فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج الشيخان عن ابن عباس. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت فلأولى رجل ذكر».
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس {يستفتونك} قال: سألوا نبي الله عن الكلالة {يبين الله لكم أن تضلوا} قال في شأن المواريث.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة (براءة) وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}.
وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد والبيهقي في سننه عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته: ألا إن الآية التي أنزلت في سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرت به الرحم من العصبة.
وأخرج الطبراني في الصغير عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا إلى قباء يستخير في العمة والخالة، فأنزل الله لا ميراث لهما.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين قال: كان عمر بن الخطاب إذا قرأ {يبيِّن الله لكم أن تضلوا} قال: اللهم من بيِّنت له الكلالة فلم تتبيَّن لي.
وأخرج أحمد عن عمرو القاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على سعد وهو وجع وغلوب، فقال: يا رسول الله إن لي مالًا، وإني أورث كلالة، أفأوصي بمالي أو أتصدَّق به؟ قال: {لا}. قال: أفأوصي بثلثيه؟ قال: {لا}. قال: أفأوصي بشطره؟ قال: {لا}. قال: أفاوصي بثلثه؟ قال: «نعم، وذاك كثير».
وأخرج الطبراني عن خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت كتب لمعاوية رسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبدالله معاوية أمير المؤمنين من زيد بن ثابت، سلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنك كتبت تسألني عن ميراث الجد والإخوة، وإن الكلالة وكثيرًا مما قضى به في هذه المواريث لا يعلم مبلغها إلا الله، وقد كنا نحضر من ذلك أمورًا عند الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعينا منها ما شئنا أن نعي، فنحن نفتي بعد من استفتانًا في المواريث. والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله سبحانه وتعالى: {فِي الكلالة}: متعلق بـ {يُفْتيكُم}؛ على إعمال الثاني، وهو اختيار البصريّين، ولو أعْمَلَ الأولَ، لأضمرَ في الثاني، وله نظائرُ في القرآن: {هَاؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19].
{آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} [المنافقون: 5] {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [البقرة: 39]، وقد تقدَّم الكلامُ فيه في البقرة، وتقدَّم الكلام في اشتقاق الكلالة في أوَّل هذه السُّورة [النساء: 12]، وقوله: {إِن امرؤ} كقوله: {وَإِنِ امرأة} [النساء: 128].
و{هَلَكَ} جملةٌ فعليةٌ في محلِّ رفع صفة لـ {امْرُؤٌ}.
و{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} جملةٌ في محلِّ رفعِ أيضًا صفةً ثانية، وأجاز أبو البقاء أن تكون هذه الجملةُ حالًا من الضمير في {هَلَكَ}، ولم يذكر غيره، ومنع الزمخشريُّ أن تكون حالًا، ولم يبيِّن العلةَ في ذلك، ولا بيَّن صاحب الحال أيضًا، هل هو {امْرُؤٌ} أو الضميرُ في {هَلَكَ}؟ قال أبو حيان: ومنع الزمخشريُّ أن يكون قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} جملةً حالية من الضمير في {هَلَكَ}، فقال: ومحلُّ {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} الرفع على الصفةِ، لا النصبُ على الحال. انتهى.
قال شهاب الدين: والزمخشريُّ لم يَقُلْ كذلك، أي: لم يمنعْ كونها حالًا من الضمير في {هَلَكَ}، بل منع حاليتها على العموم، كما هو ظاهر قوله، ويحتملُ أنه أراد منع حاليتها من {امْرُؤٌ}؛ لأنه نكرةٌ، لكنَّ النَكرة هنا قد تخصَّصَتْ بالوصف، وبالجملةِ فالحالُ من النكرَةِ أقلُّ منه من المعرفة، والذي ينبغي امتناعُ حاليتها مطلقًا؛ كما هو ظاهر عبارته؛ وذلك أنَّ هذه الجملة المفسِّرة للفعل المحذوف لا موضعَ لها من الإعراب؛ فأشبهت الجمل المؤكِّدة، وأنت إذا أتبعت أو أخبرت، فإنما تريدُ ذلك الاسم المتقدِّم في الجملة المؤكِّدة السابقة، لا ذلك الاسم المُكَرَّرَ في الجملة الثانية التي جاءت تأكيدًا؛ لأن الجملة الأولى هي المقصودة بالحديث، فإذا قلت: ضَرَبْتُ زَيْدًا، ضربْتُ زَيْدًا الفَاضِل، فالفَاضِل صفةُ زَيْدًا الأوَّلِ؛ لأنه في الجملة المؤكدة المقصودُ بالإخبار، ولا يضُرُّ الفصلُ بين النعتِ والمنعوت بجملة التأكيد، فهذا المعنى يَنْفِي كونها حالًا من الضمير في {هَلَكَ}، وأما ما ينفي كونها حالًا من {امْرؤٌ} فلما ذكرته لك من قلَّةِ مجيء الحال من النكرةِ في الجملة، وفي هذه الآية على ما اختارُوهُ من كون {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} صفة- دليلٌ على الفصْلِ بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة للمحذوف في باب الاشتغال، ونظيرُه: إنْ رَجُلٌ قام عَاقِلٌ فأكْرِمْهُ فعَاقِلٌ صفةٌ لرَجُلٌ فُصِل بينهما بقَامَ المفسِّر لقام المفسَّر.
والفاء في {فَلَهَا} جوابُ {إنْ}.
وقوله عز وجل: {وَهُوَ يَرِثُهَا} لا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لاستئنافها، وهي دالةٌ على جواب الشرط، وليست جوابًا؛ خلافًا للكوفيِّين وأبي زيد، وقال أبو البقاء: وقد سدَّتْ هذه الجملةُ مَسَدَّ جواب الشرط، يريد أنها دالةٌ كما تقدَّم، وهذا كما يقول النحاة: إذا اجتمع شرطٌ وقسم، أُجِيبَ سابقهما، وجعل ذلك الجوابُ سادًّا مسدَّ جواب الآخر، والضَّميران من قوله: {وهو يَرِثُهَا} عائدان على لفظ امرئ وأخت دون معناهما، فهو من باب قوله: [الطويل]
وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ** وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهْوَ سَارِبُ

وقولهم: عنْدي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ، وقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11]، وإنما احتيج إلى ذلك؛ لأنَّ الحيةَ لا تُورثُ، والهالكَ لا يرثُ، فالمعنى: وامْرَأ آخَرَ غيرَ الهَالِكِ يَرِثُ أختًا له أخْرَى.
قوله تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} الألف في {كَانَتَا} فيها أقوال:
أحدها: أنها تعود على الأختين يدلُّ على ذلك قوله: {ولَهُ أختٌ}، أي: فإن كانت الأختان اثنتين، وقد جَرَتْ عادةُ النحويّين أن يسألوا هنا سؤالًا، وهو أنَّ الخبر لابد أن يفيد ما لا يفيدُهُ المبتدأ، وإلاَّ لم يكنْ كلامًا، ولذلك منعُوا: سيِّدُ الجَارِيَةِ مالِكُهَا؛ لأن الخبر لم يَزِدْ على ما أفاده المبتدأ، والخبرُ هنا دَلَّ على عدد ذلك العدد مستفادٌ من الألف في {كَانَتَا}، وقد أجابوا عن ذلك بأجْوبَةٍ منها: ما ذكره أبو الحسن الأخْفشُ وهو أنَّ قوله: {اثْنَتَيْن} يدلُّ على مجرَّد الاثْنَيْنيَّة من غير تقييدٍ بصغير أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف، يعني أن الثُّلثين يستحقَّان بمجرَّد هذا العدد من غير اعتبار قيدٍ آخر؛ فصار الكلام بذلك مُفِيدًا، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألفَ في {كَانَتَا} تدلُّ أيضًا على مجرَّد الاثْنينيَّة من غير قيد بصغير أو كبير أو غيرهما من الأوصاف، فقد رجع الأمرُ إلى أنَّ الخبر لم يُفِدْ غير ما أفادَهُ المبتدأ، ومنها: ما ذكرَهُ مكي عن الأخْفَشِ أيضًا، وتبعه الزمخشريُّ وغيره؛ وهو الحَمْلُ على معنى مَنْ، وتقريرُه ما ذكره الزمخشريُّ؛ قال رحمه الله: فإن قلت: إلى مَنْ يرجعُ ضميرُ التثنية والجمع في قوله: {فإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ}، {وإنْ كَانُوا إخْوة}؟ قلتُ: أصلُه: فإن كان مَنْ يَرِثُ بالأخوَّة اثْنتين، وإن كان من يرثُ بالأخوَّة ذكورًا وإناثًا، وإنما قيل: فإنْ كَانَتَا، وإن كَانُوا كما قيل: مَنْ كَانَتْ أمَّكَ فكما أنَّث ضمير مَنْ لمكان تأنيث الخبر كذلك ثَنَّى وجمع ضميرَ مَنْ يرث في كَانَتَا وكَانُوا؛ لمكانِ تثنية الخبر وجمعه، وهو جوابٌ حسن.
إلا أن أبا حيان اعترضَهُ، فقال: هذا تخريجٌ لا يَصِحُّ، وليس نظيرَ مَنْ كانَتْ أمَّكَ؛ لأنه قد صَرَّح بمَنْ، ولها لفظٌ ومعنًى، فمن أنَّث، راعى المعنى؛ لأن التقدير: أيةُ أمٍّ كانَتْ أمكَ ومدلولُ الخبر في هذا مخالفٌ لمدلولِ الاسمِ؛ بخلافِ الآية؛ فإن المدلولَيْنِ واحد، ولم يؤنِّث في مَنْ كَانَتْ أمكَ؛ لتأنيث الخبر، إنما أنَّث لمعنى مَنْ؛ إذ أراد بها مؤنَّثًا؛ ألا ترى أنك تقول: مَنْ قَامَتْ، فتؤنث مراعاة للمعنَى؛ إذ أردْتَ السؤال عن مؤنَّث، ولا خبر هنا؛ فيؤنَّثَ قَامَتْ لأجله. انتهى.
قال شهاب الدين: وهذا تحاملٌ منه على عادته، والزمخشريُّ وغيره لم يُنْكِرُوا أنه لم يُصَرِّحُ في الآية بلفظ مَنْ؛ حتَّى يُفَرِّقَ لهم بهذا الفرقِ الغامِضِ، وهذا التخريجُ المذكورُ هو القولُ الثاني في الألف.
والظاهرُ أنَّ الضمير في {كَانَتَا} عائدٌ على الوَارِثَتَيْنِ، و{اثْنَتَيْنِ} خبرُه، ولَهُ صفةٌ محذوفة بها حصلتِ المغايرةُ بين الاسْم والخبر، والتقديرُ: فإن كانت الوارثَتَانِ اثنتَيْن من الأخَوَاتِ، وهذا جوابٌ حسنٌ، وحذفُ الصفةِ لفهمِ المعنى غيرُ مُنْكَرٍ، وإن كان أقلَّ من عكْسه، ويجوز أن يكون خبرُ كَانَ محذوفًا، والألفُ تعودُ على الأختين المدْلُولِ عليهما بقوله: {وَلَهُ أُخْتٌ}؛ كما تقدَّم ذكره عن الأخفش وغيره؛ وحينئذٍ يكونُ قوله: {اثْنَتَيْن} حالًا مؤكِّدة، والتقديرُ: وإنْ كانت الأختانِ له، فحذفَ لَهُ، لدلالةِ قوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} عليه.
فهذه أربعةُ أقوال.
قوله تعالى: {وَإِن كانوا} في هذا الضمير ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه عائد على معنى مَنْ المقدرة، تقديرُه: فإنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ إخْوَة؛ كما تقدَّم تقريره عن الزمخشريِّ وغيره.
الثاني: أنه يعود على الإخْوَة، ويكون قد أفاد الخبر بالتفصيل؛ فإنَّ الإخوة يشمل الذُّكُورَ والإنَاث، وإن كان ظاهرًا في الذكور خاصَّة، فقد أفاد الخبر ما لم يُفِدْه الاسم، وإن عاد على الوارث، فقد أفاد ما لم يُفِدْه الاسم إفادةً واضحةً، وهذا هو الوجهُ الثالثُ، وقوله: {فَلِلذَّكَرِ}، أي: منهم، فحُذِفَ لدلالةِ المعنَى عليه.
قوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أظهرها: أن مفعول البيان محذوفٌ، و{أن تَضِلُّوا} مفعولٌ من أجله؛ على حذفِ مضاف، تقديره: يُبَيِّنُ اللَّهُ أمْرَ الكلالةِ كراهة أنْ تَضِلُّوا فيها، أي: في حُكْمِهَا، وهذا تقديرُ المبرِّد.
والثاني- قول الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين-: أنَّ لا محذوفةٌ بعد أنْ، والتقدير: لئلاَّ تَضِلُّوا، قالوا: وحذفُ لا شائعٌ ذائعٌ؛ كقوله: [الوافر]
رَأيْنَا مَا رَأى البُصَراءُ فِيهَا ** فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا

أي: ألاَّ تُبَاعَ، وقال أبو إسحاق الزَّجاج: هو مثل قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] أي: لئلا تَزُولا، وقال أبو عبيد: رَوَيْتُ للكسائيِّ حديث ابن عُمَر وهو: لا يَدْعُونَّ أحدُكُمْ على وَلَدِهِ أن وَافَقَ مِنَ الله إجَابَة فاستحسنه، أي: لئلاَّ يوافق.
قال النَّحَّاس: المعنى عند أبي عُبَيْد: لئلا يُوافِق من اللَّه إجابة، وهذا القَوْلُ عند البصريِّين خطأ؛ لأنهم لا يُجِيزُون إضْمَار لا، والمعنى عندهُم: يبيِّن الله لَكُم كرَاهَة أنْ تَضِلُّوا، ثم حذف؛ كما قال: {واسأل القرية} [يوسف: 82]، وكذا معنى الحديث، أي كَراهَة أن يُوافِقَ من اللَّه إجَابَة.
ورجَّح الفارسيُّ قول المبرِّد؛ بأنَّ حذفَ المضاف أشيعُ من حذف لا النافية.
الثالث: أنه مفعول {يُبَيِّنُ}، والمعنى: يبيِّن الله لكُمُ الضلالة، فتجتنبونَها؛ لأنه إذا بيَّن الشر اجتُنِبَ، وإذا بيَّن الخيرَ ارتُكِب. اهـ. باختصار.

.التفسير الإشاري:

قال النيسابوري:
التأويل: {وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض} يعني إن تؤمنوا يكن لكم ماله وإن تكفروا فالكل له {لا تغلوا في دينكم} لا تميلوا إلى طرفي التفريط والإفراط. فاليهود فرطوا في شأنه فلم يقبلوه نبيًا وهموا بقتله، والنصارى أفرطوا في حبه فجعلوه ابن الله، وكذلك كل ولي له سبحانه يشقى قوم بترك احترامه وطلب أذيته، وقوم بالزيادة في إعظامه حتى يعتقد فيه ما ليس يرضى به كالخوارج والغلاة من الشيعة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارة عيسى ابن مريم» {وروح منه} لأنه تكوّن بأمركن من غير واسطة أب كما أن الروح تكون كذلك {قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] ولغلبة جانب الروحانية عليه كان يحيي الأجساد الميتة إذ ينفخ فيها وهذا الاستعداد الروحاني الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان؛ فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته في إنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله تعالى بأنفاسه القلوب الميتة ويفتح به آذانًا صمًا وعيونًا عميًا فيكون في قومه كالنبي في أمته {ولا تقولوا ثلاثة} يعني نفوسكم والرسول والله. بل انتهوا بنظر الوحدة عن رؤية الثلاثة فينكشف لكم {إنما الله إله واحد} سبحانه أنه يتولد من وحدانيته شيء له الوجود الحقيقي القائم الدائم أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] {وكفى بالله وكيلًا} لكل هالك. {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا الله} لأن العبدية وهي حقيقة الإمكان الذاتي واجبة له ولهذا نطق في المهد بقوله: {إني عبد الله} [مريم30] {ولا الملائكة المقربون} إنما ذكرهم لأن بعض الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله كما قالت النصارى المسيح ابن الله. {قد جاءكم برهان} جعل نفس النبي برهانًا لأنه برهان بالكلية وبرهان غيره كان في أشياء غير أنفسهم مثل ما كان برهان موسى في عصاه. فمن ذلك برهان بصره {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17] ومنه برهان أنفه «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن».
ومنه برهان لسانه {وما ينطق عن الهوى} [النجم: 3] وبرهان بصاقه بصق في العجين وفي البرمة فأكلوا من ذلك وهم ألف حتى تركوه والبرمة تفور كما هي والعجين يخبز. وبرهان تفله تفل في عين علي كرم الله وجهه وهي ترمد فبرأ بإذن الله وذلك يوم خيبر، وبرهان يده {وما رميت إذ رميت} [الأنفال: 17] وسبح الحصى في يده، وبرهان أصبعه أشار بها إلى القمر فانشق فلقتين، وقد جرى الماء من بين أصابعه حتى شرب ورفع منه خلق كثير، وبرهان صدره كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل. {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] وبرهان قلبه «تنام عيناي ولا ينام قلبي» {نزل به الروح الأمين على قلبك} [الشعراء: 193] وبرهان كله {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1] اللهم ارزقنا الاقتناص من هذا البرهان والاقتباس من أنوار القرآن إنك أنت الرؤوف المنان. اهـ.