فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال: وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر في المعقول.
وقوله تعالى: {انتَهُواْ} أي: عن التثليث: {خَيْرًا لّكُمْ} أي: انتهاء خيرًا، أو اقصدوا خيرًا من التثليث وهو التوحيد.
{إِنّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: بالذات، لا تعدد فيه بوجه ما.
وبقوله: {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} تنزيه لمقامه جل شأنه، عما زعموه من نبوة عيسى، حيث قالوا: إنه الله وابن الله، والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة، والورطة الجسيمة، ما ورد موهمًا من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن، فلم يحملوها على ما أريد منها، وحملوها على ظاهرها، فضلُّوا وأضلُّوا.
وفي منية الأذكياء ما نصه: وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن، من إطلاق ابن الله على عيسى عليه السلام، فهو- إن لم يكن مما حرف، يكون مجازًا، بمعنى ابن المحبة، كما يقال: فلان من أبناء الدنيا، ونظير ذلك قول عيسى عليه السلام لليهود، حين ادعوا أن لهم أبًا واحدًا هو الله: (لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني)، ثم قال لهم، (أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعلموا) ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم، أي: أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب، فكذبهم عيسى عليه السلام وجعلهم أبناء الشيطان، أي: أنهم مطيعون له، ولا يخفي أن الابن والأب هنا مجازان.
وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى، واسم الابن على العبد الصالح، في الكتب السالفة، فهو إما من الخبط في الترجمة، وإما مؤول بما ذكرنا، فلا تغفل، لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية، تحرزًا من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو الطريق الرشد.
وقوله تعالى: {لّهُ مَا فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} تعالى للتنزهه مما نسب إليه، بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزءًا منه؟ إذ البنوة والملك لا يجتمعان.
{وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا} أي: إليه يكل كل الخلق أمورهم، وهو غنيّ عنهم، فأَنَّى يتصور في حقه اتخاذ الولد، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ}
نَادَى اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمِيعَ النَّاسِ فِي سِيَاقِ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ اللهِ تَعَالَى بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ، فَبِالْأَوْلَى تَقُومُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ كَكِتَابِهِمْ، وَذَكَرَ الرَّسُولَ هاهنا مُعَرَّفًا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بُشِّرُوا بِهِ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ بِعْثَتَهُ، بِعُنْوَانِ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْكَامِلُ، الَّذِي هُوَ الْمُتَمِّمُ الْخَاتَمُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مِنَ اللهِ مَسِيحًا وَنَبِيًّا بَشَّرَ بِهِمَا أَنْبِيَاؤُهُمْ، مَا جَاءَ فِي أَوَائِلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا بَعْضَ الْكَهَنَةِ وَاللَّاوِيِّينَ إِلَى يُوحَنَّا (يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) لِيَسْأَلُوهُ مَنْ هُوَ. وَكَانَتْ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ النُّبُوَّةِ فَسَأَلُوهُ أَأَنْتَ الْمَسِيحُ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: أَأَنْتَ النَّبِيُّ؟ قَالَ: لَا. وَالشَّاهِدُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ النَّبِيَّ بِلَامِ الْعَهْدِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ يَهُودَ الْعَرَبِ وَنَصَارَاهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ تَذْكُرُ مَجِيءَ الرَّسُولِ الْمُعَرَّفِ بِصِيغَةِ التَّحْقِيقِ، قَدْ فَهِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَهُمْ بِهِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ (وَهُوَ فِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ) وَعِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ (وَسَيَأْتِي شَاهِدٌ مِنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ) وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ يَفْهَمْ مِنَ التَّعْرِيفِ مَعْنًى آخَرَ هُوَ صَحِيحٌ وَمُرَادٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فِي الرُّسُلِ لِظُهُورِ نُبُوَّتِهِ، وَنُصُوعِ حُجَّتِهِ، وَعُمُومِ بَعْثَتِهِ، وَخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ جَاءَ النَّاسَ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّهِمْ: أَنَّهُ جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ بَيَانٍ لِلْحَقِّ، وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ الْمُؤَيِّدَةَ لَهُ، وَاخْتِيَارُ لَفْظِ الرَّبِّ هُنَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ يُقْصَدُ بِهِ تَرْبِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْمِيلُ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةُ نُفُوسِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَآمِنُوا، فَإِنْ تُؤْمِنُوا يَكُنِ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ؛ لِأَنَّهُ يُزَكِّيكُمْ وَيُطَهِّرُكُمْ مِنَ الْأَدْنَاسِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيُؤَهِّلُكُمْ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، هَذَا هُوَ التَّقْدِيرُ الْمُتَبَادِرُ عِنْدِي وَعَلَيْهِ الْكِسَائِيُّ، وَأَمَّا الْخَلِيلُ وَتِلْمِيذُهُ سِيبَوَيْهِ فَيُقَدِّرَانِ: وَاقْصِدُوا بِالْإِيمَانِ خَيْرًا لَكُمْ، أَيْ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَآمِنُوا إِيمَانًا خَيْرًا لَكُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ إِنْ تُؤْمِنُوا يَكُنِ الْإِيمَانُ خَيْرًا لَكُمْ، وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ إِيمَانِكُمْ، وَقَادِرٌ عَلَى جَزَائِكُمْ بِمَا يَقْتَضِيهِ كُفْرُكُمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ عَمَلِكُمْ؛ لِأَنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ خَلْقًا وَعَبِيدًا، وَكُلٌّ يَعْبُدُهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، أَمَّا عِبَادَةُ الْكَرْهِ وَعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَبِالْخُضُوعِ لِلسُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ حَتَّى مَا لَيْسَ لَهُ إِدْرَاكٌ وَلَا عَقْلٌ، وَأَمَّا عِبَادَةُ الِاخْتِيَارِ، فَخَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الْأَخْيَارِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ جُنُودِ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا أَيْ وَكَانَ شَأْنُهُ الْعِلْمَ الْمُحِيطَ وَالْحِكْمَةَ الْكَامِلَةَ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي إِيمَانِكُمْ وَكُفْرِكُمْ، وَلَا يَعْدُو حِكْمَتَهُ أَمْرُ جَزَائِكُمْ، وَحَاشَا عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ أَنْ يَخْلُقَكُمْ عَبَثًا، وَأَنْ يَتْرُكَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ سُدًى، كَلَّا إِنَّهُ يَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَطُوبَى لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ} هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي مُحَاجَّةِ النَّصَارَى خَاصَّةً بَعْدَ مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ غَلَتِ الْيَهُودُ فِي تَحْقِيرِ عِيسَى وَإِهَانَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَفَرَّطُوا كُلَّ التَّفْرِيطِ، فَغَلَتِ النَّصَارَى فِي تَعْظِيمِهِ وَتَقْدِيسِهِ فَأَفْرَطُوا كُلَّ الْإِفْرَاطِ، فَلَمَّا دَحَضَ تَعَالَى شُبُهَاتِ أُولَئِكَ قَفَّى بِدَحْضِ شُبُهَاتِ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ فَتَتَجَاوَزُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّهَا اللهُ لَكُمْ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، كِلَاهُمَا مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ وَضْعِهِ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ أَيِ الثَّابِتَ الْمُتَحَقِّقَ فِي نَفْسِهِ، إِمَّا بِنَصٍّ دِينِيٍّ مُتَوَاتِرٍ، وَإِمَّا بِبُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ، وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَزَاعِمِكُمْ فِي الْمَسِيحِ شَيْءٌ مِنْهُمَا إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَعِبَادَةِ الْمَالِ، وَإِيثَارِ شَهَوَاتِ الْأَرْضِ عَلَى مَلَكُوتِ السَّمَاءِ، وَزَهَّدَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى التَّقْوَى، وَبَشَّرَهُمْ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُقِيمُهُمْ عَلَى صِرَاطِ الِاعْتِدَالِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ حُقُوقِ الْأَرْوَاحِ وَحُقُوقِ الْأَجْسَادِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ أَيْ وَهُوَ تَحْقِيقُ كَلِمَتِهِ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى أُمِّهِ مَرْيَمَ وَمِصْدَاقُهَا، وَالْمُرَادُ: كَلِمَةُ التَّكْوِينِ أَوِ الْبِشَارَةُ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَشَّرَهَا بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَهَبَ لَهَا غُلَامًا زَكِيًّا، فَاسْتَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ وَهِيَ عَذْرَاءُ لَمْ تَتَزَوَّجْ، فَقَالَ لَهَا: {كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [3: 47] فَكَلِمَةُ (كُنْ) هِيَ الْكَلِمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّكْوِينِ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ إِرَادَتِهِ خَلْقَ الشَّيْءِ وَإِيجَادَهُ، وَقَدْ خَلَقَ الْمَسِيحَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَفِي تَفْسِيرِهَا وُجُوهٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص 250 مِنْ هَذِهِ الطَّبْعَةِ) وَالْإِلْقَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي وَالْكَلَامِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَتَاعِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [16: 86، 87] وَمَعْنَاهُ الطَّرْحُ وَالنَّبْذُ، فَلَمَّا عَبَّرَ اللهُ عَنِ التَّكْوِينِ أَوِ الْبِشَارَةِ بِالْكَلِمَةِ حَسُنَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أَيْ أَوْصَلَهَا إِلَيْهَا وَبَلَّغَهَا إِيَّاهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} فَفِيهِ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِرُوحٍ مِنْهُ تَعَالَى، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِيهِ: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [2: 253] وَقَالَ فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [58: 22].
(وَثَانِيهِمَا): أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خُلِقَ بِنَفْخٍ مِنْ رُوحِ اللهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أُمِّهِ: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [21: 91] وَقَالَ تَعَالَى فِيهَا: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [19: 17] كَمَا قَالَ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ ذِكْرِ بَدْئِهِ مِنْ طِينٍ: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [32: 8، 9] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا النَّفْخُ أَيْ نَفَخَ الْمَلَكُ بِأَمْرِ اللهِ فِي مَرْيَمَ، فَإِنَّهُ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى النَّفْخِ وَالنَّفَسِ الَّذِي يُنْفَخُ، كَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي إِضْرَامِ النَّارِ:
فَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ وَأَحْيِهَا ** بِرُوحِكَ وَاجْعَلْهَا لَهَا فَيْئَةً قَدْرَا

وَالرُّوحُ الَّذِي يَحْيَا بِهِ الْإِنْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْمِ الرِّيحِ (وَأَصْلُ الرِّيحِ رِوْحٌ بِالْكَسْرِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتُنَاسِبَ الْكَسْرَةَ، وَجَمْعُهُ أَرْوَاحٌ، وَأَصْلُ هَذَا رِوَاحٌ بِالْكَسْرِ) كَمَا أَنَّ اسْمَ النَّفْسِ بِسُكُونِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَسِ بِفَتْحِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} الْأَمْرَانِ مَعًا؛ أَيْ أَنَّهُ خُلِقَ بِنَفْخِ الْمَلَكِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالرُّوحِ وَبِرُوحِ الْقُدُسِ، فِي أُمِّهِ نَفْخًا كَانَ كَالتَّلْقِيحِ الَّذِي يَحْصُلُ بِاقْتِرَانِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَانَ مُؤَيَّدًا بِهَذَا الرُّوحِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ؛ وَلِذَلِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الرُّوحَانِيَّةُ، وَظَهَرَتْ آيَاتُ اللهِ فِيهِ زَمَنَ الطُّفُولِيَّةِ وَزَمَنَ الرُّجُولِيَّةِ {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [5: 110] فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوحٌ كَأَنَّهُ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمَلَكِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبَ وِلَادَتِهِ وَأَيَّدَهُ بِهِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ: ذُو عَدْلٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا: الرَّحْمَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُؤْمِنِينَ: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [58: 22] وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} [19: 21] وَيُمْكِنُ إِدْخَالُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوعِهِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ أَنَّ الرُّوحَ مَا بِهِ الْحَيَاةُ. وَالْحَيَاةُ قِسْمَانِ: حِسِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ؛ فَالْأُولَى: مَا يَشْعُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيُدْرِكُ وَيَتَفَكَّرُ وَيَتَذَكَّرُ، وَالثَّانِيَةُ: مَا بِهِ يَكُونُ رَحِيمًا حَكِيمًا فَاضِلًا مُحِبًّا مَحْبُوبًا نَافِعًا لِلْخَلْقِ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ الْوَحْيَ رُوحًا فَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [42: 52] وَقَالَ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [16: 2] وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَآيَةُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ عِيسَى بِكَلِمَتِهِ، وَجَعْلِهِ بَشَرًا سَوِيًّا بِمَا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، كَآيَتِهِ فِي خَلْقِ آدَمَ بِكَلِمَتِهِ وَمَا نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ؛ إِذْ كَانَ خَلْقُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي خَلْقِ النَّاسِ مِنْ ذِكَرٍ وَأُنْثَى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [3: 59].
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْهُ} مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، صِفَةٌ لِـ {رُوحٍ} أَيْ وَرُوحٍ كَائِنَةٍ مِنْهُ، وَزَعَمَ بَعْضُ النَّصَارَى أَنَّ مَنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَنَّ عِيسَى جُزْءٌ مِنَ اللهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ ابْنُهُ، وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ طَبِيبًا نَصْرَانِيًّا لِلرَّشِيدِ نَاظَرَ عَلِيَّ بْنَ حُسَيْنٍ الْوَاقِدَيَّ الْمَرْوَزِيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ فِي كِتَابِكُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، جُزْءٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَرَأَ لَهُ الْوَاقِدِيُّ قَوْلَهُ، تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [45: 13] وَقَالَ: يَلْزَمُ إذًا أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَجْزَاءً مِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ وَأَسْلَمَ، فَفَرِحَ الرَّشِيدُ بِإِسْلَامِهِ، وَوَصَلَ الْوَاقِدِيَّ بِصِلَةٍ فَاخِرَةٍ.
أَمَّا أَنَاجِيلُ النَّصَارَى وَكُتُبُهُمْ فَقَدِ اسْتَعْمَلَتْ لَفْظَ الرُّوحِ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسِيحِ وَفِي غَيْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَتَّى: (1: 18) أَمَّا وِلَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هَكَذَا، لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا تَفْصِيلٌ لِظُهُورِ الْمَلَكِ جِبْرِيلَ لَهَا، وَتَبْشِيرِهِ إِيَّاهَا بِوَلَدٍ، وَمُحَاوَرَتِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا: (53 الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ) فَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ هُوَ اللهَ، وَمَنْ يُؤَيِّدُهُ اللهُ بِهِ لَا يَكُونُ إِلَهًا، فَفِي هَذَا الْفَصْلِ نَفْسِهِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا أَنَّ (الِيصَابَاتَ) أُمَّ يَحْيَى امْتَلَأَتْ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (41) وَبِذَلِكَ حَمَلَتْ بِيَحْيَى وَكَانَتْ عَاقِرًا، وَأَنَّ زَكَرِيَّا أَبَاهُ امْتَلَأَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (67) وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْهُ مَا نَصُّهُ: 25 وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورْشَلِيمَ اسْمُهُ سَمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ (26) وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ عِنْدَهُمْ لَا حَاجَةَ لِإِضَاعَةِ الْوَقْتِ بِكَثْرَةِ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا وَاحِدٌ، وَهُوَ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ الَّذِينَ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَالْقُدْسُ: الطُّهْرُ، وَيُذْكَرُ فِي مُقَابِلِهِ فِي الْأَنَاجِيلِ الرُّوحُ النَّجِسُ، أَيِ: الشَّيْطَانُ، فَجَعَلُوهُ إِلَهًا كَمَا فَعَلَ الْوَثَنِيُّونَ مِنْ قَبْلُ.