فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفخر:
استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر.
وقد ذكرنا استدلالهم بها في تفسير قوله: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ} [البقرة: 34] وأجبنا عن هذا الاستدلال بوجوه كثيرة، والذي نقول هاهنا: إنا نسلم أن اطلاع الملائكة على المغيبات أكثر من اطلاع البشر عليها ونسلم أن قدرة الملائكة على التصرف في هذا العالم أشد من قدرة البشر، كيف ويقال: إن جبريل قلع مدائن قوم لوط بريشة واحدة من جناحه إنما النزاع في أن ثواب طاعات الملائكة أكثر أم ثواب طاعات البشر، وهذه الآية لا تدل على ذلك ألبتة، وذلك لأن النصارى إنما أثبتوا إلهية عيسى بسبب أنه أخبر عن الغيوب وأتى بخوارق العادات.
فإيراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشبهة إنما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالًا في هذا العلم، وفي هذه القدرة من البشر، ونحن نقول بموجبه.
فأما أن يقال: المراد من الآية تفضيل الملائكة على المسيح في كثرة الثواب على الطاعات فذلك مما لا يناسب هذا الموضع ولا يليق به، فظهر أن هذا الاستدلال إنما قوي في الأوهام لأن الناس ما لخصوا محل النزاع والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

اعلم أنّ تفضيل الأنبياء على الملائكة مطلقًا هو قول جمهور أهل السنّة، وتفضيل الملائكة عليهم قول جمهور المعتزلة والبَاقِلاّني والحليمي من أهل السنّة، وقال قوم بالتفصيل في التفضيل، ونسب إلى بعض الماتريدية، ولم يضبط ذلك التفصيل، والمسألة اجتهادية، ولا طائل وراء الخوض فيها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في تفاضل الأنبياء، فما ظنّك بالخوض في التفاضل بين الأنبياء وبين مخلوقات عالم آخر لا صلة لنا به. اهـ.

.قال الفخر:

في الآية سؤال، وهو أن الملائكة معطوفون على المسيح فيصير التقدير: ولا الملائكة المقربون في أن يكونوا عبيدًا لله وذلك غير جائز.
والجواب فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد ولا كل واحد من المقربين.
الثاني: أن يكون المراد ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدًا فحذف ذلك لدلالة قوله: {عَبْدًا للَّهِ} عليه على طريق الإيجاز. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {وَلاَ الملائكة المقربون} يدل على أن طبقات الملائكة مختلفة في الدرجة والفضيلة فالأكابر منهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، وقد شرحنا طبقاتهم في سورة البقرة في تفسير قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} [البقرة: 30]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{المقرّبون}، يحتمل أن يكون وصفًا كاشفًا، وأن يكون مقيِّدًا، فيراد بهم الملقّبون (بالكَرُوبيين) وهم سادة الملائكة: جبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل.
ووصفُهم بالكَروبيين وصف قديم وقع في بيت نسب إلى أميّة بن أبي الصلت.
وقد قالوا: إنَّه وصف مشتقّ من كَرَب مرادف قَرُب، وزيد فيه صيغتا مبالغة، وهي زنة فَعول وياء النسب.
والَّذي أظنّ أنّ هذا اللّفظ نقل إلى العربيّة من العبرانيّة: لوقوع هذا اللّفظ في التّوراة في سفر اللاويين وفي سفر الخروج، وأنّه في العبرانيّة بمعنى القرب، فلذلك عدل عنه القرآن وجاء بمرادفه الفصيح فقال: {المقرّبون}، وعليه فمن دونهم من الملائكة يثبت لهم عدم الاستنكاف عن العبوديّة لله بدلالة الأحرى. اهـ.

.قال الفخر:

المعنى أن من استنكف عن عبادة الله واستكبر عنها فإن الله يحشرهم إليه أي يجمعهم إليه يوم القيامة حيث لا يملكون لأنفسهم شيئًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ومن يستنكف عن عبادته} الآية تخلّص إلى تهديد المشركين كما أنبأ عنه قوله: {وأمَّا الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذّبهم عذابًا أليمًا ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرا}.
وضمير الجمع في قوله: {فسيحشرهم} عائد إلى غير مذكور في الكلام، بل إلى معلوم من المقام، أي فسَيَحْشُر النّاسَ إليه جميعًا كما دلّ عليه التفصيل المفرّع عليه وهو قوله: {فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الخ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ المَلاَئِكَةُ المُقَرَبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَمَّأ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيَوَفِّيهِم أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}.
كيف يستنكف عن عبوديته وبالعبودية شَرَفُه، وكيف يستكبر عن التذلُّلِ وفي استكباره تَلَفُه، ولهذا الشأن نطق المسيح أول ما نطق بقوله: إني عبد الله، وتجمُّل العبيد في التذلل للسَّادة، هذا معلوم لا تدخله ريبة.
وقوله: {وَلاَ المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبُونَ} لا يدل على أنهم أفضل من المسيح، لأنه إنما خاطبهم على حسب عقائدهم، والقوم اعتقدوا تفضيل الملائكة على بني آدم. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون} روي أنّ وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا؟ قال: «وما صاحبكم؟» قالوا: عيسى قال: «وأي شيء أقول؟» قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله قال: «إنه ليس بعار أن يكون عبدًا». قالوا: بلى.
فنزلت أي لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأن العار ألصق به، أي: لن يأنف ويرتفع ويتعاظم.
وقرأ على عبيد الله على التصغير.
والمقربون أي: الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومن في طبقتهم قاله الزمخشري.
وقال ابن عباس: هم حملة العرش.
وقال الضحاك: من قرب منهم من السماء السابعة انتهى.
وعطفوا على عيسى لأن من الكفار من يعبد الملائكة.
وفي الكلام حذف التقدير: ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدًا الله، فإن ضمن عبدًا معنى ملكًا لله لم يحتج إلى هذا التقدير، ويكون إذ ذاك ولا الملائكة من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لحظ في عبد الوحدة.
فإن قوله: ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر.
وإن لحظ في قوله: ولا الملائكة معنى: ولا كل واحد من الملائكة، كان من عطف المفردات.
وقد تشبث بهذه الآية من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء.
قال ابن عطية: ولا الملائكة المقربون زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان أي: ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك، فكيف من سواهم؟ وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء انتهى.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): من أين دل قوله تعالى: {ولا الملائكة المقربون} على أن المعنى ولا من فوقه؟ (قلت): من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يرتفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة.
كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
وما مثله ممن يجاود حاتم ** ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره

لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود.
ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى} حتى يعترف بالفرق البين انتهى كلامه.
والتفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل، وأما الآية فقد يقال: متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول، ولا أن ذلك من باب الترقي.
(فإذا قلت): لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر، فلا دلالة فيه على أنّ عمرًا أفضل من زيد.
وإن سلّمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل، لأنه قابل مفردًا بجمع، ولم يقابل مفردًا بمفرد ولا جمعًا بجمع.
فقد يقال: الجمع أفضل من المفرد، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع، ولا المفرد على المفرد.
وإنْ سلمنا أنّ المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه، حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية، ولا يدل تحيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثوابًا ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهنّ حسن يوسف: {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهنّ وقلن حاش لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم} وقال الشاعر:
فلست بإنسي ولكن لملأك ** تنزل من جوف السماء يصوب

وقال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف ولا الملائكة المقربون؟ (قلت): إما أن يعطف على المسيح، أو على اسم يكون، أو على المستتر في عبدًا لما فيه من معنى الوصف، لدلالته على معنى العبادة، وقولك: مررت برجل عبد أبوه، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه انتهى.
والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه هو كون الاستنكاف يكون مختصًا بالمسيح، والمعنى القائم اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية، لأنه لا يلزم من استنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيدًا، أو أن يكون هو وهم يعبد ربه استنكافهم هم، فقد يرضى شخص أن يضرب هو وزيد عمرًا ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضًا مرجوحية الوجهين من جهة دخول لا، إذ لو أريد العطف على الضمير في يكون، أو على المستتر في عبدًا.
لم تدخل لا، بل كان يكون التركيب بدونها تقول: ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين، وتقول: ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو، فهذان ونحوهما ليسا من مظنات دخول لا، فإن وجد من لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة.
{ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا} حمل أولًا على لفظ مَن فأفرد الضمير في يستنكف ويستكبر، ثم حمل على المعنى في قوله: فسيحشرهم، فالضمير عائد على معنى من هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون الضمير عامًّا عائدًا على الخلق لدلالة المعنى عليه، لأن الحشر ليس مختصًا بالمستنكف، ولأنّ التفصيل بعده يدل عليه.
ويكون ربط الجملة الواقعة جوابًا لاسم الشرط بالعموم الذي فيها، ويحتمل أن يعود الضمير على معنى مَن، ويكون قد حذف معطوف عليه لمقابلته إياه التقدير: فسيحشرهم ومن لم يستنكف إليه جميعًا كقوله: {سرابيل تقيكم الحرّ} أي: والبرد.
وعلى هذين الاحتمالين يكون ما فصل بإمّا مطابقًا لما قبله، وعلى الوجه الأوّل لا يطابق.
والإخبار بالحشر إليه وعيد إذ.
المعنى به الجمع يوم القيامة حيث يذل المستنكف المستكبر.
وقرأ الحسن: بالنون بدل الياء في فسيحشرهم، وباء فيعذبهم على التخفيف. اهـ.