فصل: قال محمد أبو زهرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما اليهود فلأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها، وأما النصارى فلأن فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام.
وفي حديث عمر في صحيح البخاري: وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا.
وقد امتازت هذه السورة باتساع نطاق المجادلة مع النصارى، واختصار المجادلة مع اليهود، عما في سورة النساء.
مما يدل على أن أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن، وأن الاختلاط مع النصارى أصبح أشد منه من ذي قبل.
وفي سورة النساء تحريم السكر عند الصلوات خاصة، وفي سورة المائدة تحريمه بتاتا، فهذا متأخر عن بعض سورة النساء لا محالة.
وليس يلزم أن لا تنزل سورة حتى ينتهي نزول أخرى بل يجوز أن تنزل سورتان في مدة واحدة.
وهي، أيضا، متأخرة عن سورة براءة: لأن براءة تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلا مرة، وذلك يؤذن بأن النفاق حين نزولها قد انقطع، أو خضدت شوكة أصحابه.
وإذ قد كانت سورة براءة نزلت في عام حج أبي بكر بالناس، أعني سنة تسع من الهجرة.
فلا جرم أن بعض سورة المائدة نزلت في عام حجة الوداع، وحسبك دليلا اشتمالها على آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة، عام حجة الوداع، كما في خبر عن عمر بن الخطاب.
وفي سورة المائدة [3] قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ} وفي خطبة حجة الوداع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم».
وقد عدت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول.
عن جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة.
وعدد آيها: مائة واثنتان وعشرون في عدد الجمهور، ومائة وثلاث وعشرون في عد البصريين، ومائة وعشرون عند الكوفيين.
وجعلت هذه السورة في المصحف قبل سورة الأنعام مع أن سورة الأنعام أكثر منها عدد آيات: لعل ذلك لمراعاة اشتمال هذه السورة على أغراض تشبه ما اشتملت عليه سورة النساء عونا على تبيين إحداهما للأخرى في تلك الأغراض.
وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبئ بأنها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود، أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على الصلاة والزكاة والنصح لكل مسلم، كما في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح.
وأخذ البيعة على الناس بما في سورة الممتحنة، كما روى عبادة بن الصامت.
ووقع في أولها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] فكانت طالعتها براعة استهلال.
وذكر القرطبي: أن فيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها، وهي سبع في قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ... وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} [المائدة: 3] {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ... وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} [المائدة: 5]، وتمام الطهور: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أي إتمام ما لم يذكر في سورة النساء {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} و{لاتَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]، و{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103]، وقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] الآية وقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 58] ليس في القرآن ذكر للأذان للصلوات إلا في هذه السورة. اهـ.
وقال ابن عاشور:
وقد احتوت على تمييز الحلال من الحرام في المأكولات، وعلى حفظ شعائر الله في الحج والشهر الحرام، والنهي عن بعض المحرمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام، وفيها شرائع الوضوء، والغسل، والتيمم، والأمر بالعدل في الحكم، والأمر بالصدق في الشهادة، وأحكام القصاص في الأنفس والأعضاء، وأحكام الحرابة، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفاق المنافقين، وتحريم الخمر والميسر، والأيمان وكفارتها، والحكم بين أهل الكتاب، وأصول المعاملة بين المسلمين، وبين أهل الكتاب، وبين المشركين والمنافقين، والخشية من ولايتهم أن تفضي إلى ارتداد المسلم عن دينه، وإبطال العقائد الضالة لأهل الكتابين، وذكر مساو من أعمال اليهود، وإنصاف النصارى فيما لهم من حسن الأدب وأنهم أرجى للإسلام وذكر قضية التيه، وأحوال المنافقين، والأمر بتخلق المسلمين بما يناقض أخلاق الضالين في تحريم ما أحل لهم، والتنويه بالكعبة وفضائلها وبركاتها على الناس، وما تخلل ذلك أو تقدمه من العبر، والتذكير للمسلمين بنعم الله تعالى، والتعريض بما وقع فيه أهل الكتاب من نبذ ما أمروا به والتهاون فيه، واستدعاؤهم للإيمان بالرسول الموعود به.
وختمت بالتذكير بيوم القيامة، وشهادة الرسل على أممهم، وشهادة عيسى على النصارى، وتمجيد الله تعالى. اهـ.

.قال محمد أبو زهرة:

بين يدي السورة:
هذه سورة المائدة جاءت بعد سورة النساء، وسميت سورة المائدة لأنها اشتملت في آخرها على طلب الحواريين من عيسى ابن مريم- عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم- أن ينزل عليهم ربهم مائدة من السماء، واستجاب عيسى عليه السلام لما طلبوا فطلب من الله تعالى قائلا كما أخبر القرآن الكريم عنه: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين}
وقد نزلت بعد فتح مكة، وهى سورة مدنية، وإن قال الأكثرون: إن آية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا} إنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات، في حجة الوداع؟ لأنها نزلت على أى حال بعد الهجرة.
وهى من آخر القرآن نزولا، وقد اشتملت على أحكام شرعية كثيرة، وابتداؤها يدل على ما فيها، فقد ابتدأت بوجوب الالتزام بالتكليفات التي كلف الله عبيده إياها، وما يعقده العبد مع الناس، ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح، والحرام منها، مع الإشارة إلى تحريم الصيد في الحرم من المحرمين، واحترام الشعائر في الحج.
ثم أشارت من بعد ذلك إلى تمام الشرع الإسلامى، وكماله، وتكلمت السورة الكريمة من بعد ذلك في العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب من الناحية الشخصية، وإباحة ذبائحهم، وحل نسائهم.
وبعد أن بينت هذه المباحات من الطيبات، أخذت تتجه إلى غذاء الروح بعد غذاء الجسم، وهو الصلاة، وما يجب أن يتقدمها، وأن العبادات لا يريد الله تعالى منها بعباده الضيق والحرج، ولكن الطهارة النفسية.
{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم}
وإن الطهارة في الصلاة لها غاية اجتماعية عالية، وهى حسن التعامل، وإقامة العدالة، ولذلك أمر من بعد هذا بإقامة العدالة مع العدو، ومع الولى على سواء، ثم ذكر المؤمنين بأن العدالة هي التي تحمى المجتمعات، وأن الله تعالى حماهم عندما هم قوم أن يبسطوا أيديهم بإيذائهم، ثم ذكرهم ببنى إسرائيل أنهم عندما نقضوا الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم بإقامة العدل لعنهم الله تعالى، وجعل قلوبهم قاسية قد غلقت عن الحق، وأغلفت على تحكم الهوى، فأخذوا يحرفون الكتب ويحذفون منها ما لا تهوى الأنفس، وكذلك فعل النصارى حتى ادعوا الألوهية للمسيح عيسى ابن مريم، فكفروا، واسترسلوا حتى ادعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ثم وجه الله تعالى الخطاب من بعد للذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الحق، ويقيم الحجة عليهم بهذه الدعوة القائمة.
وإن الذل يفسد القلوب، ويذهب النخوة، وكذلك كان الأمر بالنسبة لليهود، فقد ذكرت السورة الكريمة أنهم بعد أن ضربت عليهم الذلة في مصر أراد موسى عليه السلام بأمر ربه أن يجعل منهم قوما ذوى بأس، فأراد أن يقودهم ليدخلوا الأرض المقدسة، ولكنهم آثروا الاستنامة، فأخذوا يتيهون في الأرض أربعين سنة.
وإن النفس البشرية إذا دخلها الحسد فسدت، وصارت العداوة بدل المودة في موضع كان يجب أن تسوده المحبة، وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة خبر ابنى آدم إذ قتل أحدهما الآخر؟ لأنه قبل قربانه، ولما أخذه الندم بعد فوات وقت العمل حار في مواراة جثة أخيه، حتى تعلمها من غراب أخذ يبحث في الأرض ليوارى جثة غراب مثله.
وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدى إلى القتل؟ فلذلك شرعت عقوبة القصاص، كما ذكر النص القرآنى في هذه السورة الجامعة.
وإذا كان الحقد البشرى في الجماعات هو الذي يؤدى إلى أشد الجرائم فتكا بها، فقد ذكر سبحانه عقوبات شديدة تناسب الجرائم العنيفة الشديدة، فذكر سبحانه عقوبة الذين يحاربون النظام، وينقضون على الشرع ويزعجون الآمنين، ويقطعون الطريق على السابلة، وقد ذكر سبحانه وتعالى- بعد ذكر عقوبة قطع الطريق المغلظة بطبيعتها- ذكر سبحانه أن طلب الحق والجهاد في سبيله، وتثبيت النظام الإسلامى ووضعه في نصابه، هو الوسيلة الكبرى للتقرب إلى الله تعالى. وذكر من بعد عقوبة الذين يهددون الأمن بقوة قاهرة ظاهرة، وحكم الذين يهددون الأمن في خفية، ويزعجون الناس في مآمنهم، فذكر عقوبة السرقة، وهى قطع اليد.
وبعد بيان هذه العقوبات الزاجرة للجرائم المنبعثة، والتى يسوق إليها الحقد والحسد أخذ يبين سبحانه حال أهل الكتاب من اليهود، وما فسدت به قلوبهم من حقد أثر في قولهم واعتقادهم، وأوجد النفاق في قلوبهم، وجعل أعمالهم إثما مستمرا، وأنهم لم ينفذوا أحكام التوراة في جرائمهم، وأرادوا أن يفروا منها إلى أحكام الإسلام زاعمين أنها تخفف عنهم، وقد بين سبحانه أحكام التوراة. التي نزلت على موسى، ووجوب أن يخضعوا لها، كما يجب أن يخضع أهل الإنجيل لما جاء في الإنجيل، ومنها التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأشار سبحانه وتعالى إلى أن لكل أمة جعل سبحانه شرعة ومنهاجا مؤقتا، حتى جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم- وإنه بعد نزول القرآن لا حكم إلا له؟ ولذا قال سبحانه: {أن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم... وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}.
وإن الحقد الذي سكن قلوب الذين يخالفونكم من أهل الكتاب لا يسوغ لكم أن تتخذوا منهم نصراء، فإن بعضهم نصراء لبعضهم، وإن الذي يرضى أن يكونوا أولياء عليه يكون منهم، وإن من يفعل ذلك يكون مرتدا عن دينه خاذلا له، ومن يرتد عن دينه لا يخسر الله تعالى به شيئا، بل سيخلفه في الإسلام قوم يحبهم الله ويحبونه، بعد أن زال فساد المنافقين المرتدين.
وبين سبحانه وتعالى أن الولاية لله وحده وأن اليهود يتخذون الإسلام هزوا ولعبا، وأنهم يسارعون في الإثم والعدوان متنقلين في دركاتهما، وأن الذي أفسدهم أنهم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل، وقد أمر الله نبيه في وسط ذلك الغبار الذي يثيرونه أن يبلغ ما أنزل إليه، وقد بين سبحانه بعد ذلك أنه من يخلص لله يدخل الجنة؟ لأنه لا محالة سيدرك ما جاء به محمد ويؤمن به، ولقد بين سبحانه كفر الذين ألهوا المسيح، وقالوا: إن الله تعالى ثالث ثلاثة، وبين أنه يجب أن يرجعوا إلى الله تعالى، ولكنهم غلوا في دينهم، فغلا النصارى في شأن المسيح فقدسوه وألهوه، وغلا اليهود في الطعن فيه، وهموا بقتله، وادعوا أنهم قتلوه.