فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم لا يتوهمن متوهم أن كلمات ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم تدندن حول كلمات النصارى كما يزعمه من لا اطلاع له على تحقيق كلامهم ولا ذوق له في مشربهم، وذلك لأن القوم نفعنا الله تعالى بهم مبرؤون عما نسبه المحجوبون إليهم من اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول، أما إنهم لم يقولوا بالتجسيم فلما تقرر عندهم من أن الحق سبحانه هو الوجود المحض الموجود بذاته القائم بذاته المتعين بذاته، وكل جسم فهو صورة في الوجود المنبسط على الحقائق المعبر عنه بالعماء متعينة بمقتضى استعداد ماهية المعدومة ولا شيء من الوجود المجرد من الماهية المتعين بذاته بالصورة المتعينة في الوجود المنبسط بمقتضى الماهية المعدومة فلا شيء من الجسم بالوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته، وتنعكس إلى لا شيء من الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته بجسم وهو المطلوب، وأما أنهم لم يقولوا بالعينية، فلأن الحق تعالى هو ما علمت من الوجود المحض، إلخ، والمخلوق هو الصورة الظاهرة في الوجود المنبسط على الحقائق المتعين بحسب ماهيته المعدومة ولا شيء من المجرد عن الماهية المتعين بذاته بالمقترن بالماهية المتعين بحسبها، ومما يشهد لذلك قول الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة من الفتوحات في حضرة البديع بعد بسط: وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعًا، وقوله في هذا الباب أيضًا في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] انفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه، فأثبتك في هذه الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو لعلمت مفاتح الغيب بذاتك، وما لا تعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف، وكذا قال غير واحد، وقال الشيخ شرف الدين إسماعيل بن سودكين في شرح التجليات نقلًا عن الشيخ قدس سره أيضًا: لما ظهرت الممكنات بإظهار الله تعالى لها وتحقق ذلك تحققًا لا يمكن للممكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدًا فبقي متواضعًا لكبرياء الله تعالى خاشعًا له وهذه سجدة الأبد وهي عبارة عن معرفة العبد بحقيقته.
ومن هنا يعلم حقيقة قوله سبحانه: «كنت سمعه وبصره» الحديث، ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح قال: أنا الحق فسكر وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته انتهى، وأما أنهم لم يقولوا بالاتحاد فلأن الاتحاد إما بصيرورة الوجود المحض المجرد المتعين بذاته وجودًا مقترنًا بالماهية المعدومة متعينًا بحسبها أو بالعكس، وذلك محال بوجهيه لأن التجرد عن الماهية ذاتي للحق تعالى والاقتران بها ذاتي للممكن وما بالذات لا يزول.
وفي كتاب [المعرفة] للشيخ الأكبر قدس سره: إذا كان الاتحاد مصيّر الذاتين واحدة فهو محال لأنه إن كان عين كل منهما موجودًا في حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة وثبتت الأخرى فليست إلا واحدة، وقال في كتاب الياء وهو كتاب الهو الاتحاد محال، وساق الكلام إلى أن قال: فلا اتحاد ألبتة لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة، وقال في الباب الخامس من الفتوحات خطابًا من الحق تعالى للروح الكلي: وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بالأسرار الإلهية إذ لا طاقة لك بحمل مشاهدتها، إذ لو عرفتها لاتحدت الأنية واتحاد الإنية محال، فمشاهدتك لذلك محال، هل ترجع إنية المركب إنية البسيط؟ لا سبيل إلى قلب الحقائق، وأما إنهم لم يقولوا بالحلول فلأنهم فسروا الحلول تارة بأنه الحصول على سبيل التبعية، وتارة بأنه كون الموجود في محل قائمًا به، ومن المعلوم أن الواجب تعالى وهو الوجود المحض القائم بذاته المتعين كذلك يستحيل عليه القيام بغيره.
قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثاني والتسعين ومائتين من الفتوحات: نور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا يعطيه من الحكم بغير البدر لا شك في ذلك، كذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبد يظهر الأفعال عن الخلق فهو وإن كان بالاقتدار الإلهي، لكن يختلف الحكم لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه، وكما يعلم عقلًا أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليها بذاتها وإنما كان لها مجلي، كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه وإنما هو مجلي له وخاصة ومظهر له انتهى.
وهذا نص في نفي الحلول ومنشأ غلط المحجوبين المنكرين عدم الفهم لكلام هؤلاء السادة نفعنا الله تعالى بهم على وجهه، وعدم التمييز بين الحلول والتجلي ولم يعلموا أن كون الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلًا له، فإن الظاهر في المرآة خارج عن المرآة بذاته قطعًا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه فالظهور غير الحلول، فإن الظهور في المظاهر للواسع القدوس يجامع التنزيه بخلاف الحلول، نعم وقع في كلامهم التعبير بالحلول ومرادهم به الظهور، ومن ذلك قوله:
يا قبلتي قابليني بالسجود فقد ** رأيت شخصًا لشخص في قد سجدا

لاهوته حل ناسوتي فقدسني ** إني عجبت لمثلي كيف ما عبدا

وكان الأولى بحسب الظاهر عدم التعبير بمثل ذلك ولكن للقوم أحوال ومقامات لا تصل إليها أفهامنا، ولعل عذرهم واضح عند المنصفين، إذا علمت ذلك وتحققت اختلاف النصارى في عقائدهم، فاعلم أنه سبحانه إنما حكى في بعض الآيات قول بعض منهم، وفي بعض آخر قول آخرين، وحكاية دعواهم ألوهية مريم عليها السلام كدعواهم ألوهية عيسى عليه السلام مما نطق بها القرآن ولم يشع ذلك عنهم صريحًا لكن يلزمهم ذلك بناءًا على ما حققه الإمام الرازي رحمه الله تعالى، والنصارى اليوم ينكرونه والله تعالى أصدق القائلين، ويمكن أن يقال: إن مدعي ألوهيتها عليها السلام صريحًا طائفة منهم هلكت قديمًا كالطائفة اليهودية التي تقول عزير ابن الله تعالى على ما قيل.
ثم إنه سبحانه بالغ في زجر القائلين فأردف سبحانه النهي بقوله عز من قائل: {انتهوا} عن القول بالتثليث {خَيْرًا لَّكُمْ} قد مر الكلام في أوجه انتصابه {إِنَّمَا الله إله واحد} أي بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه {سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي أسبحه تسبيحًا عن، أو من أن يكون له ولد، أو سبحوه عن، أو من ذلك لأن الولد يشابه الأب ويكون مثله والله تعالى منزه عن التشبيه والمثل، وأيضًا الولد إنما يطلب ليكون قائمًا مقام أبيه إذا عدم ولذا كان التناسل والله تعالى باق لا يتطرق ساحته العلية فناء فلا يحتاج إلى ولد ولا حكمة تقتضيه، وقد علمت ما أوقع النصارى في اعتقادهم أن عيسى عليه السلام ابن الله تعالى.
ومن الاتفاقات الغريبة ما نقله مولانا راغب باشا رحمه الله تعالى ملخصًا من تعريفات أبي البقاء قال: قال الإمام العلامة محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري نور الله تعالى ضريحه: إن بعض النصارى انتصر لدينه وانتزع من البسملة الشريفة دليلًا على تقوية اعتقاده في المسيح عليه السلام وصحة يقينه به فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدّم فيها وأخر وفكر وقدّر فقتل كيف قدّر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر، فقال: قد انتظم من البسملة المسيح ابن الله المحرر، فقلت له: حيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكمًا وحزت منها أحكامًا وحكمًا فلتنصرن البسملة منا الأخيار على الأشرار، ولتفضلن أصحاب الجنة على أصحاب النار إذ قد قالت لك البسملة بلسان حالها: إنما الله رب المسيح راحم النحر لأمم لها المسيح رب، ما برح الله راحم المسلمين، سل ابن مريم أحل له الحرام، لا المسيح ابن الله المحرر، لا مرحم للئام أبناء السحرة رحم حرّ مسلم أناب إلى الله، لله نبي مسلم حرم الراح، ربح رأس مال كلمة الإيمان، فإن قلت: إنه عليه السلام رسول صدقتك، وقالت: إيل أرسل الرحمة بلحم، وإيل من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم ببيت لحم، وهو المكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام إلى غير ذلك مما يدل على إبطال مذهب النصارى، ثم انظر إلى البسملة قد تخبر أن من وراء خلها خيولًا وليوثا، ومن دون طلها سيولًا وغيوثا، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة فنسجت على منوالها وقابلت الواحدة بعشر أمثالها بل أتيتك بما يغنيك فيبهتك ويسمعك ما يصمك عن الإجابة فيصمتك، فتعلم أن هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ومستودع لجوهر سرها المكنون، ألا ترى أن البسملة إذا حصلت جملتها كان عددها سبعمائة وستة وثمانين فوافق جملها إن مثل عيسى كآدم ليس لله من شريك بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة ولا أشرك بربي أحدًا، يهدي الله لنوره من يشاء، بإسقاط ألف الجلالة، فقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خبرًا، وجاءك ما لم تستطع عليه صبرًا انتهى.
وقد تقدم نظير ذلك في الباقي بعد إسقاط المكرر من حروف المعجم في أوائل السور حيث رتب الشيعي منه ما ظنه مقويًا لما هو عليه أعني صراط علي حقًا نمسكه وقابلناه بما يبهته مرتبًا من هذا الحروف أيضًا فتذكر، وقرأ الحسن {أَن يَكُونَ} بكسر الهمزة ورفع النون أي سبحانه ما يكون له ولد على أن الكلام جملتان.
{لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه، وبيان ذلك أنه سبحانه مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها لا يخرج من ملكوته شيء منها، ولو كان له ولد لكان مثله في المالكية فلا يكون مالكها لجميعها، وقوله تعالى: {وكفى بالله وَكِيلًا} إشارة إلى دليل آخر لأن الوكيل بمعنى الحافظ فإذا استقل سبحانه وتعالى في الحفظ لم يحتج إلى الولد فإن الولد يعين أباه في حياته ويقوم مقامه بعد وفاته والله تعالى منزه عن كل هذا فلا يتصو له ولد عقلًا ويكون افتراؤه حمقًا وجهلًا. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}.
استئناف ابتدائي بخطاب موجّه إلى النصارى خاصّة.
وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضًا بأنَّهم خالفوا كتابهم.
وقرينةُ أنَّهم المراد هي قوله: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} إلى قوله: {أن يكون عبدًا لله} [النساء: 172] فإنّه بيان للمراد من إجمال قوله: {لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ} وابتدئت موعظتهم بالنّهي عن الغلوّ لأنّ النّصارى غلَوا في تعظيم عيسى فادّعوا له بنوّة الله، وجعلوه ثالث الآلهة.
والغلوّ: تجاوز الحدّ المألوف، مشتقّ من غَلْوَة السهم، وهي منتهى اندفاعه، واستُعير للزيادة على المطلوب من المعقول، أو المشْرُوع في المعتقدات، والإدراكات، والأفعال.
والغلوّ في الدّين أن يُظهر المتديّن ما يفوت الحدّ الّذي حدّد له الدينُ.
ونهاهم عن الغلوّ لأنَّه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصّادقين.
وغلّو أهل الكتاب تجاوزُهم الحدّ الذي طلبه دينهم منهم: فاليهود طولبوا باتّباع التّوراة ومحبّة رسولهم، فتجاوزوه إلى بِغضة الرسل كعيسى ومحمدّ عليهما السّلام، والنّصارى طولبوا باتّباع المسيح فتجاوزوا فيه الحدّ إلى دعوى إلهيّته أو كونه ابنَ الله، مع الكفر بمحمدّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ} عطف خاصّ على عامّ للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع.
وفعل القول إذا عدّي بحرف (على) دلّ على أنّ نسبة القائل القول إلى المجرور بـ (على) نسبة كاذبة، قال تعالى: {ويقولون على الله الكذب} [آل عمران: 78].
ومعنى القول على الله هنا: أن يقولوا شيئًا يزعمون أنَّه من دينهم، فإنّ الدين من شأنه أن يتلقّى من عند الله.
وقوله: {إنما المسيح عيسى ابن مريم} جملة مبيّنة للحدّ الذي كان الغلوّ عنده، فإنَّه مجمل؛ ومبيّنة للمراد من قول الحقّ.
ولكونها تتنزّل من الَّتي قبلها منزلة البيان فُصلت عنها.
وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث: صفة الرسالة، وصفةِ كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم، وصفة كونه روحًا من عند الله.
فالقصر قصر موصوف على صفة.
والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوّهم في هذه الصّفات غلوًّا أخرجها عن كنهها؛ فإنّ هذه الصّفات ثابتة لعيسى، وهم مثبتون لها فلا يُنكر عليهم وصفُ عيسى بها، لكنّهم تجاوزوا الحدّ المحدود لها فجعلوا الرسالة البُنوّة، وجعلوا الكلمة اتِّحادَ حقيقة الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابنًا لله ومريم صاحبة لله سبحانه، وجعلوا معنى الروح على ما به تكوّنت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفْس الإلَهية.