فصل: قال السايس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، حلف رجلان من أولياء الموصي وغرّم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوهما، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيد السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل.
وذهب إلى الأول- أعني تفسير ضمير (منكم) بالقرابة أو العشيرة، وتفسير من (غيركم) بالأجانب- الزهري والحسن وعكرمة.
وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء، إلى أن الآية منسوخة! واحتجوا بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ} [البقرة: 282]، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول.
وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ.
وأما قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ}، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فهما عامّان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحال الضرب في الأرض، وبالوصية، وبحالة عدم الشهود المسلمين ولا تعارض بين عام وخاص.
{إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}: فاعل فعل محذوف يفسره ضَرَبْتُمْ، أو مبتدأ وما بعده خبره. والأول مذهب الجمهور من النحاة، والثاني مذهب الأخفش والكوفيين.
والضرب في الأرض: هو السفر.
{فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}: معطوف على ما قبله، وجوابه محذوف، أي إن ضربتم في الأرض، فنزل بكم الموت، وأردتم الوصية، ولم تجدوا شهودا عليها مسلمين، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم، وبما تركتم، فارتابوا في أمرهم، أو ادّعوا عليهما خيانة، فالحكم أن تحبسوهما.
ويجوز أن يكون استئنافا لجواب سؤال مقدر، كأنهم قالوا: فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة؟ فقال:
تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ: إن ارتبتم في شهادتهما. وخص بعد الصلاة، أي صلاة العصر- قاله الأكثر- لكونه الوقت الذي يغضب اللّه على من حلف فيه فاجرا كما في الحديث الصحيح، وقيل: لكونه وقت اجتماع الناس، وقعود الحكام للحكومة، وقيل: صلاة الظهر، وقيل: أي صلاة كانت.
قال أبو علي الفارسي: يحبسونهما صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}.
والمراد بالحبس: توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما.
{فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ}: معطوف على يحبسونهما، أي يقسم باللّه الشاهدان على الوصية أو الوصيات.
وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقا إذا حصلت الريبة في شهادتهما، وفيه نظر لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو بوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها.
{إِنِ ارْتَبْتُمْ}: جواب هذا الشرط محذوف، دل عليه ما تقدم كما سبق.
{لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا}: جواب القسم، والضمير في به راجع إلى اللّه تعالى، والمعنى لا نبيع حظنا من اللّه تعالى بهذا العرض النزر فنحلف به كاذبين، لأجل المال الذي ادعيتموه علينا، وقيل: يعود إلى القسم، أي لا نستبدل بصحة القسم باللّه عرضا من أعراض الدنيا. وقيل: يعود إلى الشهادة، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول. أي لا نستبدل بشهادتنا ثمنا.
قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مبني على أن العروض لا تسمى ثمنا، وعند الأكثر أنها تسمى ثمنا كما تسمى مبيعا.
{وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى}: أي ولو كان المقسم له، أو المشهود له قريبا، فإنا نؤثر الحق والصدق، ولا نؤثر العرض الدنيوي ولا القرابة. وجواب (لو) محذوف لدلالة ما قبلها عليه، أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمنا.
{وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ}: معطوف على لا نَشْتَرِي داخل معه في حكم القسم، وأضاف الشهادة إلى اللّه سبحانه، لكونه الآمر بإقامتها، والناهي عن كتمها.
{إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)}.
{فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا}: عثر على كذا: اطلع عليه. يقال: عثرت منه على خيانة، أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه. ومنه قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21]. وأصل العثور: الوقوع والسقوط على الشيء.
والمعنى أنه إذا اطلع، بعد التحليف، على أن الشاهدين أو الوصيين استحقا إثما:
أي استوجبا إثما، إما لكذب في الشهادة، أو اليمين، أو لظهور خيانة.
قال أبو عليّ الفارسي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأثم بأخذه.
يسمّى إثما كما سمّي ما يؤخذ بغير حق مظلمة.
وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
{فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما}: أي فشاهدان آخران، أو حالفان آخران، فيقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما، فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق، وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان للإثم.
{مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ}: استحق مبني للمفعول في قراءة الجمهور.
وقرأ علي وأبيّ وابن عباس وحفص على البناء للفاعل. والأوليان- على القراءة الأولى- مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هما الأوليان. كأنه قيل: من هما؟ فقيل هما الأوليان. وقيل: هو بدل من الضمير في يقومان، أو من آخران.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: الأوّلين جمع أول على أنه بدل من الّذين، أو من الهاء والميم في عليهم.
وقرأ الحسن: الأولان، والمعنى على بناء الفعل للمفعول من الذين استحق عليهم الإثم: أي جنى عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم. فالأوليان تثنية أولى والمعنى- على قراءة البناء للفاعل- من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بما كذب الكاذبين، لكونهما الأقربين إلى الميت.
فالأوليان فاعل استحق، ومفعوله أن تجردوهما للقيام بالشهادة. وقيل: المفعول محذوف، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها.
{فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ}: عطف على يقومان، أي فيحلفان باللّه.
{لَشَهادَتُنا} أي يميننا. فالمراد بالشهادة هنا اليمين، كما في قوله: {فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] أي يحلفان: لشهادتنا على أنهما كاذبان خائنان.
{أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما} أي من يمينهما على أنهما صادقان أمينان.
{وَمَا اعْتَدَيْنا}: أي تجاوزنا الحق في يميننا.
{إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)} إن كنا حلفنا على باطل.
{ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها}: أي ذلك البيان الذي قدمه اللّه سبحانه، في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد الوصية في السفر، ولم يكن عنده أحد من أهله وعشيرته وعنده كفار.
{وأَدْنى}: أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة على وجهها، فلا تحرفوا، ولا تبدلوا، ولا تخونوا، وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة في هذا الحكم الذي شرعه اللّه في هذا الموضع من كتابه، فالضمير في يأتوا عائد إلى شهود الوصية من الكفار، وقيل: إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم.
والمراد تحذيرهم من الخيانة، وأمرهم بأن يشهدوا بالحق.
{أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ}: أي ترد على الورثة فيحلفون على خلاف ما يشهد به شهود الوصية، فيفتضح حينئذ شهود الوصية. وهو معطوف على قوله: أَنْ يَأْتُوا، فتكون الفائدة في شرع اللّه سبحانه لهذا الحكم في أحد الأمرين:
إما احتراز لشهود الوصية عن الكذب والخيانة، فيأتون بالشهادة على وجهها.
أو يخافوا الافتضاح إذا ردت الأيمان على قرابة الميت، فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم فيكون ذلك سببا لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة. وقيل: أن يخافوا معطوف على مقدر بعد الجملة الأولى، والتقدير: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة، أو يخافوا الافتضاح برد اليمين، فأيّ الخوفين وقع حصل المقصود.
حاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز: أن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين، فإن لم يجد شهودا مسلمين- وكان في سفره- ووجد كفارا، جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا باللّه على أنهما شهدا بالحق، وما كتما من الشهادة شيئا، ولا أخفيا مما تركه الميت شيئا، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه، من خلل في الشهادة، أو ظهور شيء من تركه الميت، زعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه، حلف رجلان من الورثة، وعمل بذلك. واللّه أعلم. اهـ.

.قال السايس:

من سورة المائدة:
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)}
شرح المفردات:
يقال أوفى ووفى (بفتح الفاء مخففة) ووفّى (بتشديد الفاء) بمعنى أدّى ما التزمه، مع المبالغة في حالة التشديد، والكلّ ورد في القرآن {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111] {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37].
والعقود: جمع عقد، وهو في الأصل الربط، تقول عقدت الحبل بالحبل إذا ربطته به، وعقدت البناء بالجص إذا ربطته به، وتقول: عقدت البيع لفلان إذا ربطته بالقول، واليمين في المستقبل تسمّى عقدا لأنّ الحالف ربط نفسه بالمحلوف عليه وألزمها به.
المراد بالعقود هنا ما يشمل العهود التي عقدها الله علينا، وألزمنا بها من الفرائض والواجبات والمباحثات من معاملاتهم ومناكحاتهم.
والأنعام: جمع نعم (بفتحتين) وأكثر ما يطلق على الإبل، ولكن المراد به هنا ما يشمل الإبل والبقر والغنم.
والحرم: جمع حرام، بمعنى محرم، كعناق وهي الأنثى من ولد المعز وعنق بالضم.
دعا اللّه المؤمنين وناداهم بوصف الإيمان، ليحثهم على امتثال ما يكلفهم به، فإنّ الشأن في المؤمنين الانقياد لما يكلّفون به من قبل اللّه تعالى، وطالبهم بالوفاء بالعقود أي التكاليف التي أعلمهم بها، والتزموها بقبولهم الإيمان الذي يعتبر تعهّدا منهم بالعمل بمبادئه، والوقوف عند حدوده، ومن هذه التكاليف ما يعقد الناس بعضهم مع بعض من الأمانات والمعاملات.
ثم قال تعالى تمهيدا للنبيّ عن بعض محرمات الإحرام أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي من الإبل والبقر والضأن والمعز.
والبهيمة في الأصل كلّ حيّ لا يميّز، سمّي بذلك لأنه أبهم عن أن يميز أي حجب، فهو عام يشمل الأنعام وغيرها، سواء أكانت من ذوات الأربع أم لا، وإضافته للبيان، أيّ بهيمة هي الأنعام، وخرج بها غير الأنعام، سواء كان من ذوات الحوافر كالخيل والبغال والحمير أم من غيرها مثل الأسد والنمر والذئب.