فصل: مطلب في الّذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرّسول وبعد واخبار الرّسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وانظر إلى قوله صلّى اللّه عليه وسلم لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، راجع الآية 38 المارة.
قال تعالى ردّا عليهم وتقريعا بهم وتوبيخا لهم {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} منك يا سيد الرّسل وهو ظلم وجور وحيف ويعرضون عن حكم اللّه المسوي بين الكبير والصّغير القاضي بالإنصاف والانتصاف {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (50) أن لهم ربا عدلا، ودينا قيما، وحكما حقا، كلا لا أحسن ولا أقوم ولا أصدق ولا أقسط من حكم اللّه، كيف وهو الآمر بالقسط، فأعرض يا سيد الرّسل عن أمثال هؤلاء ولا تقبل مطالبهم الواهية، ولا تصغ لأقوالهم المزيقة، وأنت لست بحاجة إلى إسلامهم وولايتهم، فأنا كافيك عنهم وعن كلّ من لا يوقن بك، ولا يستسلم لحكمك.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ} لكم من دون اللّه فإنهم لا يصدقونكم في ولايتهم ولا يميلون إلى نصرتكم {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} لأن طريقتكم غير طريقتهم، والبون بينكم شاسع، فلا تتولوهم أبدا راجع الآيتين 28 و118 من آل عمران والآية 57 الآتية {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} بعد هذا المنع {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وليس منكم لرضائه بدينهم ومعاملتهم وأحكامهم المجحفة، فيظلم نفسه مثلهم، ويضل عن طريق الصّواب وسبل الهوى {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) أنفسهم وغيرهم.
كان المنافقون لضعف قلوبهم وقلة يقينهم وشدة تجنيهم يقولون فيما بينهم إذا اشتد الأمر على المؤمنين ودال عليهم الكفار نلحق باليهود، فنأخذ أمانا منهم ويقول بعضهم إنا نلحق بالنصارى ونأخذ أمانا منهم كما وقع من أمثالهم في حادثة أحد المارة في الآية 122 من آل عمران وكما سيأتي في الآية 24 من سورة التوبة الآتية، فأنزل اللّه هذه الآية، ثم بين حال هؤلاء المنافقين بقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يريد المنافقين لخلو قلوبهم من الإيمان {يُسارِعُونَ فِيهِمْ} أي في مودة اليهود والنّصارى وموالاتهم عند بدر أيّ ضائقة عليهم {يَقُولُونَ} أولئك المنافقون وأشباههم {نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ} من دوائر الدّهر وحوادثه، فيصيب الكافرون المؤمنين ويستولوا عليهم، ولا يتم الأمر لمحمد فنغلب على أمرنا، قال تعالى مخسئا لهم ومكبر رأيهم الفاسد وردا لما ينصرونه من الغلبة إذ وقعت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا كاليهود الّذين جبلوا على الجبن والبغضاء بينهم زيادة على الذلة والمسكنة راجع الآية 62 من البقرة المارة تقف على مثالبهم التي من جملتها ما مر في الآية 65 من الأعراف ج 1، وسيأتي بعد كثير منها في هذه السّورة والتي بعدها أكثر {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} المطلق للبلاد والنّصر العام على الكافرين أجمع، وإظهار دين اللّه في البرّ والبحر وإعلائه على سائر الأديان ونصرة المؤمنين على الخلق، هذه على القول بأن هذه الآية نزلت مع سورتها في محلها هذا وهو الأولى.
وقال بعض المفسرين أن المراد بالفتح هنا فتح مكة لأن هذه التفوهات وقعت من المنافقين قرب فتح مكة إذ كان حضرة الرّسول يعرض به لأنه كلما رجع من غزوة يعرض بالأخرى ليكون المؤمنون على أهبة الغزو دائما، وعلى هذا القول تكون هذه الآية متقدمة في النّزول على سورتها، وهي صالحة للقول بقيد نزولها في فتح مكة، والقول الأوّل على التعميم فيصدق مفعولها على سائر الفتوحات، وقد ذكرنا أن سبب النّزول قد يتقدم ويتأخر ويقارن الحادثة {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} بقتل هؤلاء المنافقين المرجفين وسبيهم وإجلائهم وكافة اليهود وقطع أملهم من الأراضي الحجازية {فَيُصْبِحُوا} هؤلاء المذمومون {عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} من طلب موالاة الكفرة {نادِمِينَ} (52) ولا شك أن لفظ عسى من اللّه للتحقيق والكريم إذا أطمع في خير فعله، وقد كان والحمد للّه وندم من ندم على ما أسرّ وأعلن من تلك التفوهات {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} بعضهم لبعض أو لليهود على القول الآخر بعد إنجاز ما وعد اللّه من الفتح {أَهؤُلاءِ} المنافقون {الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} كناية عن المبالغة في الحلف ليصدق المحلوف له أي إيمانا مكررة موثقة {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أيها المؤمنون على الكافرين أو أيها اليهود على المؤمنين وأنصاركم عليهم، كيف أظهروا الميل إلى موالاة اليهود وهم قد عظموا الإيمان أنهم معكم.
وقال بعض المفسرين إنهم أجهدوا إيمانهم أن يكونوا مع اليهود كما حكى اللّه عنهم بقوله: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} الآية 21 من سورة الحشر المارة، وعليه يكون المعنى أنهم لمعكم أيها اليهود بالموالاة، وإنهم يرجون أن تكون لكم الدّولة، ولم يفعلوا أيضا ما تعهدوا به إليهم، لذلك {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} في شأن الموالاة على كلا القولين، وبغتوا بما صنعوا من المساعي عند مشاهدتهم خيبة رجائهم وانعكاس ما تصوروه وترقبوه {فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ} (53) الدنيا، إذ لم يوفوا المؤمنين ما تعهدوا به لهم من النّصرة، ولم تكن لليهود الّذين عاهدوهم على القتال دولة يلجأون إليها معهم.
والآية صالحة للمعنيين المذكورين، والأوّل أولى لظاهر الخطاب في حقكم، واللّه أعلم.
وخسروا الآخرة أيضا لأنهم لم ينصحوا للّه ورسوله، قال أبو موسى الأشعري لعمر بن الخطاب إن لي كاتبا نصرانيا، فقال مالك وله قاتلك أما سمعت قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية 51 المارة، ألا اتخذته حنيفا، قال له دينه ولي كتابته، فقال لا أكرمهم إذا أهانهم الله، ولا أعزهم إذا أذلهم اللّه، ولا أدينهم إذا أبعدهم اللّه، قال له أبو موسى لا يتم أمر البصرة إلّا، فقال له عمر رضي اللّه عنه مات النّصراني والسّلام أي هب أنه مات النّصراني فما تصنع بعد موته فاصنعه الآن، واستغنى عنه بغيره، وهذه الآية عامة في جميع المؤمنين السّابقين واللاحقين، لأن خصوص السّبب لا يمنع عموم الحكم.

.مطلب في الّذين ارتدوا عن الإسلام في زمن الرّسول وبعد واخبار الرّسول بذلك عن طريق الاعجاز ومن دخل في الإسلام:

قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} إلى دين آخر، فإنه لن يضر اللّه شيئا وإنما يضر نفسه {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} بدلهم ثابتين على الإيمان {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وهذه الآية من الأخبار بالغيب إذ كان في علم اللّه الأزلي إن أناسا بعد فقد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم يرجعون عن الإسلام ومنهم من يرتد عن دينه في زمنه، فأعلمه اللّه بذلك قبل وقوعه، ومن هؤلاء الأسود العنسي ذو المجاز رئيس بني مدلج إذ تنبأ باليمنو استولى على بلاده فيها وأخرج عمال رسول اللّه منها، فكتب النّبي إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فيه، فأهلكه اللّه تعالى على يد فيروز الدّيلمي، وأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، بقتله قبل ورود خبره، وقبض رسول اللّه في الغد وقد أتى خبر قتله آخر ربيع الأوّل سنة 11 من الهجرة بالوقت الذي ذكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وهذه معجزة أيضا، لأنه من الإخبار بالغيب، وكذلك مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول اللّه أما بعد.
فإن الأرض مناصفة بيني وبينك، فكتب له حضرة الرّسول إنها للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
وتنبأ طلحة بن خويلد رئيس بني أسد فبعث اليه صلّى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله وانهزم إلى الشّام ثم أسلم بعد ذلك.
ومن الّذين ارتدوا بعد وفاته صلّى اللّه عليه وسلم فزارة الّذين رأسهم عيينة بن حصن، وغطفان الّذين رأسهم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم الّذين رأسهم الفجاءة بن عبد ياليل، وبنو يربوع الّذين رأسهم مالك بن نويرة اليربوعي، وكندة الّذين رأسهم الأشعث بن قيس وبنو بكر قوم الخطيم بن زيد وقوم سجاح بنت المنذر من بني تميم التي ادعت النبوة وتزوجت بمسيلمة الكذاب، وقد أهلكهم اللّه جميعا على يد خليفته أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، وقتل وحشي بن عدي قاتل الحمزة مسيلمة الكذاب، فقال قتلت خير النّاس في الجاهلية يريد حمزة، وشرهم في الإسلام يريد مسيلمة، وهؤلاء الّذين يحبهم اللّه ويحبونه احياء من أهل اليمن من النّخع وكندة وبجيلة وغيرهم ممن دخل في الإسلام في خلافة أبي بكر وعمر الفاروق وجاهدوا في حرب القادسية.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية.
ومن دخل في الإسلام بعد ذلك من فارس الّذين قال الرّسول فيهم لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس.
راجع الآية الثالثة من سورة الجمعة المارة، وآخر سورة محمد عليه الصّلاة والسّلام أيضا.
ثم وصف اللّه جل شأنه هؤلاء بقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} من شدة رحمتهم تراهم خافضي الجناح لهم متواضعين مترفقين فيهم مشفقين عليهم، يعاملونهم باللين معاملة الوالد ولده {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ} غلاظ شداد عليهم مظهرين قوتهم وألفتهم عليهم كالأسد على فريسته {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مع إخوانهم المؤمنين من عادى اللّه ورسوله من الكافرين والمنافقين والموالين إليهم الّذين إذا أرادوا الخروج مع الرّسول خافوا مواليهم أن يلوموهم، فلا يجاهدون معه خشية لومهم لضعف دينهم وعدم مبالاتهم به، وهذه الآية تضاهي الآية الأخيرة من سورة الفتح المارة في المعنى فلا يبالون بهم {وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ولا عذل عاذل في نصرة دينهم من أحد ما، لأنهم أقوياء فيه حريصون عليه، روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصّامت قال بايعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على السّمع والطّاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنالآنخاف باللّه لومة لائم.
ذلك الإيمان الخالص وقوة الجأش وشدة البأس هو {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} من عباده، ويسلبه عمن يشاء من أهل عناده، {وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (54) بمن يستحق فضله فيهبه له من كرمه العميم.
فيا أيها المؤمنون الرّاسخون في الإيمان {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الذينهم من حزب اللّه {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} المفروضين عليهم {وَهُمْ راكِعُونَ} (55) للّه ساجدون لهيبته {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ويخلص لهما إخلاصا حقيقيا {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ 56} الفائزون بخيري الدّنيا والآخرة.
نزلت هذه لآية في عبادة بن الصّامت رضي اللّه عنه لمقالته الآنفة الذكر في عبد اللّه بن سلام حين قال يا رسول اللّه إن قومنا قريضة والنّضير هجرونا وأقسموا أن لا يجارونا ولا يجالوسنا.
وهي عامة في جميع المؤمنين المخلصين، ولا وجه لقول من قال بتخصيصها في سيدنا علي كرم اللّه وجهه لأنها نزلت وهو راكع لأنه من جملة المؤمنين الموصوفين فيها وهو سيدهم.
واعلم أن مجموع حروف هذه الآية {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} إلخ بحسب الجمل (1379) وتقدم أن آية الصّافات {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا} إلخ أن مجموعها 1360 وآية المؤمن الأخيرة وهي {وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} في ج 2 كذلك مجموعها 1360 فنسأل اللّه أن يجعل فتحا للاسلام وسبيلا إلى النّصر والتوفيق لهم ما بين هذين التاريخين، وأن يتم لهم وحدتهم ويزيل عنهم أعداءهم، ويجمع كلمتهم، ويوفقهم لما له النّجاح والفلاح.
وقد بينا في تفسير هذه الآيات والآية 58 من المجادلة المارة التي مجموعها 1958 بحساب الميلادي ما يتعلق بهذا البحث فراجعها، واسأل ربك أن يمحق كلمة الكفر ويكسر شوكتهم، وأن يكون الأمر كله في الأرض لعباد اللّه الصّالحين، وأن يطيل عمرنا مع حسن العمل وقوة الجوارح والاستغناء عن شرار النّاس، حتى نرى أياما زاهرة بالإسلام عامرة بالإيمان قبل ذلك التاريخ وما ذلك على اللّه بعزيز.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} من اليهود والنّصارى {وَالْكُفَّارَ} عبدة الأوثان الّذين كفرهم أغلظ من كفر غيرهم {أَوْلِياءَ} لكم ونصراء وأحباء {وَاتَّقُوا اللَّهَ} من أن تفعلوا شيئا من ذلك أبدا {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (57) باللّه ورسوله إيمانا خالصا، راجع الآية 51 المارة.
ثم ذكر بعض مساويهم فقال: {وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} وأذنتم لاقامتها {اتَّخَذُوها هُزُوًا وَلَعِبًا} استخفافا بدينكم {ذلِكَ} صدور الهزؤ واللّعب منهم على شعائركم ومناسككم {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} (58) معنى الصّلاة والأذان ولا يفقهون المراد منها ولا يعلمون مكانة فاعلها عند اللّه لجهالتهم وسفههم.