فصل: قال ملا حويش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ملا حويش:

تفسير سورة المائدة:
عدد 26 و112 و5
نزلت بالمدينة بعد سورة الفتح عدا الآية (5) المذكور فيها {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إلخ، فإنها نزلت في عرفات في حجة الوداع والتي واقف فيها.
وهي مائة وعشرون آية، وأربعة آلاف ومئة وثلاثون كلمة، وعشرة آلاف وخمسمائة حرف، تقدمت السّور المبدوءة بما بدئت في سورة الكافرين ج 1، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} العهود والمواثيق والإيمان والوعود وكلّ ما ألزمتموه أنفسكم مما يسمى عقدا ويدخل فيه عقود الأنكحة والبيع والشّراء والرّهن والشّركة وغيرها مما أحله اللّه لكم وحرمه عليكم.
ثم شرع بتفصيلها فقال عز قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} يدخل فيها كلّ بهيمة لأن النّكرة إذا أضيفت عمت، ولكن هذه الإضافة على تقدير من أي بهيمة من الأنعام المحلل أكلها فيخرج من عمومها ذوات الحوافر وما لم يعرف من الأنعام كالضواري والسّباع وبقية الوحوش مما لم يؤكل أما الظّباء وبقر الوحش وحماره وما يؤكل من أمثالها فتؤكل، وقال ابن عباس ومن بهيمة الأنعام الجنين والحكم الشّرعي فيه هو إذا ذبحت أمه وخرج حيا ذبح وأكل بلا خلاف، وإن خرج ميتا فلا، وما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال في الجنين ذكاته ذكاة أمه أي كذكاتها بأن يذبح مثلها لا أن ذبح أمه ذبح له ولو خرج ميتا، وقال الشّافعي يؤكل ولو خرج ميتا، لما جاء في بعض الأخبار أنه ككبدها، وكأنه رضي اللّه عند تلقى الحديث برفع ذكاة، فيكون المعنى ذكاته هي ذكاة أمه وتلقاه أبو حنيفة ومن تبعه بالنّصب، وعليه يكون المعنى ذكاته كذكاة أمه رحم اللّه الجميع ورضي عنهم وأرضاهم فكل ما يطلق عليه لفظ بهيمة على ما ذكر أعلاه حل لكم أيها النّاس {إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} تحريمه فيما يأتي فهو حرام عليكم، وهذا التحليل ليس على إطلاقه أيضا فيما أحل لكم، إذ قد يستثنى منه في بعض الأحوال منها ما هو في قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} لأنه وان كان حلالا إلا أنه يحرم عليكم {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} في حرم مكة شرفها اللّه، إذ لا يجوز لكم صيد شيء من تلك البهائم ولا أكله تبعا لحرمة صيده، وليس لكم أن تعترضوا على أحكام اللّه فيما يحلل ويحرم {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} (1) في شؤون خلقه لا يسأل عما يفعل، ولا راد لحكمه، ولا معقب لما يحكم، فله أن يتعبدكم بما تعلمون سببه ونفعه وضره ومالا {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ} بسبب أنكم لا تعقلون المراد منها ولا فائدتها ولا نتيجتها، بل عليكم أن تعتقدوا ما حرم عليكم لمجرد تحريمه، وحل ما أحله لكم بمطلق تحليله، بقطع النّظر عن الأسباب الداعية لذلك.
وسبب نزول هذه الآية أن الخطيم شريح بن هند بن ضبة البكري أتى المدينة وحده وترك خيله وراءها ودخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فقال إلام تدعو النّاس؟ فقال إلى شهادة أن لا أله إلّا اللّه وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة، فقال حسن الا إن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وخرج فقال صلّى اللّه عليه وسلم دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر، وما الرّجل بمسلم، فلما ذهب مرّ بسرح المدينة فاستساقه، فلما كان العام القابل خرج حاجّا مع بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة وقلد الهدي، فقالوا يا رسول اللّه هذا الخطيم فخلّ بيننا وبينه فقال إنه قلد الهدي، فقالوا هذا شيء كنا نفعله بالجاهلية، فأبى صلّى اللّه عليه وسلم، فنزلت بمنع التعرض لمن يقدم البيت بأحد شعائر أعلام الدّين ومناسك الحج والعمرة، إلا أن هذا على فرض صحته لا يقيد الآية بما ذكر ولا يخصصها فيه بل هي عامة في النهي عن استحلال كلّ شعيرة من شعائر اللّه {وَلَا} تحلوا أيها النّاس {الشَّهْرَ الْحَرامَ} بأن تقاتلوا فيه من لم يقاتلكم فيه، أما إذا بدأكم أحد بالقتال فيه فقاتلوه لأنه يكون دفاعا مشروعا.
راجع الآية 192 من البقرة {وَلَا} تحلوا {الْهَدْيَ} المساق إلى البيت الحرام {وَلَا الْقَلائِدَ} البدن المقلدة إعلاما بأنها مهداة إلى البيت، إذ لا يجوز أخذها بوجه من الوجوه لاختصاصها بالحرم {وَلَا} تحلوا قتال {آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ} أي قاصدينه {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا} منه في الآخرة وربحا في الدّنيا بتجارتهم فيه.
تشير هذه الآية إلى تحريم ذلك كله وتحذير النّاس من استحلال شيء منه لما فيه من إهانة البيت الواجب تعظيمه الذي جعله اللّه أمنا للناس ومخالفة أمر اللّه في ذلك.

.مطلب في النّسخ والحرمات وأسباب تحريمها والأنصاب والأزلام وغيرها والآية المستثناة:

قال علماء النّاسخ والمنسوخ لم ينسخ من المائدة إلّا هذه الآية، والنّاسخ لها قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية 5 من التوبة فتكون ناسخة لقوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ} الآية المارة فقط، وإن قوله: {وَلَا آمِّينَ} الفقرة منها منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية 30 من التوبة أيضا.
وقال بعضهم لم ينسخ منها إلّا جملة {وَلَا آمِّينَ} والنّاسخ لها الآيتان المذكورتان من التوبة الآتية.
وقال بعضهم لم ينسخ إلّا كلمة القلائد لأنها من أعمال الجاهلية لأنهم كانوا يقلدون الهدي بشيء من لحاء الشّجر وشبهه، وقد ترك هذا بالإسلام.
والقول الحق أن لا نسخ لشيء من ذلك أبدا كما ذهب إليه الواحدي وجماعة من علماء التفسير.
وهذه الآية كلها محكمة كسائر السّورة، ومما يرد على القائلين بالنسخ هو أن اللّه تعالى لم يندبنا إلى إخافة من يقصد بيته من أهل شريعتنا، لا في الشّهر الحرام ولا في غيره، وهو الأوجه، لأن الآية مطلقة وليس لنا أن نقيدها بغير المؤمنين فنصرفها عن ظاهرها ونقول بالنسخ، ولأن آية براءة في المشركين خاصة فنصرفها إليهم كما صرفها اللّه، لأن المشرك لو قلد نفسه بجميع ما يدل على الشّعائر الإسلامية لا يؤذن له بالدخول إلى المسجد الحرام بعد نزول تلك الآية وإلى الأبد حتى يسلم، والقول الحق هو أنه ما دام يوجد للآية محمل على إحكامها فلا يليق أن نصرفها لغيره وننتحل طرقا للنسخ فنخرج عن صدد ما ترمي إليه آيات اللّه، فرحم اللّه علماء النّاسخ والمنسوخ ما أغلاهم فيهما، ولو صرفوا جهدهم هذا لغيره لكان خيرا لهم {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا} هذا أمر إباحة كقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} لأن اللّه حرم الصّيد على المحرم حالة إحرامه بالحرم وحرم البيع حالة النداء إلى الجمعة، فإذا أحل المحرم جاز له الصّيد كما إذا قضيت الصّلاة حل له البيع، راجع آخر سورة الجمعة المارة {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} يحملنكم ويكسبنكم ويوقعنكم في الجريمة {شَنَآنُ} بغض وكراهة {قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} في حادثة الحديبية وغيرها {أَنْ تَعْتَدُوا} عليهم بعد أن فتح اللّه عليكم وأظهركم عليهم وأعتقهم رسولكم لقوله أنتم الطّلقاء بعد أن استسلموا اليه، ولهذا صدر اللّه هذه السّورة بالأمر بالوفاء {وَتَعاوَنُوا} أيها المؤمنون {عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى} فيما بينكم واعفوا عمن أساء إليكم وغضوا عن مساويهم ومنهم الخطيم المذكور، لأن مجيئه إلى الحرم متلبسا باعلام الحج قبل نزول آية منع المشركين منه، فلا تتعرضوا له {وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ} بقصد الانتقام والتشفي بل اجتنبوا كلّ ما يؤثمكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بجميع أموركم وفيما بينكم وبين غيركم واحذروا عقاب اللّه أن تقدموا على شيء من محارمه {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (2) لمن يتعد حدوده فلم يتمثل أوامره ويجتنب نواهيه ثم بين المراد من قوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) المذكورة في الآية الأولى بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} والمراد بالميتة الميتة حتف أنفها، لأن الموت في غالب الأحوال لا يكون إلّا عن مرض وهو يقلل من نفع الحيوان وكثيرا ما يجعله ضارا وقد يصاب آكله من نوع ذلك المرض، وإذا كان الموت عاديا فإن دمه يبقى في عضلاته بما يحمل من مواد ضارة وأخرى سامّة قد تؤدي إلى وفاة الآكل، أما ما يقال بان الطّبخ يذهب ذلك فليس بصحيح لأن من المواد ما لا ينهكها الطّبخ مهما بولغ فيه، وقد ذكرنا أن طاعة اللّه واجبة فيما له سبب وما لا، وعلينا أن نعلم أن اللّه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلّا لدفع ضرر عنا أو قصد منفعة لنا وذلك حفظا لسلامتنا وراحتنا وكياننا، ولئلا نصاب بأمراض جسمية وعقلية بأنفسنا.
واعلم أن المراد بهذا الدّم هو السّائل في الحيوان الحي أو غيره والمتجمد في الميت لأنه نسيج أعد لنقل ما تحتاجه العضلات من الأوكسجين والمواد الغذائية والتخلص من النّقايات مثل ثاني أكسيد الكربون وحمض اليولينا وغير ذلك من المواد الضّارة بالجسم التي يحملها الدّم في أعضاء الإخراج، وبذا يكون ضرره عظيما، ويشتد ضرره إذا كان الحيوان المأخوذ منه الدّم مريضا، وإذا مات الحيوان احتبس الدّم في عروقه فتفسد حالا لأنه أسرع أجزاء الجسم فسادا للطافته.
واعلم أنه قد يحصل من أكل لحم الميتة والدّم ضرر عظيم لأن جميع مكروباته تتجمد في العروق المتخلطة في اللّحم، يدلّك على هذا انه بصير كالمصل وهو دليل تسممه ويراد بهذا الدّم في هذه الآية المسفوح المبين في الآية 145 من سورة الأنعام المارة في ج 2 لأن القاعدة أن المطلق يحمل على القيد، والذبح الشّرعي يصفى الدّم ويخرج ما هو في العروق فيتخلص اللّحم من المواد الضّارة وقدمنا المستثنيات من الميتة والدم في الآية 173 من سورة البقرة المارة فراجعها، وقد وعدنا ببيان أسباب التحريم ومعاني هذه المحرمات والمراد منها في هذه السّورة لذلك ذكرنا ما وفقنا عليه من ذلك في الدّم والميتة، أما الخنزير فينطوي تحريم أكله على حكم بالغة أيضا لأنه ينقل أمراضا خطيرة لآكله أهمها (الدويدات) المعروفة الآن (ترانكنيلا)، فإذا أكل إنسان لحم خنزير قد يصاب بحدوث هذه الآفة فتسبب له مرضا فظيعا، وأوله الإسهال والحمى مع آلام شديدة في جميع العضلات، وقد يعتريه هذا عند أقل حركة لأنه ناشيء عن وجود ديدان هذا الطّفيل في الألياف العضلية، وقد يزداد الألم في عضلات النّفس فيؤدي إلى وقف حركتها ويسبب الموت اختناقا ولم يعرف حتى الآن علاج هذا المرض ومرض السّرطان، والأطباء منهمكة فيها وعسى اللّه أن يطلعهم عليه أو يرشدهم لتحريم أكله طبا كما هو محرم شرعا.
هذا ومع شدة مراقبة اللّحوم في البلاد الأجنبية فإن المصابين في هذا المرض كثيرون، وخاصة في البلاد المتمدنة الرّاقية بزعمهم فما بالك إذ في المدن الصّغيرة والقرى التي لا احتياط فيها.
وينقل أيضا الدّودة الوحيدة المسماة (ألتبنا) التي لا ينقلها من الحيوان إلّا الخنزير فهو العائل لها دون غيره، فإذا أكل الإنسان لحم الخنزير ولم ينهك جيدا في الطّهي أصابه ذكل ولهذا ترى المصابين من أكلته كثيرين لأنهم اعتادوا أن يأكلوه على درجة غير كافية من النّضج لا تكفي لقتل ذلك الطّفيل، وقد يورث آكله على هذه الحالة الجذام والعياذ باللّه، وقد انتشر في هذه السّنة في بيروت بسبب أكله لأن الإفرنسيين سببوا كثرته فيها وعوّدوا أكله من لم يعتده، بما حدا بالمفوض الإفرنسي فيها أن أذاع بلاغا نقلته الجرائد بلزوم أنهاك لحم الخنزير بالطبخ وعدم أكله دون ذلك.