فصل: مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشّرعي فيه وضرره في الوجود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي رواية في طلب الدّنيا فإن كلا ميسّر لما كتب له منها.
يعني أن الرّزق المقدر للعبد سيأتيه سواء ألحف بطلبه أو أجمل، وإذا كان كذلك فليرفق بالسعي وليتعفف بالطلب فهو أحسن له وأحشم وأوقر.
قال علماء التفسير إن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم ذكر النّاس يوما وشدد في وصف القيامة حتى رق النّاس وبكوا فاجتمع أبو بكر وعلي وعبد اللّه ابن مسعود وعبد اللّه بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون الجهني واتفقوا على أن يترهبوا ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدّهر ويقوموا اللّيل ولا يأكلوا اللّحم والودك ويسيحوا في الأرض فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأتى دار عثمان فلم يجدهم فقال لا مرأته أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب، وكرهت أن تبدي سرّ زوجها، فقالت، يا رسول اللّه إن كان أخبرك أحد فقد صدق، فلما سمعوا بمجيء الرّسول إليهم ذهبوا إليه، فقال لهم ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا بلى يا رسول اللّه وما أردنا إلّا الخير، فقال إني لم أومر بذلك ثم قال إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا، وقوموا وتاموا، فإني كذلك وآكل اللّحم والدّمم، وآتي النّساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، ثم جمع الناس وخطبهم وقال ما بال أقوام حرموا النّساء والطّعام والطّيب وشهوات الدّنيا فإني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا، فإنه ليس في ديني ترك اللّحم والنّساء، ولا اتخاذ الصّوامع، وسياحة أمتي الصّوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم، فتلك بقاياهم في الدّيار والصوامع، فأنزل اللّه هذه الآية راجع الحديث المار في الآية 77 هذا وما يرى من بعض الزاهدين في ترك الطّيبات من الأكل والشّرب واللّباس والتجافي عن الحلال لا بطريق التحريم وحاشاهم من ذلك، وإنما يكون ذلك من بعضهم هضما لأنفسهم وكراهة في الدّنيا فيتركون التنعم فيها أملأ بما عند اللّه لهم من النّعيم الدّائم، لأنهم يرون التنعم في الدّنيا يشغلهم عن دوام ذكر اللّه والقيام بما يقتضي له من الخشوع والخضوع والإنابة لحضرته الكريمة ليس إلا، فعلى العاقل ألا يعترض عليهم، ويجالسهم، ويتبرك بهم فهم القوم الّذين لا يشقى جليسهم كما جاء في الحديث الصّحيح، قال تعالى: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ} راجع نظيرتها في الآية 225 من البقرة المارة ولما كانت هذه الجملة عامة استدرك بما يخصصها بقوله: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ} أي إذا حلفتم وعظمتم حلفكم وتعمدتم عقدها وقصدتم به اليمين المستوجبة الكفارة (وقرئ عقدتم بالتخفيف) وأردتم أن تخنثوا في يمينكم المعقد لما رأيتم أن الخير في عدم الإصرار عليه، فعليكم أن تكفّروا عنه وتفعلوا المحلوف عليه، فإذا أردتم الخلاص من هذا اليمين الذي حنثتم فيه {فَكَفَّارَتُهُ} لتحليل ما حلفتم عليه قصدا لا خطأ ولا نسيانا ولا إكراها هو {إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} غداء وعشاء بحالة وسطى غير ملتفتين لمن يسرف في إطعام أهله أو يقتر عليهم وخير الأمور أوساطها {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} بحالة وسطى أيضا {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} عتقها من الرّق {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} شيئا من ذلك يكفّر به عن يمينه لفقره {فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} فقط عليه يكفر بها عن يمينه {ذلِكَ} المتلو عليكم أيها المؤمنون {كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ} وخلاصكم من الحنث فيها {إِذا حَلَفْتُمْ} وحنثتم باختياركم ورضاكم لأن الكفارة لا تجب إلّا بعد الحنث حقيقة {وَاحْفَظُوا} يا أيها النّاس {أَيْمانِكُمْ} من الحنث ما استطعتم وقدرتم، والأحسن لكم والأليق بكم ألّا تحلفوا أبدا تعظيما لاسم اللّه وتكريما لجلاله، ولهذا حذركم بالتحفظ عليها، وكانت العرب تحمد قليل الحلف والبار بحلفه المحافظ عليه، قال قائلهم:
قليل ألا يا حافظ ليمينه إذا بدرت منه الاليّة برّه راجع تفصيل هذا في الآية 225 المذكورة آنفا من البقرة، هذا واعلم أن العلماء استنتجوا من هذه الآية وآية البقرة حرمة القسم على ترك الطّاعة وإن عدم المؤاخذة المشار إليه في الآية عدم إيجاب الكفارة به، وإن اللّغو باليمين هو ما يجري على لسانك من غير قصد مثل لا واللّه، وبلى واللّه على قول الشّافعي وأحمد رحمهما اللّه، وقال أبو حنيفة ومالك هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه لم يكن فيظهر أنه وقع بالفعل، ولكل وجه، واللّه أعلم بما يريد.
وقد قابل جل شأنه اللغو بالقصد لينفي ما هو غير مقصود مما قالاه وغيره {كَذلِكَ} مثل ما بينا لكم كفارة أيمانكم {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ} في جميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ودنياكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (89) نعمه عليكم، قال ابن عباس رضي اللّه عنه لما نزلت الآية السّابقة قال الّذين اتفقوا على الرّهبانية يا رسول اللّه كيف نفعل بأيماننا التي تحالفنا عليها؟ فأنزل اللّه هذه الآية وبين لهم المخرج وسهله عليهم، الحكم الشّرعي يجب أن يكون الصّيام متتابعا قياسا على كفارة الظّهار والقتل، وجوز الشّافعي تفرقها لأن كفارة الظّهار والقتل جاءت بالنص ولا نص على تتابع كفارة اليمين، أما ما احتج به من أنه ورد في بعض القراءات ثلاثة أيّام متتابعات لا قيمة لها ولا عبرة بها لأنها لم تكن متواترة، ويشترط في القرآن التواتر.
وقال بعض المفسرين قراءة شاذة والشّاذ لا يصلح للاحتجاج إلّا إذا ثبتت أو رويت كتابا أو سنة، وإذ لم تثبت فهي قراءة لا أصل لها، وقد ذكرنا غير مرة أن مثل هذه الزيادات التي يعدها بعض العلماء أنها قراءة أو من القرآن لا تعد قراءة ولا تسمى قرآنا وذلك أن بعض القراء كانوا يكتبون كلمات تفسيرية على هامش مصاحفهم أو بين سطوره فيظن من لا يعرف قصدهم أنه من القرآن، فيقول قرأ ابن مسعود كذا من حيث لم يقرأ هو ولا غيره إلّا ما هو بين الدّفتين، ويحرم عد غيره قرآنا، لذلك فلا يجوز القول بذلك بتاتا، فكل ما ليس في القرآن الموجود الثابتة قراءته بالتواتر لا يكون قرآنا أبدا، راجع آخر سورة الأحزاب المارة في هذا الشّأن.
هذا، وللحانث الخيار بين الصّوم والإطعام والإكساء والعتق، وتصرف هذه الكفارة إلى مسلم محتاج غير عبد مملوك.
روى البخاري ومسلم عن عبد الرّحمن بن سمرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يا عبد الرّحمن لا تسأل الإمارة فإنها إن أتتك عن مسألة وكلت إليها، وإن أتتك من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك.

.مطلب تحريم الخمر بتاتا وأسباب هذا التحريم وذم الخمر والميسر وشبههما والحكم الشّرعي فيه وضرره في الوجود:

قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ} راجع الآية 3 المارة من هذه السّورة عن معناها ومعنى {وَالْأَزْلامُ} أيضا وكيفية استعمالها فكل هذه الأربعة {رِجْسٌ} خبث نجس مستقذر {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} الذي يزبنه للناس يغويهم بها ويدعوهم إليها {فَاجْتَنِبُوهُ} تباعدوا عن هذه الأشياء كلها ولا تقربوها، وأفرد الضّمير بسبب عوده إلى الرّجس المشتمل عليها كلها {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) في أموركم وتفوزون بأعمالكم وتنجحون بأقوالكم وتتحفظون من كلّ ما يضركم.
{إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ} بتزيينه لكم هذه القبائح الأربعة الخبيثة {أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي} شرب {الْخَمْرِ وَ} لعب {الْمَيْسِرِ} القمار {وَيَصُدَّكُمْ} بسببها {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الذي ينبغي لكم المداومة عليه قياما وقعودا وعلى جنوبكم {وَعَنِ الصَّلاةِ} المكتوبة عليكم يريد صدكم عنها فيشغلكم بذلك {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (91) عن ذلك كله أيها النّاس وتاركو هذه الأرجاس المضرة في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم؟
وهذا أبلغ من قوله: {انْتَهُوا} لأن اللّه تعالى يقول قد بينت لكم ما فيها من المضار والصّوارف والموانع والزواجر بعد أن ذممتها لكم قبلا، أفلا تنتهون عنها بعد ذلك كأنكم لم توعظوا بعد! ثم أعقب ذلك الزجر بقوله جل قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه {وَاحْذَرُوا} كل الحذر من مخالفتهما، لأنهما لم يأمراكم إلّا بما فيه نفعكم، ولم ينهياكم إلّا عما يضركم، فضلا عن وجوب الطّاعة لهما عليكم مطلقا {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} بعد هذا البلاغ وهذا الانذار ولم تنتهوا عن شرب الخمر ولعب الميسر {فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (92) وعليكم منا العقاب الأليم إذا أصررتم على تعاطيهما.
ففي هذه الآية من التهديد والوعيد والزجر الشّديد والتخويف العظيم ما لا يخفى.
واعلموا أيها النّاس لما أنزل اللّه الآية السّالفة {لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} إلخ وكانت مما يستطاب عندهم قبل الإسلام وعند من لم ينكف عنها بعد نزول الآيات الثلاث المتقدم ذكرها والتي سنشير إليها بعد، ولم ينكفوا عن الميسر أيضا لشدة توغلهم فيهما وإن بعض صغار العقول لم ينتبهوا إلى مغزاها الذي أشرنا إليه في الآية 219 من سورة البقرة، بين اللّه تعالى في هذه الآية الأخيرة الرّابعة الحاسمة لما في هذا الباب أنهما ليستا من الطّيبات بل من الخبائث الموبقات، ولذلك قال تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} لأن السّكر يفحش كلام الرّجل فيفضي إلى النّزاع ويولد العداوة والبغضاء، وكذلك المقامر قد يؤدي قماره إلى أن يلعب على أثاث بيته وملكه بل وداره التي يسكن فيها، حتى يتوصل إلى أن يلعب على بنته وزوجته بعد فراغ ذات يده، ونفاد ملكه، بل قد يفضي إلى الانتحار فينتج عنه العداوة والبغضاء والخزي والعار أيضا، فأراد اللّه تعالى أن يحفظ عباده من هاتين الشّائنتين فحرمهما عليهم كما أراد صون الألوهية عن الإشراك بها، وأراد صرف عباده إلى التوكل عليه في أمورهم كلها، فحرم عليهم الأنصاب والأزلام المتقدم ماهيتها في الآية السّابقة من هذه السّورة.
وكان عمر رضي اللّه عنه يقول اللّهم بين لنا في الخمر والميسر بيانا شافيا، كما جاء في الحديث الذي رواه ميسرة عنه، وأخرجه الترمذي من طريقين، وقال رواية ميسرة هذه أصح، وأخرجه أبو داود والنّسائي بأبسط منه وإنما قال ما قال رضي اللّه عنه وأرضاه لما يرى ما يتولد عنهما من القبائح، وكرر مقالته هذه بعد نزول الآيات الثلاث الأولى 67 من سورة النّحل المارة في ج 2 والثانية من سورة البقرة الآية 219 والثالثة 43 من سورة النّساء المارتين وكانت أحكام اللّه تعالى جارية على التدريج في تشريعه لعباده، راجع بحثه في المقدمة ج 1 في التدريج بالأحكام فأنزل اللّه هذه الآية الرّابعة القاطعة بالتحريم فلما سمعها عمر رضي اللّه عنه قال:
انتهينا انتهينا.
وروى مصعب بن سعد عن أبيه قال صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا وشربنا، وذلك قبل التحريم زاد حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش فقالت الأنصار نحن أفضل منكم فقال سعد بن أبي وقاص المهاجرون خير منكم.
فأخذ رجل لحي جمل فضرب به أنف سعد فغرزه أي نخسه، فجرحه، فأتى سعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فأخبره، فنزلت.
وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما نزلت هذه الآية في قبيلتين شربوا وثملوا وعبثوا ببعضهم، ولا منافاة بين هذه الرّوايات لجواز صدورها كلها، وجواز تعدد الأسباب للنزول.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال قال صلّى اللّه عليه وسلم من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد الرّابعة لم يقبل اللّه له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب اللّه عليه وسقاه من نهر الخبال.
قالوا يا أبا عبد الرّحمن وما نهر الخبال؟ قال صديد أهل النّار.
وأخرجه النسائي وعنه قال قال صلّى اللّه عليه وسلم لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه- أخرجه أبو داود- وقد جاء من حديث عائشة رضي اللّه عنها أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم قال كلّ شراب أسكر فهو حرام- أخرجاه في الصّحيحين- وزاد الترمذي وأبو داود: ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام (والفرق إناء يسع ستة عشر رطلا برطل المدينة وهو عبارة عن مائة وثمانية وعشرين درهما) فلم يبق مع هذا قول مقبول بشرب ما لم يسكر كثيره فقليله لا بأس به، لأنه لو شرب هذا القدر لبنا لأسكره.