فصل: مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



جزاء قيامكم بها هذا هو جواب القسم العظيم ثم فرّع عنه بقوله: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ} العهد {مِنْكُمْ} ونقضه {فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} (12) واستحق العقاب المرتب على ذلك.
وخلاصة هذه القصة على ما ذكره الأخباريون أن اللّه تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وكانت مسكن الجبارين من الكنعانيين، وأمره أن يسير إليها وأن يأخذ من كلّ سبط كفيلا على امتثال ما يأمرهم به، ففعل وسار بهم حتى قارب أريحا، فأرسل النّقباء عيونا، فلقيهم عوج بن عنق وعنق أمه من بنات آدم عليه السّلام، فأخذهم بحجزته أي شدهم على وسطه، والحجزة معقد الإزار وموضع التكة من السّراويل، وقال لزوجته هؤلاء يريدون قتالنا إلّا أطحتهم برجلي، فقالت لا بل أتركهم ليخبروا قومهم بما رأوه من قوتك فيهابوك، فتركهم، ولما رجعوا قالوا إذا أخبرنا بني إسرائيل بما رأينا من هذا الرّجل يرجعون ولا يقاتلون، بل نخبر موسى وهارون فقط، وأخذوا على بعضهم العهد في ذلك، ولما وصلوا قومهم نكثوا وأخبر كلّ نقيب سبطه، عدا يوشع بن نون وكالب بن يوقنا فإنهما لم يخبرا سبطهما، ولم ينكثا عهدهما، وسيأتي تمام هذه القصة عند قوله تعالى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا} الآية 23 الآتية.
قال تعالى: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ} الذي أخذ منهم ونكثهم عهدهم {لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً} لا تؤثر فيها المواعظ ولا تلينها الزواجر ولا ترققها العبر وصاروا فضلا عن ذلك {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} بالتبديل والتغيير والتأويل والتفسير على ما هو خلاف المراد وضد المعنى {وَنَسُوا حَظًّا} نصيبا وافرا {مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} من أحكام التوراة التي فيها خيرهم وخلاصهم، ولم يعملوا به لأن من جملة ما ذكّروا به الإيمان بعيسى بن مريم ومن بعده بمحمد عليهما الصّلاة والسّلام، وهذا من بعض خياناتهم {وَلا تَزالُ} يا سيد الرّسل {تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ} بعد خائنة مثل نقضهم العهود ومعاهدتهم أهل الشّرك ضدك وهمهم بقتلك غدرا كما كانوا مع أنبيائهم الأوّل موسى وهرون فمن بعدهما {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} يوشك أن يحافظوا على العهود ويتذكروا بما أمرهم اللّه في التوراة، فيدخلون في دينك {فَاعْفُ عَنْهُمْ} الآن يا حبيبي {وَاصْفَحْ} عن زلاتهم كلهم لأنك لا تعلم الذي يؤمن بك من غيره، لذلك أحسن إليهم وعاملهم باللين {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (13) في أقوالهم وأعمالهم.
وبمناسبة ذكر غدر قوم موسى بموسى ومحمد بمحمد عليهما الصّلاة والسّلام تطرق إلى ذكر بعض غدر قوم عيسى بعيسى عليه السّلام، فقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ} أيضا على السّمع والطّاعة والإيمان بالرسل كما أخذناه على من قبلهم ومن جملة ذلك الإيمان بك يا محمد، وكذلك لم يوفوا بشيء منه ونكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم كالّذين من قبلهم {فَنَسُوا حَظًّا} قسطا جزيلا وجانبا كبيرا {مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} في الإنجيل المنزل على رسولهم من لزوم الإيمان بك ونصرتك {فَأَغْرَيْنا} أوقعنا وألصقنا ومكنّا {بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} بسبب الاختلاف بينهم في أمر دينهم وجعلنا كلّ فرقة منهم تفسق بالأخرى بالدنيا {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ} في الآخرة {بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} (14) مع أنفسهم وقومهم وأنبيائهم ويجازيهم عليه قال تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ} اليهود والنّصارى {قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا} محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب الذي أخذنا على رسلكم العهد بالإيمان به وألزمناهم أن يأخذوا عليكم مثله بلزوم الإيمان به، وقد فعلت الرّسل ذلك وبلغوكم ولكنكم أبيتم وصددتم أنفسكم وصنعتم غيركم عن الإيمان به أيضا وخالفتم أمر اللّه وأمر رسلكم وأمر هذا الرّسول الذي أرسلناه بالهدى إليكم، وقد جاءكم {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ} أل فيه للجنس فيشمل جميع الكتب المنزلة التوراة والإنجيل وما قبلهما وأني أطلعته على ما فيهما من ذلك، وأن لا يؤاخذكم على ما سبق منكم فيسامحكم {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} مما تفعلونه وتخفونه ولا يتعرض له، فيجدر بكم أن تصدقوه وتؤمنوا به بعد أن أراكم هذه المعجزة وهي علمه بما في كتبكم، وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب، فآمنوا به لتفلحوا فإنه {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} ببعثته وهدى لتقتدوا به لأنكم في ظلمة وعماء من أمر دينكم، ومن كان في الظّلمة يريد طرق الاهتداء إلى النّور فاهتدوا بهذا النّور الذي جاءكم به {وَكِتابٌ مُبِينٌ} (15) للحق من الباطل، والرّشد من الضّلال، والحرام من الحلال، ألا وهو القرآن العظيم الجامع لما في الكتب السّماوية كلها، فاغتنموا أتباعه فإنه {يَهْدِي بِهِ} بهذا الكتاب {اللَّهُ} تعالى كل {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ} بسلوك الطّرق التي يرضاها والتي تكون لهم {سُبُلَ السَّلامِ} من الآفات الدّنيوية المؤدية إلى طرق النّجاة من عذاب اللّه الأخروي {وَيُخْرِجُهُمْ} أي الّذين اتبعوه وسلكوا سبل رضوانه {مِنَ الظُّلُماتِ} التي هم غارقون فيها ظلمة العقيدة وظلمة العصيان وظلمة التكذيب التي أصدأت قلوبهم فمنع تكاثف رينها وصولهم {إِلَى النُّورِ} الذي هو التصديق به والطّاعة له والإيمان بجميع ما جاءكم به، وتلك الهداية لا تكون لأحد إلا {بِإِذْنِهِ} جل جلاله إذ لا يقع في الكون شيء إلّا بأمره وإرادته {وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (16) لا عوج فيه.
وهذه الآية تدل دلالة ظاهرة لا غبار عليها أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم مرسل من اللّه تعالى إلى أهل الكتاب كغيرهم من الأمم، بصريح الخطاب وتخصيصه بهم، فهي وحدها كافية للرد على من يقول أن رسالته صلّى اللّه عليه وسلم خاصة للعرب المشركين فضلا عن بقية الآيات، راجع الآية 28 من سورة سبأ والآية 5 من سورة الكهف في ج 2.
ولما بين اللّه تعالى اختلاف النصارى.
ذكر الفرقتين الكافرتين منهم وهم اليعقوبية والملكانية، فقال جل قوله مبينا سبب كفرهم {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وذلك أنهم يقولون إن اللّه تعالى وتنزه حل في بدن عيسى، ثم ذكر ما يدل على فساد قولهم وعقلهم وعقيدتهم هذه بقوله عز قوله يا سيد الرّسل {قُلْ} لهؤلاء القائلين بالحلول {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} فهل يوجد من يقدر على دفع إهلاكه عنهم أو من يحول دونه؟ كلا كيف {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما} من الخلق كلهم عبيده وعيسى واحد من جملتهم، ولا يقال بما أنه لا أب له نسب إلى اللّه، لأن اللّه تعالى {يَخْلُقُ ما يَشاءُ} من غير أبوين كآدم ومن غير أم كحواء ومن غير أب كعيسى ومن أبوين مثل سائر الخلق، راجع الآية 46 من سورة النّور المارة فيما يتعلق في هذا البحث، ومنه تعلم أن لا اعتراض على اللّه فيما يخلق لأنه لا يسأل عما يفعل {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (17) لا يعجزه شيء وإذا كان المخلوق من غير أب يسمى إلها فمن باب أولى أن يكون آدم ثم حواء لأن الإيجاد من الأم أهون من الإيجاد من الأب فقط، والإيجاد من الأب أهون من الإيجاد بلا أم ولا أب، ولم يسبق أن سمى أحد آدم إلها ولا حواء، فكيف يسمون عيسى إلها، راجع الآية 64 من آل عمران المارة للاطلاع على هذا البحث، وحكاية أسير الرّوم.
ثم ذكر ما يتبجح به أهل الكتابين مما ليس كائنا بقوله عز قوله: {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى} فيما سبق {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} خاصة من دون النّاس فيا أكمل الرّسل {قُلْ} لهؤلاء الكذبة إذا كنتم تزعمون ذلك {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} التي ترتكبونها، لأن المحب لا يعذب حبيبه ولا يوقعه بما يوجب تعذيبه، ولهذا ردّ اللّه عليهم بقوله: {بَلْ} ليس الأمر كما ذكرتم لأنكم {أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} لا أبناؤه ولا أحباؤه وهو المختار بأمر خلقه {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} من عباده كما تقتضيه كلمته الأزلية لا مانع لما يريد، ولا راد لحكمه، {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (18) لا إلى غيره.
وبسبب هذه المقالة أن اليهود يقولون إن اللّه أوصى إلى إسرائيل إني أدخل ولدك النّار أربعين يوما بقدر مدة عبادتهم العجل، ثم أخرجهم، فلذلك يعنون أن اللّه يعطف عليهم كعطف الأب على ولده، وهذا معنى ما حكاه اللّه عنهم في قوله: {وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الآية 80 من البقرة المارة وهي مكررة في غيرها، وإن النّصارى تأولوا قول المسيح أثناء حديثه لهم (إني أذهب إلى أبي وأبيكم) وقوله لهم (إذا صليتم قولوا يا أبانا الذي في السّماء تقدس اسمك)، فذهبوا إلى ظاهر هذا القول وقالوا إن المسيح ابن اللّه؟ راجع الآية 32 من سورة التوبة الآتية، لأنهم لم يعلموا مراد المسيح إذا صحت هذه المقالة عنه بأن الأب الأكبر لهذا البشر كله هو اللّه ربه ومربيه ومدبر أمره وهو أشفق عليهم من أبيهم الصّلبي، فلهذا وبسبب انتسابهم لأسلافهم الأوائل رأى اليهود والنّصارى لأنفسهم فضلا على غيرهم من الأمم، وعظموا أنفسهم وفضلوها على من سواهم حتى قالوا نحن أبناء اللّه وأحباؤه، على أن الأناجيل الأربعة الموجودة بأيدي النّصارى قد جاء فيها مرة أرسلني أبي الذي هو في السّماء، وطورا أرسلني إلهي الذي هو في السّماء، مما يدل على أن المراد بالأب في قوله هو اللّه إذا كان في الأصل هكذا، لأن الأناجيل لم تدون زمن المسيح بل بعده بمائة سنة وقد تطرقتها التراجم المختلفة فأول بعضهم الإله بمعنى الأب، والأب بمعنى الإله وأثبته كذلك، وهذه الأناجيل الأربعة المنسوبة إلى متّى ويوحنا ومرقس ولوقا لا يعرف على الحقيقة من دونها أولا، لذلك لا تخلو من الدّسّ اليهودي، وهناك إنجيل برنابا قد جاء على ما في القرآن، ولكن النّصارى لم تعتبره مع أنه حواري من أنصار المسيح الّذين يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل، وإن بولص وغيره قد اهتدوا بعده وهو الذي عرف التلاميذ به، فيكون إنجيله هذا هو الواقع، إذ تلقاه بنفسه من السّيد عيسى عليه السّلام ودوّنه كما تلقاه بوقته خلافا للأناجيل الأربعة الموجودة الآن، فإنها لم تدون في زمنه ودونت على طريق التلقي من الغير بعد مائة سنة، وقد يكونون غير موثوقين أو خانهم حفظ ذاكرتهم.

.مطلب في مدة الفترة وما بين عيسى ومحمد من الزمن وعوج بن عنق وتيه بني إسرائيل والحكمة منه:

قال تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا} محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب {يُبَيِّنُ لَكُمْ} أحكام الدّين الحق والشّرائع الصّحيحة {عَلى فَتْرَةٍ} انقطاع طويل {مِنَ الرُّسُلِ} وهي 571 سنة ما بين عيسى ومحمد صلّى اللّه عليهما وسلم وبين ميلاد عيسى وبعثة محمد 911 وبين ميلاده وهجرة محمد 924 وبعد الميلاد والوفاة 934 ورفع إلى السماء 904، وعليه يكون بين رفع عيسى وميلاد محمد 538 سنة، وبين رفعه والبعثة 578، وبين رفعه والهجرة 591 وبين رفعه والوفاة 604 وقد وقع التحريف والتبديل بالكتب السّماوية المتقدمة على القرآن خلال هذه الفترة بسبب اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم واختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق، وتطرق من هذا الاختلاف شيء إلى العبادات والعقائد مما ليس منهما لتقادم العهد.
فصار عذرا ظاهرا لاعراض الخلق عن معرفة كيفية عبادة الخالق وماهيتها، وصارت الحاجة ماسة إلى إرسال من ينقذ الخلق من هوتهم، فأرسل اللّه تعالى حبيبه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم لإزالة ذلك كما أشرنا إليه في المقدمة آخر الخاتمة، بشريعة سمحة موافقة لمصلحة البشر أجمع وملائمة لعصرهم فليس لكم يا أهل الكتاب ويا أيها المشركون {أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} إنما أرسلنا محمدا إليهم مرشدا ومجددا لئلا يحتجوا بهذه الحجة ويقولوا هذا القول {فَقَدْ جاءَكُمْ} الآن {بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} بين لكم أمر دينكم {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (19) ومن قدرته إرشاد الخلق بلا إرسال رسل وإنما أرسلهم لئلا يتذرعوا بالمعاذير راجع الآيات 271 و272 من سورة الأعراف المارة ج 1 قال تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} أي اذكر لقومك يا سيد الرّسل قول السّيد موسى {يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ} كثيرين فلم يبعث في أمة من الأمم كما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء منهم {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} بعد ان كنتم خدما وخولا للقبط أذلاء مخذولين {وَآتاكُمْ} من النعم المترادفة {ما لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ} (20) قبلكم ولا في زمانكم وقد عددها اللّه تعالى في مواقع كثيرة من القرآن منها في الآية 47- 74 من البقرة وعدد تعاليمهم في الآية 75 فما بعدها في آيات كثيرة من البقرة وغيرها وما وقع منهم من عناد وكفر فيها وفي آل عمران وغيرها.
ومن جملة مخالفتهم نبيهم قوله تعالى حكاية عنهم: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} المطهرة المباركة قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ومهبط الوحي الإلهي {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} دخولها وأباح لكم سكناها وأمركم بالسير إليها، وهي أراضي الطّور وما حولها من أريحا وفلسطين ودمشق وبعض الأردن، وهذا أمر منه بالجهاد مع الجبارين الكنعانيين كما سبق في الآية 12 المارة {وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ} فترجعوا القهقرى منهزمين مولين أعداءكم ظهوركم خوفا منهم، فترتدوا عن دينكم بعصيانكم أمر رسولكم وعدم وثوقكم بما وعدكم ربكم، فتخالفوا أمره {فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} (21) الدنيا والآخرة وإنما حصل لهم التردد بعد أن ساروا معه وامتنعوا عن الجهاد لأن نقباءهم أخبروهم بما رأوا من عوج بن عنق الذي أشرنا إليه في الآية 12 المارة، ولهذا {قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْمًا جَبَّارِينَ} لا طاقة لنا بقتالهم ولا قوة لنا على بطشهم {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها} إن شئت أو أبيت {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ} (22) إليها معك ثم صاروا يبكون ويلومون أنفسهم على طاعة موسى بخروجهم من مصر يقولون يا ليتنا متنا فيها وبقينا على ما كنا عليه، وهموا بالانصراف والرّجوع إلى مصر، وإنما لحقهم هذا الرّعب قبل الوصول وقبل نشوب الحرب لأنهم قوم تعودوا الذلّ والاستعباد وخساسة النّفس والرّضاء بالهوان، ولم يذوقوا لذة العزّة والمهابة والحرية وأن السّيد موسى عليه السّلام يريد أن يرفعهم من حضيض الأرض إلى أوج السّماء دفعة واحدة، ولكن:
وإذا كانت النّفوس كبارا ** خسئت في مرادها الأجسام

ولم يعلموا بعد أنه:
وإذا سخّر اللّه سعيدا ** لأناس فإنهم سعداء