فصل: من فوائد القاسمي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال بعض العلماء: يدخل في الغلو وغير الحق المنهي عنه في هذه الآية ما قالوا من البهتان على مريم أيضًا واعتمده القرطبي وعليه فيكون الغلو المنهي عنه شاملًا للتفريط والإفراط.
وقد قرر العلماء أن الحق واسطة بين التفريط والإفراط وهو معنى قول مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين وبه تعلم أن من جانب التفريط والإفراط فقد اهتدى ولقد أجاد من قال:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ** كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، وقولوا عبد الله ورسوله».
قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}.
ليست لفظة من في هذه الآية للتبعيض، كما يزعمه النصارى افتراء على الله، ولكن من هنا لابتداء الغاية، يعني أن مبدأ ذلك الروح الذي ولد به عيسى حيًا من الله تعالى. لأنه هو الذي أحياه به، ويدل على أن من هنا لابتداء الغاية.
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13] أي: كائنًا مبدأ ذلك كله منه جلَّ وعلا ويدل لما ذكرنا ما روي عن أبي بن كعب أنه قال: «خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق، ثم ردها إلى صلب آدم، وأمسك عنده روح عيسى عليه الصلاة والسلام. فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام» وهذه الإضافة للتفضيل. لأن جميع الأرواح من خلقه جل وعلا كقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِين} [الحج: 26]. وقوله: {نَاقَةُ الله} [الأعراف: 73] الآية. وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحًا ويضاف إلى الله، فيقال هذا روح من الله أي: من خلقه، وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، فاستحق هذا الاسم، وقيل سمي روحًا بسبب نفخة جبريل عليه السلام المذكورة في سورة الأنبياء والتحريم، والعرب تسمي النفخ روحًا.
لأنه ريح تخرج من الروح، ومنه قول ذي الرمة:
فقلت له: ارفعها إليك وأحيها ** بروحك واقتته لها قيتة قدرا

وعلى هذا القول فقوله: {وروح} معطوف على الضمير العائد إلى الله الذي هو فاعل ألقاها، قاله القرطبي والله تعالى أعلم.
وقال بعض العلماء وروح منه: أي رحمة منه، وكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه، قيل ومنه وأيده بروح منه، أي: برحمة منه، حكاه القرطبي أيضًا، وقيل روح منه أي: برهان منه وكان عيسى برهانًا وحجة على قومه والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} أي: بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته، فإنه تجاوزٌ فوق المنزلة التي أُوتِيَهَا، وهي الرسالة، واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد.
وفي الصحيح عن عُمَرَ رضي الله عنه عن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن لمة، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك أن رجلًا قال: يَا مُحَمَّدُ! يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا! وَخَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا!.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»، قال ابن كثير: تفرد به من هذا الوجه.
{وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ} أي: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك.
{إِنّمَا المسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابنًا لله تعالى.
{رَسُولُ اللّهِ} خبر المبتدأ أعني المسيح، أي: مقصود على مقام الرسالة لا يتخطاه.
{وَكَلمتُهُ} أي: مكون بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة.
{أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي: أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام.
{وَرُوحٌ مّنْهُ} أي: بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافَهُ إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال: بيت الله، وناقة الله.
وقيل: الروح هو نفخ جبريل عليه السلام في جيب درع مريم، فحملت بإذن الله، سمى النفخ روحًا لأنه ريح تخرج من الروح، وإنما أضافه إلى نفسه لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه.
قال أبو السعود: (من) لابتداء الغاية مجازًا، لا تبعيضية، كما زعمت النصارى، يحكى أن طبيبًا نصرانيًا للرشيد، ناظَرَ عليّ بن حسين الواقديّ المروزيّ ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقدي: {وَسَخّرَ لَكُم مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَميعًا مّنْهُ} [الجاثية: 13]، فقال: إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءًا منه، تعالى علوًا كبيرًا، فانقطع النصراني واسلم، وفرح الرشيد فرحًا شديدًا، ووصل الواقدي بصلة فاخرة.
وقيل: سمي روحًا، لإحياءه الموتى بإذن الله، وقيل: لإحيائه القلوب، كما سمى به القرآن لذلك، في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة.
وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة، قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى عليه السلام متكونًا من النفخ، لا من النطفة، وصف بالروح، وتقديم كونه عليه السلام رسول الله في الذكر، مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحًا منه، في الوجود- لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل، وتعيين مآل ما يحتمله، وسدّ باب التأويل الزائغ. انتهى.
{فَآمِنُواْ بِاللّهِ} وخصوه بالألوهية: {وَرُسُلِهِ} أي: جميعهم وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية.
{وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} أي: الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمي إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} [المائدة: 116].
وقد ذكر السيد عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره؛ أنه حكى أن فرقة من النصارى تسمى (كولى ري دينس) كانت تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم، قال: ولعل هذا الأمر كان مكتوبًا في نسخهم، لأن القرآن كذبهم. انتهى.
أو التقدير: ولا تقولوا: الله ثلاثة، أي: ثلاثة أقانيم، وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه: أخص أسرار المسيحية سر الثالوث، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس.
والأب هو الله، والابن هو الله، وروح القدس هو الله، وليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية، وذلك لأن لهم جوهرًا واحدًا ولاهوتًا واحدًا، وذاتًا واحدةً، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين، لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء، ما عدا الأقنومية، ولا نقدر أن نفهم جيدًا هذه الحقائق لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري. انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسيّ المطبوع في بيروت سنة (1876) مسيحية.
فانظر إلى هذا التناقض والتمويه، يعترفون بأن الثلاثة آلهة، ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك.
ونقل العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق عن صاحب ميزان الحق النصراني أنه قال: نحن لا نقول: إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد، بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة، وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بُعد السماء والأرض. انتهى.
قال رحمة الله: وهذه مغالطة صرفة، لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص، فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقي، كما صرح هو بنفسه في كتبه، فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة، على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة، الرائج في كنيسة انكلترة، المطبوع سنة (1818) ما ترجمته: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلةً، الذين هم واحد.
يعني ثلاثة أشخاص وإلهًا واحدًا، فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحًا، وكذلك مملوءة بعبارات مصرحة بأن عيسى ابن الله، وأنه الله، وأن مريم أم لله وزوجه الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرَّم في كتبهم لغير الله، كما يسجدون لله، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.
ولقد شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمة الله في إظهار الحق فساق، في الباب الرابع منه، إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة، كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر، وقد انتشر، والله الحمد، في ذلك مؤلفات نافعة، بل رد عليهم فرق كثيرة منهم.
فقد جاء في كتاب [الرأي الصواب وفصل الخطاب] للقس جبارة ما صورته: إن المسيحيين الموحدين الذين ظهروا منذ (80) سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة والدرجة الأولى في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية، وكذلك لهم في انكلترا ثلاثمائة كنيسة وتآليف عديدة معتبرة، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتبًا إلهية- لا يؤمنون بتثليث الآلهة، أي: أنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقي، كالله الواجب الوجود، بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق. انتهى.
وفيه أيضًا ما لفظه: كل الكتب المنزلة تعلم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة، أو كون الله ثلاثة، وتعلن صريحًا بأوضح العبارة؛ أن الله واحد أحد، وأنه لا إله حقًا سواه. انتهى.
وفي كتاب [سوسنة سليمان] ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس، وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب، مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير، من أن لهم آراء مختلفة وأقوالًا غير مؤتلفة، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولًا. انتهى.
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في الرسالة القبرصية: فتفرق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقًا وتشتتوا تشتيتًا لا يقر به عاقل، ولم يجيء نقل، إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب، قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبل، كلها تنطلق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده، ودعائه وتضرعه، ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله، كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله، فأرباب التثليث في الوحدانية، والاتحاد في الرسالة، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها. انتهى.
وقد اجتمع لديّ، بحمده تعالى، حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلفًا في الرد عليهم، وكلها، ولله الحمد، مطبوعة منتشرة، فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها، لسهولة الوقوف عليها.
قال الماردوي في أعلام النبوة: فأما النصارى فقد كانوا، قبل أن تنصر قسطنطين الملك، على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام، ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، أي: لأن الروم كانت صابئة، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم.
فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله.
وقال أوائل اليعاقبة: إنه ابن الله.
وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة: أحدهم عيسى.
ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر، حين استنكرته النفوس، ودفعته العقول، فقالوا: إن الله تعالى جوهر واحد، هو ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية، وأن أقنوم الأب هو الذات، وأقنوم الابن هو الكلمة، وأقنوم روح القدس هو الحياة، واختلفوا في الأقانيم، فقال بعضهم: هي خواص، وقال بعضهم: هي أشخاص، وقال بعضهم: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى، واختلفوا في الاتحاد.