فصل: الآية الخامسة منها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إن اليهود تزعم ان الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد وقال الحسن: وإنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد والنصارى تألوا ما في الإنجيل من قوله: أذهب إلى أبي وأبيكم.
وقيل: بل لما قالوا المسيح ابن الله أجري على القائلين بذلك مثل ما تجري العرب على الواحد من هذيل، إذ قالوا: نحن الشعراء، والمراد: منا، وكما يجري رهط مسيلمة هذا الإطلاق على قبيلتهم فيقولون: نحن الأنبياء، لما قال واحد منهم ذلك وتابعه الباقون عليه.
فلما كان هذا مقال الفريقين رد الله تعالى عليهم قولهم مع اعترافهم بأنهم يعذبون بذنوبهم، إذ لو لم يقولوا ذلك لأباحوا ارتكاب الفواحش، فقال: {فلم يعذبكم بذنوبكم} والأب المشفق على ولده لا يعذبه، وكذلك الحبي لا يذب حبيبه، فكان هذا احتجاجا عليهم بما يعتقدون صحته من عذاب الآخرة، فإنكم لستم لله تعالى بأبناء ولا أحباء.
ثم قال: وهو المتفرد بملك السموات والأرض وما بينهما، وأنه لا ولد له ولا نظير ولا شريك له، إذ لو ثبت له ذلك تعالى الله عنه لما كان ملكا لجميعه.
فلما احتج على إبطال قولهم بما يعتقدون صحته من عذاب المذنب منهم وذلك من أحوال الآخرة ثم احتج بملكه السموات والأرض على ذلك قرن إليه قوله: {إليه المصير} أي: مآل الخلق إلى أن لا يملك أحد لهم نفعا ولا ضرا غيره تعالى. وفي جواب المسألة الثانية من اقتران ما اقترن بذكره ملك السموات والأرض وما بينهما في الآيتين.

.الآية الخامسة منها:

قوله عز وجل: وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وأتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين. المائدة: 20.
وقال في سورة إبراهيم 6: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون.
للسائل أن يسأل فيقول: هل للتنبيه في الآية الأولى من سورة المائدة بقوله: يا قوم، فائدة لم يكن مثلها في الخطاب الواقع في سورة إبراهيم لما لم يقل فيه يا قوم:
والجواب أن يقال: إن تسمية المخاطب بندائه مع إقبال عليه يفيد مبالغه في التنبيه له.
فإذا قال القائل: افعل كذا يا فلان، فكأنه قال: أعينك بخطابي لا غيرك، ممن يصح ألأن ينصرف الخطاب إليه، ألا ترى أنه إذا عزي من النداء صلح لكل مخاطب، فإذا قارن النداء الأمر كان مقصورا على صاحب الاسم الذي دخله حرف النداء والمبالغة في التنبيه حقها أن لا تكون في الأهم الأعم نفعا.
وقوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا} يصح أن يجاب عنه بجوابين.
أحدهما: أن يقال لما نبههم على ما خصهم به من الإكرام ليشكروا على هذه النعم العظام بأن جعل فيهم أنبياء مقيمين بين ظهرانيهم، يدعونه إلى طاعة ربهم ويثنون... عن المحظور من شهواتهم، وأن جعلهم ملوكا حيث أغناهم بما أنزل عليهم من المن والسلوى، عن الحاجة إلى الناس في التماس الرزق من أمثالهم، وتكلف خدمتهم وأعمالهم، وبما ملكهم من المال والعبيد والإماء الذين كانوا يخدمونه ويكفونهم ما يحتاجون إلى مباشرته بأنفسهم. والمنبه عليه في هذا المكان أشرف ما يخوله الإنسان من النبوة التي لها أشرف منازل الثواب، والملك الذي هو غاية ما تسمو الهمم في دار التكليف فنبهوا، بأبلغ الألفاظ ليقوموا بشكر ما عليهم من الأنعام، والآية التي في سورة إبراهيم تنبيه على ما صرف عنهم من البلاء، وليس عو كالتنبيه على تخويل أشرف العطاء مع صرف البلاء.
وجواب ثان وهو أن المن والسلوى مما لم ينعم به على أحد قبلهم ولا بعدهم، فلذلك قال: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، فإذا نبهوا على شكر نعمة خصوا بها دون الناس كلهم كانت المبالغة في ذلك أولى.
وجواب ثالث وهو أن يقال: لما جعل الخطاب بعد قوله: يا أهل الكتاب في آيتين، وصدر المخاطبات نبه فيها المخاطبين بمناداتهم فيما حكى من أقوالهم، كقوله تعالى بعده: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} المائدة: 21، وقوله: {قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين} المائدة،: 22 وبعده: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها} المائدة: 24، وبعده قوله: {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} المائدة: 25، كان الاختيار أن يجري مجرى نظائره المتقدمة والمتأخرة ولم يكن شيء من ذلك في الآية التي في سورة إبراهيم، فلم يذكر هناك، يا قوم، لهذا.
وقد اختلف الناس فيمن يسمى ملكا، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد ابن أسلم، والحسن أقل الحال التي إذا كانت كان الإنسان بها ملكا الدار، والمرأة والخادم.
وقال غيرهم: الملك: الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال وتحمل المشاق للمعاش.
وبنو إسرائيل سموا ملوكا لما من الله تعالى عليهم به من المن والسلوى والحجر، والغعمام، عن ابن عباس وغيره.
وقال الحسن، لأنهم ملوك، أنفسهم بالتخلص من القبط، الذين كانوا يستعبدونه.
وقال السدي: ملك كل واحد منهم، نفسه وأهله وماله، وقال قتاده، كانوا أول من ملك الخدم.
فأما قوله: {وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يريد من عالمي زمانكم، كما قال تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} البقرة، 47، 122، أي على عالمي زمانكم.
ويحتمل أن يراد هاهنا: أتاكم المن والسلوى، وهما مما لم يؤت أحدا من العالمين وقد ذكرته قبل.

.الآية السادسة منها:

قوله عز وجل: ومن لم يحكم بنما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، المائدة: 44.
وبعده: فأولئك هم الظالمون، المائدة: 45
وبعده: فأولئك هم الفاسقون، المائدة: 47
للسائل أن يسأل فيقول: الموضع الذي وصف فيه من لم يحكم بكتاب الله بالكفر هل باين الموضع الذي وصف فيه تارك حكم الله بالظلم والفسق.
والجواب أن يقال: إن الآية الأولى قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار استحفظوا من كتاب الله وكانوا عله شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} المائدة: 44
قال فيها بعض أهل النظر: إن من فيها ليست كـ من في المجازاة، وإنما هي بمعنى الذي ويصح دخول الفاء في جوابها كما تدخل في جواب الشرط لتضمنها ذلك المعنى وإن كان لا يجازى بها، وهو كقولك، الذي يزورني فله درهم، إذا أوجبت له بالزيارة، إن لم ترد: من يزرني فله درهم.
فقوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله في هذه الآية، المراد به اليهود الذين كانوا يبيعون حكم الله بما يشترونه من ثمن قليل يرتشونه فيبدلون حكم الله باليسير الذي يأخذون، فهم يكفرون بذلك.
وأما أن يكون الحكم بخلاف ما أنزل الله كفرا فهو مذهب الخوارج، يذهبون بـ من هنا إلى الشياع الذي في المجازاة، وهذا مخصوص به اليهود الذين تقدم ذكرهم وتبديلهم حكم الله تعالى ليكذبوا رسول الله وذلك كفر.
وأما الآية الثانية فهي فيهم أيضا لقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} المائدة: 45، ومعناه: كتبنا على هؤلاء في التوراة، فرد الذكر، إلى الذين هادوا، وهم الذين كفرهم لتركهم دين الله، والحكم بما أنزل، ثم وصفهم بعد خروجهم عن حكم الله في القصاص بين عباده في قتل النفس وقطع أعضائها بأنهم، مع كفرهم الذي تقدم ذكره، ظالمون، وكل كافر ظالم لنفسه إلا أنه قد يكون كافر غير ظالم لغيره، فكأنه وصف في هذه الآية بصفة زائدة على صفة الكفر بالله، وهي ظلمه لعباد الله تعالى بخروجه في القصاص عن حكم الله ومن لم يحكم في هذه الآية، المراد بهم، الذين لا يحكمون من اليهود.
وأما الآية الثالثة فإنها بعد قوله: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومعناه، قيل لهم في ذلك الزمان وأمروا أن يحكموا به، ومن لم يحكم بما أنزل الله، قال فيه من حكيت عنه قوله من المتقدمين أنه بمعنى الذي.
والذي أذهب إليه أنا: أن من هاهنا بمعنى المجازماة، لا بمعنى الذي كما تقول فيمن لم يحكم بما أنزل لله منا، إنه لا يبلغ منزلة الكفر، وإنما يوصف بالفسق، فلذلك قال: فأولئك هم الفاسقون.
فقد بان أن كل موضع من الآيات الثلاث أخبر فيه عن المذكورين قبل: بالكفر والظلم والفسق، إنما وجب فيه النصارى، وعلى ضوء ذلك ذكر مناسبة ختم الأولى بالكافرين، وختم الثانية بالظالمين ولم يذكر مناسبة ختم الآية الثالثة بالفاسقين لوضوحها والله أعلم لأنه تقدم قوله تعالى: {وليحكم} وهو أمر، فناسب ذكر الفسق لأن من يخرج عن أمر الله تعالى يكون فاسقا كما قال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} الكهف: 50، أي خرج عن طاعة أمره تعالى، ينظر البحر المحيط لأبي حيان.
وما ذهب إليه المؤلف رحمه الله من أن هذه الآيات الثلاث في أهل الكتاب هو رأي جمع من المفسرين كأبي صالح والضحاك وعكرمة، وهو اختيار الطبري في تفسيره، والنحاس في كتابه إعراب القرآن، وهناك أقوال أخرى ذكرها المفسرون، والراجح، وإن كان السياق في أهل الكتاب أن ظاهر هذه الآيات: العموم، وإلى ذلك ذهب ابن مسعود وإبراهيم النخعي والحسن، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من استحل الحكم بغير ما أنزل الله جاحدا به فهو كافر. وأما من لم يحكم بما أنزل الله وهو مقر تارك الظالم الفاسق.
قال الطبري في تفسيره: فإن قائل الله تعالى ذكره قد عم بالخير بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصا؟ قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه، كافرون، وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي.
قال الآلوسي رحمه الله في تفسيره ولعل الله تعالى وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة، فالانكارهم ذلك وصفوا بالكافرين، ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا بالظالمين، ولخروجهم عن الحق وصفوا بالفاسقين، وهو أي الآلوسي يرى أيضا أن الخطاب يشمل اليهود وغيرهم فيقول: والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم، وهو مخرج مخرج التغليظ ذاك، ولم يحسن فيه غيره هناك، فاعلمه.