتح عينيه على الدنيا حين ولد من بطن مريم (عليها السلام) كما يولد أفراد البشر من بطون اُمهاتهم ومرّ بفترة الرضاعة وتربى في حجر اُمّه، ممّا يثبت بأنّه امتلك كل صفات البشر فكيف يمكن- وحالة المسيح عليه السلام هذه- أن يكون إِلهًا أزليًا أبديًا، وهو في وجوده محكوم بالظواهر والقوانين المادية الطبيعية ويتأثر بالتحولات الجارية في عالم الوجود؟!
وعبارة الحصر التي هي إنّما الواردة في الآية تحصر بنوة المسيح عليه السلام بمريم (عليها السلام) وتؤكّد على أنّه وإِنّ لم يكن له والد، فليس معنى ذلك أن أباه هو الله، بل هو فقط ابن مريم (عليها السلام).
2- تؤكّد الآية الكريمة أنّ المسيح عليه السلام هو رسول الله ومبعوث إِلى البشر من قبله سبحانه وتعالى، وإِن هذه المنزلة- أي منزلة النّبوة- لا تتناسب ومقام الألوهية.
والجدير بالذكر هو أنّ معظم كلام المسيح عليه السلام الوارد قسم منه في الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر، إِنّما يؤكّد نبوته وبعثته لهداية الناس، وليس فيه دلالة على ادعائه الألوهية والربوبية.
3- تبيّن الآية أن عيسى المسيح عليه السلام هو كلمة الله التي ألقاها إِلى مريم (عليها السلام) حيث تقول: {وكلمته ألقاها إِلى مريم}.
وقد وردت عبارة: كلمة في وصف المسيح في عدد من الآيات القرآنية، وهذه إِشارة إِلى كون المسيح مخلوقًا بشريًا، إِذ أن الكلمات مخلوقة من قبل الله، كما أنّ الموجودات في الكون من مخلوقاته عزَّ وجلّ، فكما أن الكلمات تبيّن مكنونات أنفسنا- نحن البشر- وتدل على صفاتنا وأخلاقياتنا، فإِنّ مخلوقات الكون تحكي صفات خالقها وجماله وتدل على جلاله وعظمته.
وعلى هذا الأساس فقد وردت عبارة كلمة في عدد من العبارات القرآنية، لتشمل جميع مخلوقات الله، كما في الآية [109] من سورة الكهف والآية [29] من سورة لقمان، وبديهي أنّ الكلمات الإِلهية تتفاوت بعضها مع البعض في المنزلة والأهمية وعيسى عليه السلام يعتبر إِحدى كلمات الله البارزة الأهمية، لكونه ولد من غير أب، إِضافة إِلى كونه يتمتع بمقام الرسالة الإِلهية.
4- تشير الآية إِلى أنّ عيسى المسيح عليه السلام هو روح مخلوقة من قبل الله، حيث تقول: {وروح منه} وهذه العبارة التي وردت في شأن خلق آدم- أو بعبارة أُخرى خلق البشر أجمعين- في القرآن الكريم، إِنما تدل على عظمة تلك الروح التي خلقها الله تعالى وأودعها في أفراد البشر بصورة عامّة، وفي المسيح عليه السلام وسائر الأنبياء بصورة خاصّة.
وعلى الرغم من أنّ البعض أساء الإِستفادة من هذه العبارة وفسّرها بأنّ المسيح عليه السلام هو جزء من الله سبحانه وتعالى، مستندًا إِلى عبارة منه ولكن الواضح في مثل هذه الحالات أن كلمة من ليست للتبعيض، بل تدل على مصدر ومنشأ وأصل وجود الشيء.
وهناك طرفة تاريخية تذكر أنّه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني، دخل يومًا في نقاش مع علي بن الحسين الواقدي وهو أحد المفكرين الإِسلاميين في ذلك العصر، فقال له هذا الطبيب: توجد في كتابكم السماوي آية تبيّن أنّ المسيح عليه السلام هو جزء من الله... وتلا هذا النصراني الآية موضوع البحث، فرد عليه الواقدي مباشرة تاليًا هذه الآية: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه...}، وأضاف مبيّنًا أنّ كلمة من لو كانت تفيد التبعيض، لاقتضى ذلك أن تكون جميع موجودات السماء والأرض- بناء على هذه الآية- جزءًا من الله، فلما سمع الطبيب النصراني كلام الواقدي أسلم في الحال، وسر إسلامه هارون الرشيد فكافأ الواقدي بجائزة مناسبة.
إِنّ ما يثير العجب- إِضافة إِلى ما ذكر- هو أنّ المسيحيين يرون ولادة المسيح من أُمّ دون أب دليلا على ألوهيته، وهم ينسون في هذا المجال أن آدم عليه السلام كان قد ولد من غير أب، ولا أُم، ولم ير أحد هذه الخصيصة الموجودة في آدم دليلا على ربوبيته.
بعد ذلك تؤكّد الآية على ضرورة الإِيمان بالله الواحد الأحد وبأنبيائه، ونبذ عقيدة التثليث، مبشرة المؤمنين بأنّهم إِن نبذوا هذه العقيدة فسيكون ذلك خيرًا لهم حيث قالت الآية: {فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرًا لكم...}.
فكيف- إِذن- يمكن أن يكون لله ولد، وهو منزّه من نقص الحاجة إِلى زوجة أو ولد، كما هو منزّه من نقائص التجسيم وأعراضه؟ تقول الآية: {سبحانه أن يكون له ولد...} والله هو مالك كل ما في السموات وما في الأرض والموجودات كلها مخلوقاته وهو خالقها جميعًا، والمسيح عليه السلام- أيضًا- واحد من خلق الله، فكيف يمكن الإِدعاء بهذا الإِستثناء فيه؟ وهل يمكن المملوك والمخلوق أن يكون إبنًا للمالك والخالق؟! حيث تؤكد الآية: {له ما في السموات وما في الأرض...} والله هو المدبر والحافظ والرازق والراعي لمخلوقاته، تقول الآية: {وكفى بالله وكيلا}.
والحقيقة هي أنّ الله الأزلي الأبدي الذي يرعى جميع الموجودات منذ الأزل إِلى الأبد لا يحتاج مطلقًا إِلى ولد، فهل هو كسائر الناس لكي يحتاج إِلى ولد يخلفه من بعد الموت؟
عقيدة التثليث أكبر خرافة مسيحية:
ليس في الإِنحرافات التي تورط بها العالم المسيحي أكبر من انحراف عقيدة التثليث، لأنّ المسيحيين يعتقدون صراحة بالثالوث الإِلهي، وهم في نفس الوقت يصرحون بأن الله واحد! أي أنّهم يرون الحقيقة في التثليث والتوحيد في أن واحد.
وقد خلقت هذه القضية- التي لها حدان متناقضان- مشكلة كبيرة للمفكرين والباحثين المسيحيين.
فلو كان المسيحيون مستعدين لقبول مسألة التوحيد بأنّها مجازية وقبول مسألة التثليث بأنّها مسألة حقيقية أو قبول العكس، لأمكن تبرير هذا الأمر، ولكنهم يرون الحقيقة في الجمع بين هذين المتناقضين، فيقولون أن الثلاثة واحد كما يقولون أن الواحد ثلاثة في نفس الوقت.
وما يلاحظ من ادعاء في الكتابات التبشيرية الأخيرة للمسيحيين، والتي توزع للناس الجهلاء، من أن التثليث شيء مجازي، إِنّما هو كلام مشوب بالرياء ولا يتلاءم مطلقًا مع المصادر الأساسية للمسيحية، كما لا يتفق مع الآراء والمعتقدات الحقيقية للمفكرين المسيحيين.
ويواجه المسيحيون- هنا- قضية لا تتفق مع العقل فالمعادلة التي افترضوا فيها أن 1 = 3 لا يقبلها حتى الأطفال الذين هم في مرحلة الدراسة الإِبتدائية. ولهذا السبب ادعوا أنّ هذه القضية لا تقاس بمقياس العقل، وطلبوا الإِذعان بها عبر ما سمّوه بالرؤية التعبدية القلبية.
وكان هذا التناقض منشأ للتباعد الحاصل لديهم بين الدين والعقل، وسببًا لجر الدين إِلى متاهات خطيرة، الأمر الذي اضطرهم إِلى القول بأن الدين ليس له صلة بالعقل، أو ليس فيه الطابع العقلاني، وأنّه ذو طابع تعبدي محض.
وهذا هو أساس التناقض بين الدين والعلم في منطق المسيحية، فالعلم يحكم بأنّ الثلاثة لا تساوي الواحد، والمسيحية المعاصرة تصر على أنّهما متساويان!
ويجب الإِلتفات- هنا- إِلى عدّة نقاط حول هذا الإِعتقاد المسيحي:
1- لم يشر أي من الأناجيل المتداولة في الوقت الحاضر إِلى مسألة التثليث لذلك يعتقد الباحثون المسيحيون أنّ مصدر التثليث في الأناجيل خفي وغير بارز، وفي هذا المجال يقول الباحث الأمريكي المستر هاكس: إِنّ قضية التثليث تعتبر في العهدين القديم والجديد خفية وغير واضحة.
وذكر المؤرخون أنّ قضية التثليث قد برزت بعد القرن الثّالث الميلادي لدى المسيحيين وإن منشأ هذه البدعة كان الغلو من جانب، واختلاط المسيحيين بالأقوام الأخرى من جانب آخر.
ويرى البعض احتمال أن يكون مصدر التثليث عند المسيحيين واردًا من عقيدة الثالوث الهندي، أي عبادة الهنود للآلهة الثلاثة.
2- إِنّ قضية التثليث القائلة بأن الثلاثة واحد تعتبر أمرًا غير معقول أبدًا، ويرفضها العقل بالبداهة، والشيء الذي نعرفه هو أن الدين لا يمكنه أن يكون منفصلا عن العقل والعلم، فالعلم الحقيقي والدين الواقعي كلاهما متفقان ومتناسقان دائمًا- ولا يمكن القول بأن الدين أمر تعبدي محض- لأننا لو أزحنا العقل جانبًا عند قبول مبادئ الدين وأذعنا للعبادة العمياء الصماء، فلا يبقى لدينا ما نميز به بين الأديان المختلفة.
وفي هذه الحالة، أي دليل يوجب على الإِنسان أن يعبد الله ولا يعبد الأصنام؟ وأي دليل يدعو المسيحيين إِلى التبشير لدينهم لا للأديان الأُخرى؟
ومن هذا المنطلق فإن الخصائص التي يراها المسيحيون لدينهم ويصرّون على دعوة الناس للقبول بها، هي بحدّ ذاتها دليل على أن الدين يجب أن يعرف بمنطق العقل، وهذا يناقض دعواهم حول قضية التثليث التي يرون فيها إنفصال الدين عن العقل.
وليس هناك كلام يستطيع تحطيم الدين أشد وأقبح من أن يقال: إِن الدين لا يمتلك طابعًا عقلانيًا ومنطقيًا، وأنّه ذو طابع تعبدي محض!
3- إِنّ الأدلة العديدة التي يستشهد بها- في مجال إِثبات التوحيد، ووحدانية الذات الإِلهية- ترفض كل أنواع التثنية أو التثليث- فالله سبحانه وتعالى هو وجود مطلق لا يحد بالجهات، وهو أزلي أبدي لا حدود لعلمه ولقدرته ولقوته.
وبديهي أنّه لا يمكن تصور التثنية في اللامتناهي، لأنّ فرض وجود لا متناهيين يجعل من هذين الإِثنين متناهيين ومحدودين، لأن وجود الأوّل يفتقر إِلى قدرة وقوة ووجود الثّاني كما أن وجود الثّاني يفتقر إِلى وجود وخصائص الأوّل، وعلى هذا الأساس فإِن كلا الوجودين محدودان.
وبعبارة أُخرى: إِنّنا لو افترضنا وجود لا متناهيين من جميع الجهات، فلابدّ حين يصل اللامتناهي الأوّل إِلى تخوم اللامتناهي الثّاني ينتهي إِلى هذا الحد كما أن اللامتناهي الثّاني حين يصل إِلى حد اللامتناهي الأوّل ينتهي هو أيضًا، وعلى هذا الأساس فإِن كليهما يكونان محدودين ولا تنطبق صفة اللامتناهي على أي منهما، بل هما متناهيان محدودان، والنتيجة هي أن ذات الله- الذي هو وجود لا متناه- لا يمكن أن تقبل التعدد أبدًا.
وهكذا فإِنّنا لو اعتقدنا بأن الذات الإِلهية تتكون من الأقانيم الثلاثة، لا يستلزم أن يكون كل من هذه الأقانيم محدودًا، ولا تصح فيه صفة اللامحدود واللامتناهي، وكذلك فإِن أي مركب في تكوينه يكون محتاجًا إِلى أجزائه التي تكونه، فوجود المركب يكون معلولا لوجود أجزائه.