فصل: (الآية الخامسة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحق أنه يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره، وبين الأسود من الكلاب وغيره، وبين الطير وغيره.
ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي بن حاتم عن صيد البازي.
{تُعَلِّمُونَهُنَّ}: أي تؤدبونهن. والجملة في محل نصب على الحال.
{مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}: أي مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل، الذي تهتدون به إلى تعليمها وتدريبها، حتى تصير قابلة لإمساك الصيد لكم عند إرسالكم له.
{فَكُلُوا}: الفاء للتفريع، والجملة متفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علّموه من الجوارح، و(من) في قوله: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ للتبعيض، لأن بعض الصيد لا يؤكل، كالجلد والعظم، وما أكله الكلب ونحوه.
وفيه دليل على أنه لابد أن يمسكه على صاحبه، فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه، كما في الحديث الصحيح.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحل أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال.
وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي- وهو مروي عن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعبد اللّه بن عمر، وروي عن علي وابن عباس والحسن البصري والزهري وربيعة ومالك والشافعي في القديم- إنه يؤكل صيده.
ويرد عليهم قوله تعالى: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه عليه فكل ما أمسك عليك»، وهو في الصحيحين وغيرهما.
وفي لفظ لهما: «فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه».
وأما ما أخرجه أبو داود بإسناد جيد من حديث أبي ثعلبة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه فكل وإن أكل منه».
وقد أخرجه أيضا بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه أيضا النسائي.
فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث: بأنه إن أكل عقب ما أمسك، فإنه يحرم، لحديث عدي بن حاتم وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه، فطال عليه الانتظار، وجاع فأكل من الصيد لجوعه- لا لكونه أمسكه على نفسه- فإنه لا يؤثر ذلك ولا يحرم به الصيد. وهذا جمع حسن.
وقال آخرون: إنه إذا أكل الكلب منه حرم، لحديث عدي، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين.
وقيل يحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه ثم عاد فأكل منه. وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح، ولم يسلكوا طريق الجمع، لما فيها من البعد.
قالوا: وحديث عدي بن حاتم أرجح لكونه في «الصحيحين». وقد قرر الشوكاني هذا المسلك في «شرح المنتقى» بما يزيد الناظر فيه بصيرة.
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير في عليه يعود إلى وَما عَلَّمْتُمْ، أي سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن عليكم: أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح، واستدلوا بهذه الآية، ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في «الصحيحين» وغيرهما بلفظ: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم اللّه».
وقال بعض أهل العلم: إن المراد التسمية عند الأكل. قال القرطبي: وهو الأظهر.
واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية، وهذا خطأ فإن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد وقّت التسمية بإرسال الكلب، وإرسال السهم، ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر، ومسألة غير هذه المسألة، فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا، على ما ورد في التسمية عند الأكل، ولا ملجئ إلى ذلك.
وفي لفظ في «الصحيحين» من حديث عدي: «إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل». وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط، وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي. وهذا أقوى الأقوال وأرجحها.

.[الآية الخامسة]:

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)}.
الْيَوْمَ: المراد بهذا اليوم والمذكورين قبله وقت واحد، وإنما كرّر للتأكيد، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره، كذا قال أبو السعود. وقيل: أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
كما تقول: هذه أيام فلان.
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ: هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وقد تقدم بيان الطيبات.
{وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ}: الطعام اسم لكل ما يؤكل، ومنه الذبائح، وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح، وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب- من غير فرق بين اللحم وغيره- حلال للمسلمين، وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم اللّه، فتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121]. وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال، وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزيز، وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح. وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول.
وقال عليّ وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي على الذبيحة اسم غير اللّه فلا تأكل.
وهو قول طاووس والحسن، وتمسكوا بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. وقوله تعالى: {وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3].
وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم.
فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير اللّه، وأما مع عدم العلم، فقد حكى الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية.
ولما ورد في السنة من أكله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية.
وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وهما في «الصحيح» وغير ذلك.
والمراد بأهل الكتاب هنا: اليهودي والنصارى.
وأما المجوس فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، لأنهم ليسوا بأهل الكتاب على المشهور عند أهل العلم.
وخالف في ذلك أبو ثور، وأنكر عليه الفقهاء ذلك، حتى قال أحمد بن حنبل: أبو ثور كاسمه! يعني في هذه المسألة.
وكأنه تمسك بما يروى عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مرسلا، أنه قال في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ولم يثبت بهذا اللفظ.
وعلى فرض أن له أصلا ففيه زيادة تدفع ما قاله. وهي قوله: «غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم» ورواه بهذه الزيادة جماعة، ممن لا خبرة لهم بفن الحديث من المفسرين والفقهاء، ولا يثبت الأصل ولا الزيادة، بل الذي ثبت في «الصحيح» أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر.
وأما بنو تغلب فكان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب وكان يقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر!.
وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ، وجذام، ولخم، وعاملة، ومن أشبههم.
قال ابن كثير: وهو قول غير واحد من السلف والخلف.
وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب.
وقال القرطبي: قال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال، سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم، وكذلك اليهود.
وقال: ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة، كالطعام يجوز أكله مطلقا.
{وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}: أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب. وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمجازاة، وإخبار للمسلمين بأن ما يأخذونه من أعواض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية.
{وَالْمُحْصَناتُ}: مبتدأ، واختلف في تفسيرهن هنا: فقيل: العفائف، وقيل الحرائر.
وقرأ الشعبي بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي. وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في البقرة والنساء.
وقوله: {مِنَ الْمُؤْمِناتِ}: وصف له، والخبر محذوف، أي حل لكم، وذكرهن هنا توطئة وتمهيدا لقوله:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ: المراد بهن الحرائر دون الإماء، هكذا قال الجمهور.
وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف: أن هذه الآية تعم كل كتابية حرة أو أمة.
وقيل: المراد بأهل الكتاب الإسرائيليات وبه قال الشافعي وهذا تخصيص بغير مخصص.
وقال عبد اللّه بن عمر: لا تحل النصرانية قال: ولا أعلم شركا أكبر من أن تقول:
ربها عيسى! وقد قال اللّه تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ...} الآية [البقرة: 221].
ويجاب عنه بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات، فيبنى العام على الخاص، وقد استدل من حرم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية، لأنه حملها على الحرائر، ولقوله تعالى: {فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ} [النساء: 25].
وقد ذهب إلى هذه كثير من أهل العلم، وخالفهم من قال: إن الآية تعم أو تخص العفائف، كما تقدم.
والحاصل: أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال، إلا على قول ابن عمر في النصرانية، ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة، والأمة العفيفة، على قول من يقول إنه يجوز استعمال المشرك في كلا معنييه.
وأما من لم يجوّز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر، لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو غير عفيفة إلا بدليل آخر، ويقول بجواز نكاح الحرة عفيفة كانت أو غير عفيفة، وإن حمل المحصنات هنا على العفائف، قال بجواز نكاح الحرة العفيفة والأمة العفيفة دون غير العفيفة منها. ومذهب الإمام أبي حنيفة جواز نكاح الأمة الكتابية أخذا بعموم الآية.
{إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}: أي مهورهن، وجواب إذا محذوف، أي: فهي حلال، أو هي ظرف لخبر المحصنات المقدر، أي: حل لكم.
{مُحْصِنِينَ}: منصوب على الحال، أي حال كونكم أعفاء بالنكاح.
وكذا قوله: غَيْرَ مُسافِحِينَ: منصوب على الحال من الضمير في محصنين، أو صفة لمحصنين، والمعنى غير مجاهرين بالزنا.
{وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ}: معطوف على غير مسافحين، أو على مسافحين، ولا مزيدة للتأكيد.
والخدن: الصديق في السر يقع على الذكر والأنثى، أي ولم تتخذوا معشوقات، فقد شرط اللّه في الرجال العفة، وعدم المجاهرة بالزنا، وعدم اتخاذ أخدان، كما شرط في النساء أن يكن محصنات.