فصل: مطلب في الخبيث والطّيب والنّهي عن سؤال اللّه بما لم يكلف به عباده وما حرمته الجاهلية قبل الإسلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما إذا أتلف شيئا لا مثل له من النّعم فيصار إلى القيمة حتما.
قال تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ} على الصّائد عند عدم القدرة على أداء المثل أو القيمة وهي {طَعامُ مَساكِينَ} بقدر الكفاية لكل مسكين نصف صاع {أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيامًا} بما يقابل الإطعام لعدم قدرته عليه فإنه يصوم عن كلّ نصف صاع يوما واحدا، وهذا الجزاء الذي رتبه اللّه تعالى على المخالف في الدّنيا {لِيَذُوقَ وَبالَ} عقابه وجزاء {أَمْرِهِ} جرمه الذي اقترفه في عدم امتثاله أمر اللّه هذا إذا وقع بعد التحريم، أما ما كان قبله فقد {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} منكم من الاقدام على الصّيد في الحرم مطلقا سواء كان محرما أو غير محرم لأن اللّه تعالى لا يعاقب على ما لم يأمر به عند مخالفته كما أنه لم يعاقب على فعل الصّيد خارج الحرم أو المحرم حال الإحرام {وَمَنْ عادَ} بعد أن صاد وكفّر عن فعله فصاد في الحرم أو حال الإحرام {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} في الآخرة انتقاما عظيما {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} بالغ القوة والعظمة {ذُو انْتِقامٍ} (95) شديد فظيع ممن عصاه إذا لم يعف عنه.
وتفيد هذه الآية أن لا كفارة في العود على المخالفة يعني أن من صاد وكفّر عن ائمة ثم صاد ثانيا حال الممنوعية لا تكفيه الكفارة ولا تطهره، لأن عوده بعد النّهي جريمة اقترفها باختياره تطاولا على اللّه تعالى، لأن عوده يعد جرأة عليه تعالى وعدم مبالاة بالكفارة التي أوجبها عليه، واللّه تعالى يغتاظ من عدم مراعاة حرماته.
هذا، والحكم الشّرعي كذلك، والكفارة هنا على التخيير أيضا، فإن شاء ذبح من النّعم مثل الصّيد وتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء قوم المثل دراهم وأنفقها، أو قوم الدراهم طعاما، وتصدق به، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوما واحدا.
قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} حلوه ومالحه {وَطَعامُهُ} أكله حل لكم أيضا سواء كنتم محرمين أو في الحرم ولكم أن تتمتعوا به {مَتاعًا لَكُمْ} أيها المقيمون تنتفعون به حال إقامتكم {وَلِلسَّيَّارَةِ} المسافرين يتزودون منه أيضا حال سفرهم كما فعل موسى عليه السّلام حيث تمتع بالحوت الذي قصه اللّه علينا في الآية 61 فما بعدها من سورة الكهف في ج 2 {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا} على أن لا تصيدوه في الحرم ولا في غيره ما دمتم محرمين وقد كرر اللّه تعالى تحريم الصّيد ثلاث مرات: أول السّورة في الآية الرّابعة، وهنا مرتين تأكيدا للتقيد بتحريمه، وعدم التعدّي على ما حده اللّه تعالى، وحذر عليه أولا بالنهي عن إحلال شعائر اللّه، وعدد ثانيا بالانتقام ممن يخالفه فيه خاصة، وأوعد عليه في هذه الآية الثالثة بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (96) في الآخرة لا إلى غيره، وهناك تلقون جزاءكم على ما قدمتم وسبب التكرار هو قطع لطمع النّفوس من الإقدام على الصّيد بصورة ماقة لأن للنفس فيه حظا أكثر من قيمته، والنّاس لهوى نفوسهم أطوع، ولهذا فإن حضرة الرسول لم يأكل من صيد غير المحرم وهو محرم تورعا وتنبيها لأمته ليتحاشوه ولا يقدموا عليه.
أخرج في الصّحيحين عن الصّعب بن جثامة اللّيثى أنه أهدى للنبي صلّى اللّه عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه من الكراهة قال إنا لم نرده عليك إلّا انا حرم.
وأخرج في الصّحيحين عن أبي قتادة في صيد غير المحرم وأكله المحرم أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها (أي حمارة الوحش المصيدة) قالوا لا، قال كلوا ما بقي من لحمها.
فحمل الحديث الأوّل على وجود الأمر أو الإعانة للصائد غير المحرم من قبل المحرم، أو أنه صيد لأجل المحرم، وهو من باب الورع لأنه يجوز أن يأكل منه بلا سؤال أو علم.
قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيامًا لِلنَّاسِ} لمصالحهم في أمر دينهم ودنياهم لأنه به يقوم الحج وتتم المناسك، وبه يجتمع إسلام الكرة الأرضية فيتعارفون فيه، ويتذاكرون فيما يصلح شأنهم ويلمّ شعثهم ويوحد كلمتهم ويقف كلّ منهم على ضروريات الآخر ومحصولاته من تجارة وبيع وشراء وضرع وزرع وصناعات ومصارفها ويجلبون معهم من بلادهم مما يصنعون للبيع والاطلاع ويتداولون بشأنه فيما بينهم لأن كلّ غريب طريف وقد يتباهى النّاس باقتناء الأشياء الغريبة والنّادرة، ولهذا ترى في الحرم الشّريف جميع مصنوعات ومنسوجات البلاد، ويوجد فيه مالا يوجد في غيره من الأثاث والرّياش تصديقا لقوله تعالى: {يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية 57 من سورة القصص في ج 1 وعادة جلب الأموال والأشياء إلى الحرم عادة قديمة قبل الإسلام يؤتى بها من كل حدب وصوب وتكدس فيه حتى إذا لم تصرف كلها تركوا الباقي فيه دون حراسة لا يخافون عليه سرقة ولا نهبا، ولهذا ولكون قاتل الأبن إذا رآه الأب فيه لا يكلمه لقب بالبلد الأمين، وهو محرم بالجاهلية والإسلام، ولا يستطيع أحد أن يشاحن أحدا فيه على مال أو سرقة أو سلب أو سبي.
قال تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ} الآية 198 من البقرة المارة هذا فيما يتعلق في أمر دنياهم ويتذاكرون أيضا في أمر آخرتهم، لأنه في إقامة مناسك الحج علو الدّرجات عند اللّه تعالى، وتكفير الخطايا والسّيئات، وزيادة الكرامة في الجنّات {وَالشَّهْرَ الْحَرامَ} جعله أيضا لما فيه من الأمن العام على من عرف ومن لم يعرف وفي الشّهر للجنس فيشمل الأشهر الأربعة لأنها من هذه الحيثية سواء {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} جعلها اللّه أيضا قياما للناس، لأن من يسوق الهدي إلى الحرم لا يتعرض له أحد، ولأن فيه وسعة على الفقراء، راجع الآية الثانية المارة وبحث الحج في الآية 193 من البقرة 26 من سورة الحج المارتين {ذلِكَ} جعل اللّه هذه الأشياء قواما للناس في أمورهم الدّينية والدّنيوية والأخروية {لِتَعْلَمُوا} أيها النّاس {أَنَّ اللَّهَ} تعالى عالم في الأزل بمصالحكم وحوائجكم في هذه الشّعائر، وهو جل شأنه {يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} كليّاتهما وجزئيّاتهما، ظاهرهما وباطنهما، خفيهما وجليهما {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (97) من كلّ ما كان ويكون قبل كونه ومكان كونه وزمنه ورقت إعدامه وإعادته {اعْلَمُوا} أيها النّاس {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} لمن انتهك حرماته {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (98) لمن تاب وأناب ومات على الإيمان والتوبة واعلموا أيضا أيها النّاس أنه {ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} إليكم بلسانه مما أمره به ربه وقد قام بما أمر وبلغ وبشر وأنذر، فلزمتكم الطّاعة وقامت عليكم الحجة، فاحذروا أن تفرطوا أو تفرطوا وانتبهوا أيها المعرضون، وتيقظوا لما يراد بكم فانتهوا عما نهاكم عنه، وافعلوا ما أمركم به، فإن عليكم رقيبا منه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ} من علانية الأقوال والأفعال والأعمال {وَما تَكْتُمُونَ} (99) من الضّمائر والدّخائل والنّيات والخواطر وإن علمه في كلا الأمرين سواء، لا يعزب عن علمه شيء، ولا تخفى عليه خافية من أهل السّموات والأرض السرّ عندة كالعلانية.
وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على بصر ممن كان له قلب راع وفكرة ثاقبة ونظر فيما يؤول إليه الأمر واستمع قول اللّه ورسوله سماع قبول.

.مطلب في الخبيث والطّيب والنّهي عن سؤال اللّه بما لم يكلف به عباده وما حرمته الجاهلية قبل الإسلام:

يا سيد الرسل {قُلْ} للناس كافة بأنه {لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} عند اللّه في الرّتبة والمنزلة فلا يعادل الحلال الحرام ولا الجيد الرّديء كما لا يستوى الحق والباطل والنّور والظّلمة والكفر والإيمان والأعوج والعدل والزين والشّين فبينهما بون شاسع، فلا تغتر أيها الإنسان بما ترى {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} لأن عاقبته سيئة وآخرته قبيحة، فأهل الدّنيا يعجبهم كثرة المال وتسرهم زخارفها، وأهل اللّه يعجبهم ما عند اللّه ويزداد فرحهم به لأنه باق دائم وذلك زائل فان، والمزق الباقي خير من الذهب البالي {فَاتَّقُوا اللَّهَ} عباد اللّه وآثروا ما يبقى على ما يفنى واتركوا الشّر واطلبوا الخير {يا أُولِي الْأَلْبابِ} النافعة المفكرة العارفة ما يضرها وما ينفعها.
واعلموا أن القليل الدّائم خير من الكثير الزائل، فآثروا الأحسن والأخير {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (100) في دينكم ودنياكم وآخرتكم، روى جابر عن عبد اللّه أن رجلا قال يا رسول اللّه إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال ان عملت فيه بطاعة اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم إن أنفقت في حج أو جهاد لم يعدل جناح بعوضة، إن اللّه طيب لا يقبل إلّا الطّيب، فنزلت هذه الآية وهي غاية في نفي المساواة عند اللّه تعالى بين النّوعين والتحذير من ردّيتهما.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وتحزنكم وتكدر خواطركم لأنكم لا تقدرون على فعلها أو يعز عليكم تناولها فقد تكون لمضرتكم أقرب من منفعتكم {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي إذا صبرتم عن السّؤال عنها إلى نزول القرآن فيها فهو خير لكم وإن لم ينزل فيها القرآن فهو خير لكم أيضا، فلا تتعرضوا للسؤال عنها فلعلها محزنة لكم أو تكون تكاليف شاقة لا تطيقونها {عَفَا اللَّهُ عَنْها} عنكم فلم يكلفكم إياها فلما ذا تتعجلون على اللّه بالسؤال عنها وتتطلبونها من حيث لا لزوم لكم بها؟ روى البخاري ومسلم ع عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال كان قوم يسألون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم استهزاء، فيقول الرّجل من أبي ويقول الرّجل تضل ناقته أين ناقتي، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا أيها النّاس قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أني كلّ عام يا رسول اللّه؟ قال فسكت حتى قالها ثلاثا، ثم قال ذروني ما تركتكم، ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ثم سألوا عن البحيرة والسّائبة الآتيتين بعد هذه الآية وعما كان من أعمال الجاهلية وبعضهم اقترح إنزال آية، فأنزل اللّه هذه الآية ردعا لهم، لأن من سأل عن نسبه لم يأمن أن يلحقه العار بان يلحقه صلّى اللّه عليه وسلم لغير أبيه فيفتضح ويفضح أمه وقومها ومن سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به فيصعب عليه وعلى الأمة أجمع وجوب تكرره، وكذلك من يسأل عن أشياء لم تفرض فيوشك أن تفرض بسبب سؤاله فتكلف الأمة كلها زمرة، فلهذا نهاهم اللّه تعالى عن السّؤال لحضرته خشية افتراض ما يسألون عنه، فيعجزون عن أدائه، فيعاقبون على تركه {وَاللَّهُ غَفُورٌ} كثير المغفرة للناس لو يعلمون ما قدرها، ولذلك لا يؤاخذكم عما يبدر منكم ويستر عليكم ما تقترفونه خفية لعلكم تتوبون وترجعون، وقد أبت رحمة اللّه بكم أن يفضحكم لمرة أو مرتين أو يسلط عليكم عدوا منكم وعدوا من غيركم {حَلِيمٌ} (101)
بعفوه عنكم وعدم تعجيل العقوبة وتكليفكم ما لا تطيقون أو تتحرجون منه.
روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال ان من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على النّاس فحرم من أجل مسألته ورويا عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال واضاعة المال وكثرة السّؤال ثم بين تعالى مدى خطأهم بما ينتج عن السّؤال بقوله جل قوله: {قَدْ سَأَلَها} أي هذه المسألة المنهي عنها {قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ} (102) وذلك أن قوم صالح عليه السّلام سألوه إخراج النّاقة من الصّخرة ليؤمنوا باللّه فدعا اللّه ربه، فأجاب دعوته وأخرجها لهم منها، فعقروها وكفروا بها، فأهلكهم اللّه بسبب سؤالهم، راجع قصتها في الآية 79 من الأعراف في ج 1، وقد سأل قوم موسى رؤية اللّه جهرة فكانت عليهم وبالا راجع قصتهم في الآية 57 من سورة البقرة المارة، وسأل قوم عيسى المائدة فلما أنزلت كذبوا بها فكانت عليهم وبالا كما سنأتي قصتها في الآية 116 الآتية فإياكم أيها المسلمون والمسألة عن شيء يتعلق بأمر دينكم ومعاملتكم من غير ما فرض اللّه عليكم منها فتحملون أنفسكم ما لا تقدرون عليه، لأنكم إذا سألتم عن شيء لا وقوع له فلربما يجاب طلبكم ويفرض عليكم فلا تعملون به فيعود عليكم بالوبال ثم قال تعالى ردا للسائلين {ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} هي النّاقة إذا ولدت خمسة أبطن لم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلأ، ويعمدون إلى ولدها الخامس إن كان ذكرا ذبحوه فيأكله الرّجال والنّساء، وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها وخصصوا منافعها للرجال وحرموها على النّساء، فإذا ماتت حلّت للرجال والنّساء {وَلا سائِبَةٍ} هي النّاقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثا سيبت فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلّا ضيف فما نتجت بعد ذلك من ذكر فعلوا به كما فعلوا بابن البحيرة، وإن كان أنثى شقوا أنفها ثم سيبت مع أمها ويفعل بها كما يفعل بأمها، ومن هذا ما ينذرونه لآلهتهم فإنه يسيب ولا يركب ولا ينتفع به {وَلا وَصِيلَةٍ} هي الشّاة إذا ولدت سبعة أبطن فإذا كان السبع ذكرا ذبحوه وأكله الرّجال والنّساء، وإذا كان أنثى تركوها، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر من أجل الأنثى {وَلا حامٍ} هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يذبح، حتى إذا مات أكله الرّجال والنّساء، هذا مما اختلفوه من أنفسهم لأن اللّه تعالى لم يأمر بشيء منه ولم ينزله في كتابه، ولم يكلف هؤلاء الجهلة تلك الأمور بل ابتدعوها ابتداعا، ومن هذا القبيل الأفعال المارة في الآية 139 فما بعدها من سورة الأنعام المارة في ج 2 فهي أيضا لا أصل لها في الشّرائع السّماوية ولم ينزل اللّه شيئا منها في كتابه على أحد من أنبيائه {وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يحرمون ويحللون تبعا لآبائهم الّذين اخترعوا ذلك {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في نسبة ما يحلونه أو يحرمونه إليه تعالى {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (103) بأن هذه الأشياء ابتدعها رؤساؤهم وقلدوهم بفعلها من غير علم بأحقيتها.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا (هو عمر بن عامر بن لحي بن قمعه بن خندق أخر بني كعب) يجرّ قصيه (أمعائه) في النّار، وهو أول من سيّب السّوائب وتبعه من بعده الناس والضّمير في أكثرهم يعود للاتباع المقلدين هذه العوائد المختلفة، لأن فيهم من يعقل إنها ليست بشيء ولكن لا يقدرون أن يستبدوا وحدهم بتركها ولا يستطيعون منع غيرهم.
قال تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ} فاعملوا به وافعلوا عن هذه الأعمال الواهية التي لا أصل لها {وَإِلَى الرَّسُولِ} أي اركنوا إليه ليبين لكم كذب ما تضيفونه إلى اللّه من هذه الأشياء وغيرها، ويوضح لكم ما حرم عليكم وأحل لكم كما أنزل اللّه {قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} من حلال وحرام، فهو كافينا عن مراجعتكم لا نريد غيره، فردّ اللّه عليهم بقوله: {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ} الّذين قلدوهم بها {لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا} من طرق التحليل والتحريم {وَلا يَهْتَدُونَ} (104) إلى طريق الحق ودين قويم وشريعة صحيحة وصراط مستقيم، أتقتدون بهم وهم على ضلال، أليس هذا جنونا وحمقا وسفها، لأن الاقتداء إنما يعتبر إذا كان المقتدى به عالما مهتديا عاقلا مفكرا لا جاهلا ضالا غبيا، ولكن إذا كان الأكثر منهم على هذا فانهم يسيطرون على الأقل لأن الحكم غالبا للأكثرية.