فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله عز وجل: {يا أيها الناس} خطاب للكافة {قد جاءكم برهان من ربكم} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم وما جاء به من البينات من ربه عز وجل وإنما سماه برهانًا لما معه من المعجزات الباهرات التي تشهد بصدقة ولأن للبرهان دليل على إقامة الحق وإيصال الباطل والنبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك ولأنه تعالى جعله حجة قاطعة قطع به عذر جميع الخلائق {وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا} يعني القرآن وإنما سماه نورًا لأن به تتبين الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور بعد الظلام ولأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب فسماه نورًا لهذا المعنى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَا أَيُّهَا الناس} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ إلى كافة المكلفين إثرَ بيانِ بطلانِ ما عليه الكفرةُ من فنون الكفرِ والضلالِ وإلزامِهم بالبراهين القاطعةِ التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ، وإزاحةِ شُبَهِهم الواهيةِ بالبينات الواضحةِ، وتنبيهٌ لهم على أن الحجةَ قد تمت (عليهم) فلم يبقَ بعد ذلك علةٌ لمتعلِّلٍ ولا عُذرٌ لمعتذر.
{قَدْ جَاءكُمُ} أي وصل إليكم وتقرَّرَ في قلوبكم بحيث لا سبيلَ لكم إلى الإنكار {بُرْهَانَ} البرهانُ ما يُبرهَنُ به على المطلوب، والمرادُ به القرآنُ الدالُّ على صحة نبوةِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام المُثبِتُ لما فيه من الأحكام التي من جملتها ما أشير إليه مما أثبتته الآياتُ الكريمةُ من حقية الحقِّ وبُطلانِ الباطل. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام عبَّر عنه به لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه، وقيل: هو المعجزاتُ التي أظهرها، وقيل: هو دينُ الحقِّ الذي أتى به، وقوله تعالى: {مّن رَّبّكُمْ} إما متعلق بجاءكم أو بمحذوف وقع صفةً مشرّفةً لبرهانٌ مؤكدةً لما أفاده التنوينُ من الفخامة الذاتيةِ بالفخامة الإضافيةِ أي كائنٌ منه تعالى، على أن مِنْ لابتداء الغايةِ مجازًا، وقد جُوِّز على الثاني كونُها تبعيضيةً بحذف المضافِ أي كائنٌ من براهينِ ربِّكم. والتعرضُ لعنوان الربوبيّة مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين لإظهار اللُّطفِ بهم والإيذانِ بأن مجيئَه إليهم لتربيتهم وتكميلِهم {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} أريد به أيضًا القرآنُ الكريمُ، عبّر عنه تارة بالبُرهان لما أشير إليه آنفًا وأخرى بالنور النيِّرِ بنفسه المنوَّرِ لغيره إيذانًا بأنه بيِّنٌ بنفسه مستغنٍ في ثبوت حقِّيتِه وكونِه من عند الله تعالى بإعجازه، غيرُ محتاجٍ إلى غيره مبينٌ لغيره من الأمور المذكورةِ وإشعارًا بهدايته للخلق وإخراجِهم من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ، وقد سلك به مسلك العطفِ المبنيِّ على تغايُر الطرفين تنزيلًا للمغايرة العُنوانيةِ منزلةَ المغايَرَةِ الذاتية، وعبِّر عن لابسته للمخاطَبين تارةً بالمجيء المسنَدِ إليه المنبئ عن كمال قوتِه في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيُثبِتُ أحكامَه من غير أن يجيءَ به أحدٌ، ويجيءُ على شُبَه الكفرةِ بالإبطال وأخرى بالإنزال الموُقَعِ عليه الملائمِ لحيثية كونِه نورًا توفيرًا له باعتبار كلِّ واحدٍ من عنوانية حظِّه اللائقِ به، وإسنادُ إنزالِه إليه تعالى بطريق الالتفاتِ لكمال تشريفِه، هذا على تقدير كونِ البرهانِ عبارةً عن القرآن العظيمِ، وأما على تقدير كونِه عبارةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن المعجزات الظاهرةِ على يده أو عن الدينِ الحقِّ فالأمرُ هيِّنٌ، وقولُه تعالى: {إِلَيْكُمْ} متعلقٌ بأنزلنا فإن إنزالَه بالذات وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لكنه منزلٌ إليهم أيضًا بواسطته عليه الصلاة والسلام، وإنما اعتُبر حالُه بالواسطة دون حالِه بالذات كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} ونظائرِه لإظهار كمالِ اللطفِ بهم والتصريحِ بوصوله إليهم مبالغةً في الإعذار، وتقديمُه على المفعول الصريح مع أن حقَّه التأخرُ عنه لما مر غير مرة من الاهتمام بما قُدّم والتشويقِ إلى ما أُخِّر، وللمحافظة على فواصلِ الآي الكريمة. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَا أَيُّهَا الناس} خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم (بالبراهين القاطعة) بما تخرّ له صم الجبال، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر {قَدْ جَاءكُمُ} أتاكم ووصل إليكم {بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ} أي حجة قاطعة، والمراد بها المعجزات على ما قيل.
وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه أن المراد بالبرهان هو النبي صلى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والتنوين للتفخيم، ومن لابتداء الغاية مجازًا وهي متعلقة بجاء أو بمحذوف وقع صفة مشرفة لبرهان مؤكدة لما أفاده التنوين، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجئ ذلك لتربيتهم وتكميلهم.
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ} بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الإعذار {نُورًا مُّبِينًا} وهو القرآن كما قاله قتادة ومجاهد والسدي واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم بعيد غاية البعد، وإذا كان المراد من البرهان القرآن أيضًا فقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلًا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية، وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به، وإطلاق النور المبين لأنه بَينٌ بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجئ المسند إليه المنبئ عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجئ بنفسه فيثبت ما ثبت من غير أن يجئ به أحد، ويجئ على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورًا توقيرًا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به، وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه قاله مولانا شيخ الإسلام والأمر على غير ذلك التقدير هين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}
فذلكة للكلام السابق بما هو جامع للأخذ بالهدى ونبذ الضلال، بما اشتمل عليه القرآن من دلائل الحقّ وكبح الباطل.
فالجملة استئناف وإقبال على خطاب النّاس كلّهم بعد أن كان الخطاب موجّهًا إلى أهل الكتاب خاصّة.
والبرهان: الحجّة، وقد يخصّص بالحجّة الواضحة الفاصلة، وهو غالب ما يقصد به في القرآن، ولهذا سمّى حكماء الإسلام أجَلّ أنواع الدليل، بُرهانًا.
والمراد هنا دلائل النبوءة.
وأمّا النور المبين فهو القرآن لقوله: {وأنزلنا} والقول في {جاءكم} كالقولِ في نظيره المتقدّم في قوله: {قد جاءكم الرّسول بالحقّ من ربّكم} [النساء: 170]؛ وكذلك القول في {أنزلنا إليكم}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من فوائد الشعراوي في الآية:
قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}
والبرهان هو الإعجاز الدال على صدق المبلغ الأخير عن الله، وهو الحجة الدامغة.
وقد يقول قائل: ما هو البرهان وما هو النور؟. ونعلم أن كل رسول يأتي بمعجزة تثبت صدق بلاغه عن ربه قد تكون المعجزة بعيدة عن المنهج، ثم يعطيهم الرسول المنهج ببلاغ من الله؛ مثال ذلك أن معجزة سيدنا موسى كانت العصا لكن منهجه هو التوراة. إذن فالمعجزة هي البرهان على صدق الرسول فيما بلغ عن ربه، وقد لا يكون للمعجزة صلة بالمنهج، فعيسى عليه السلام كانت معجزته إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ومنهجه الإنجيل.
اما رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم فقد تجلت معجزته في أنها عين منهجه، إنّها القرآن ولم تنفصل المعجزة عن المنهج؛ لأنه رسول عام إلى الناس كافة وإلى أن تقوم الساعة. هذا هو البرهان. أما النور فقد جاء أيضًا من أمر حسيّ؛ لأن النور يمنع الإنسان من أن يتعثر في مشيته أو أن يخطئ الطرق أو أن يصطدم بالأشياء فيؤذيها أو تؤذيه. إذن النور الموجود في القرآن هو حقائق القيم، أما نور الله في الماديات فهو أمر معروف للكافة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مُتَعَلِّق بمَحْذُوفٍ، لأنه صِفَةٌ لبُرْهَان أي: بُرْهَانٌ كائِنٌ من ربكم، ومِنْ يجُوز أن تكُون لابتداء الغَايَةِ مَجَازًا أو تَبْعِيضيَّة، أي: من بَرَاهِينِ رَبِّكُم.
والثاني: أنه مُتَعَلِّقٌ بنفس جَاءَ، لابتداء الغَايَةِ كما تقدَّم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (175):

قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أشار في هذه الآية إلى الرسول الأصفى والنبي الأهدى، المجبول على هذا العقل الأقوم الأجلي، والكتاب الأتم الأوفى، الجاري على هذا القانون الأعلى، الوافي تعبيره الوجيز بأحكام الأولى والأخرى، الكفيل سياقه وترتيب آياته بوضوح الأدلة وظهور الحجج؛ أخذ يقسم المنذرين فقال تعالى: {فأما الذين آمنوا بالله} أي الذي اتضح أنه لا أمر لأحد معه في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه بما دل عليه قاطع البرهان {واعتصموا به} أي جعلوه عصامًا لهم في الفرائض التي هي من أعظم مقاصد هذه السورة، يربطهم ويضبطهم عن أن يضلوا بعد الهدى، ويرجعوا من الاسبتصار إلى العمى، لأن العصام هو الرابط للوعاء أن يخرج شيء مما فيه، وصيغة الافتعال تدل على الاجتهاد في ذلك، لأن النفس داعية إلى الإهمال المنتج للضلال {فسيدخلهم} أي بوعد لا خلف فيه، ولعل السين ذكرت لتفيد مع تحقيق الوعد الحثَّ على المثابرة والمداومة على العمل إشارة إلى عزة ما عنده سبحانه: {في رحمة منه} أي ثواب عظيم هو برحمته لهم، لا بشيء استوجبوه، وأشار إلى البر على ما تقتضيه أعمالهم لو كانت لهم بقوله: {وفضل} أي عظيم يعلمون أنه زيادة، لا سبب لهم فيها {ويهديهم} أي في الدنيا والآخرة {إليه صراطًا} أي عظيمًا واضحًا جدًا {مستقيمًا} أي هو مرشد قومه، كأنه طالب لتقويم نفسه، فهو يوصلهم لا محالة إلى وعده بما يحفظهم في سرهم وعلنهم، يستجلي أنوار عالم القدس في أرواحهم وتوفيقهم لاتباع ما هدت إليه من أمر الفرائض وغيرها، فقد أتى- كما ترى- بأما المقتضية للتقسيم لا محالة، وأتى بأحد القسمين المذكورين في الآية التي قبلها، ووصفهم بالاعتصام بالله في النصرة وقبول جميع أحكامه في الفرائض غيرها، وافقت أهويتهم أو خالفتها، تعريضًا للمنافقين الذين والوا غيرهم، وبالكافرين الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وترك القسم الآخر وهو قسم المستنكفين والمستكبرين، ووضع موضعه حكمًا من أحكام الفرائض المفتتح بها السورة التي هي من أعظم مقاصدها من غير حرف عطف، بل بكمال الاتصال، فقال منكرًا عليهم تكرير السؤال عن النساء والأطفال بعد شافي المقال، مبينًا أنه قد هدى في ذلك كله أقوم طريق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ولما قرر على كل العالمين كون محمد رسولًا وكون القرآن كتابًا حقًا أمرهم بعد ذلك أن يتمسكوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ووعدهم عليه بالثواب فقال: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ} والمراد آمنوا بالله في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه واعتصموا به أي بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزع الشيطان ويدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا، فوعد بأمور ثلاثة: الرحمة والفضل والهداية.
قال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صراطا مُّسْتَقِيمًا} يريد دينًا مستقيمًا.
وأقول: الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم، وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية وهذا هو السعادة الروحانية، وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيهًا على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية. اهـ.