فصل: تأملات في سورة المائدة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد قالت السيدة عائشة رضي اللّه عنها: إنه لا منسوخ في المائدة.
وروي أيضا: المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلّوا حلالها، وحرّموا حرامها.
وذهب آخرون إلى أن المراد من الشهادة أيمان الأوصياء للورثة، فما في الآية ليس شهادة، بل هو وصية، ويذهب إلى أنّ الأيمان قد سميت شهادة في القرآن وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور: 6].
وهذا الجواب أيضا بعيد عن ظاهر الآية لأنه قال: اثْنانِ، واليمين لا تختص بالاثنين، وقال: ذَوا عَدْلٍ واليمين لا يشترط فيها ذلك، وقال: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [النساء: 101] هو ليس شرطا أيضا في اليمين.
وأحسن الأجوبة عن ذلك ما ذهب إليه علماء الحديث، وقاله الإمام أحمد: من أنه أجيزت شهادة الكفار في السفر للضرورة، قال صالح بن أحمد قال أبي: لا تجوز شهادة أهل الذمة إلا في مواضع: في السفر الذي قال اللّه تعالى: {أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} فأجازها أبو موسى الأشعري.
وقد روي عن ابن عباس أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ من أهل الكتاب، وهذا موضع ضرورة لأنّه في سفر، ولا نجد من يشهد من المسلمين، وإنما جاءت في هذا المعنى وهو مذهب شريح، وقول سعيد بن المسيب، وحكاه عن ابن عباس.
وبقي في المسألة بحث، وهو أتجوز شهادتهم عند أحمد في كل ضرورة أم لا تجوز إلا في ضرورة السفر؟ قال ابن تيمية: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضوع هو ضرورة يقتضي هذا التعبير قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا، ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون لكان له وجه.
هذا في شهادة الكفار على المسلمين، وأما شهادة بعضهم على بعض فذهب كثير من العلماء إلى منعها، واحتجوا بظواهر من القرآن مثل قوله: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: 15] وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] وقوله:
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة: 282].
وذهب آخرون إلى جوازها، وأجابوا عن هذه الآيات بأنّ هذا إنما هو في الحكم بين المسلمين، فإنّ السياق كله في ذلك، فإن اللّه تعالى قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} فلا تعرض في شيء من ذلك لحكم أهل الكتاب البتة.
واحتجوا بقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] فأخبر أنّ منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، فكونه أمينا على قرابته وأهل ملته أولى، وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] فأثبت لهم الولاية بعضهم على بعض. وهي أعلى رتبة من الشهادة وغاية الشهادة أن تشبّه بها، فإذا كان له أن يزوّج ابنته وأخته، ويلي مال ولده: فقبول شهادته عليه أولى وأحرى.
واحتجوا أيضا بما روي عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما أنّ اليهود جاؤوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم برجل منهم وامرأة زنيا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ائتوني بأربعة منكم يشهدون».
وبما ثبت في «الصحيح»: مرّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيهودي وقد حمم فقال: «ما شأن هذا»؟ فقالوا: زنى، فقال: «ما تجدون في كتابكم» إلخ.
فأقام الحد بقولهم، ولم يسأل اليهودي واليهودية، ولا طلب اعترافهما، وهذا هو الفقه. فإنّ أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم بالبيع والإجارة والمداينة، وتقع بينهم الجنايات، ويتعدّى بعضهم على بعض، ولا يكون لهم شهداء إلا من أنفسهم، ويتخاصمون إلى قضاء المسلمين، فإذا لم يحكموا بينهم بشهودهم المرضيين عندهم ضاعت حقوقهم، وأدّى ذلك إلى الظلم والفساد، فالحاجة ماسّة إلى قبول شهادة بعضهم على بعض، وقد يكون بينهم الصادق الذي يتحرّى الصدق في أخباره، فيطمئن القاضي إلى قبول قوله.
وإذا كان القصد من الشهادة الحكم بينهم بالعدل، ورفع التظالم، وإيصال كل ذي حق منهم إلى حقه: فكل شهادة منهم أوقعت في نفس القاضي ظنّا بصدقها وجب العمل بها للعدل والحق.
ب- إنّ هذه الآية تجيز شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم، وهذا يخالف ما علم من الشريعة من أنّ «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر».
وما علم من الشريعة هو محض العدل، لأنه «لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم».
أما جواب الجمهور عن هذا فمعروف وهو أن هذه الآية منسوخ حكمها.
وأما على ما ارتضيناه من أنه لا نسخ فيها فالجواب هو ما يأتي: إنّ اليمين جعلت في جانب المدّعى عليه بقوة جانبه، بأن الأصل يشهد له، فإذا قوي جانب المدّعي بشاهد حلف معه فاليمين تكون بجانب أقوى المتداعيين شبهة. وهنا قد قوي جانب المدعي بالعثور على أنهما استحقا إثما، فلا جرم كانت اليمين في جانبهم، فليس هذا مخالفا للأصول، وإنما هو متفق معها، فقوة جانبهم بالعثور على الخيانة، كقوة جانب المدعي بالشاهد، وقوة جانبه بنكول خصمه عن اليمين، وقوة جانبه باللوث، وقوة جانبه بشهادة العرف في تداعي الزوجين وغير ذلك.
ج- هذه الآية تقتضي بتحليف الشاهد، والشاهد لا يحلف وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282] والجواب أنّ هذه الشهادة بدل عن شهادة المسلم للضرورة، فطلب الاحتياط فيها.
على أنّ بعض السلف ذهب إلى تحليف الشاهد المسلم إذا ارتاب فيه الحاكم، وقد حلّف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع. اهـ.

.تأملات في سورة المائدة:

للشيخ صالح المغامسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وهذا بعون الله وتوفيقه لقاؤنا حول تفسير سورة المائدة وبه نختم إن شاء الله تعالى هذه السورة، وقد بينا غير مرة أن من منهجنا في التفسير أننا ننتقي ونختار آيات من السورة التي نعنى بتفسيرها وما كان من الآيات معنيا كثيرا بالفقهيات نحاول أن نبتعد عنه لأن هذا له موطن آخر.
{وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} (111) سورة المائدة، إلى آخر السورة.
فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى:
هذه الآيات تتكلم عن نبي الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في خلقه أنه ما بعث رسولا إلا وفي الغالب يؤيده بأنصار وأصحاب يعضدونه كما قال الله في حق نبينا صلى الله عليه وسلم {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} (62) سورة الأنفال، كما يجعل فريقا آخر يقاوم ذلك النبي ويعاديه قال الله جل وعلا: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا} (31) سورة الفرقان.
وفي هذه الآيات يخبر الله جل وعلا أنه قذف وألهم في قلوب الحواريين الذين هم أنصار عيسى ابن مريم قذف الله جل وعلا في قلوبهم محبة عيسى والإيمان بالله جل وعلا من قبل ونصرة ذلك النبي الكريم صلوات الله عليه وعلى نبينا.
فقال الله جل وعلا: {وإذ أوحيت إلى الحواريين}:
و(أوحى) في القرآن تأتي على ثلاثة أضرب: تأتي بمعنى الإرسال: وهو الذي يختص بالنبيين وكنا قد تكلمنا عن هذا سلفا وقسمناه إلى عدة أقسام فالوحي الذي يكون به الإنسان نبيا هذا يسمى إرسال.
ويأتي على عدة هيئات بيناها في درس سابق قلنا منها: يأتي بأن يكلم الله جل وعلا العبد من وراء حجاب أو يرسل جبرائيل بذاته أو أن يكون شيئا يقذف في قلب ذلك النبي. وهذا النوع هو الذي يميز به النبيون عن غيرهم.
والنوع الثاني: وحي بمعنى الإلهام قال الله جل وعلا {وأوحى ربك إلى النحل} وقال الله تبارك وتعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} فوحي الله جل وعلا إلى النحل ووحي الله تبارك وتعالى إلى أم موسى لا يجعل من النحل ولا من أم موسى أنبياء ولكن المقصود الإلهام الذي وضعه الله جل وعلا في النحل ووضعه الله جل وعلا عند أم موسى. وهذا الثاني هو الذي قصده الله بقوله: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} أي ألهمتهم الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم.
النوع الثالث: الوحي بمعنى الأمر قال الله جل وعلا: {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها* وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها} هذه {بأن ربك أوحى لها} أي بأن الله أمرها فأصبح ينجلي عن هذا أن الوحي في القرآن على ثلاثة أضرب:
وحي بمعنى الإرسال. ووحي بمعنى الإلهام.ووحي بمعنى الأمر. وقول الله جل وعلا {وإذ أوحيت إلى الحواريين} هو من النوع الثاني أي إذ ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بي وبرسولي.
قال الله جل وعلا: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا} أي الحواريون {آمنا واشهد بأننا مسلمون}.
اختلف في المخاطب بـ اشهد هل هو الله أو عيسى؟ وقواعد القرآن لا تنافي الاثنين أي أشهدوا الله وأشهدوا عيسى على أنهم مسلمون {واشهد بأننا مسلمون}.
ثم قال الله جل وعلا بعد أن ذكر أن الحواريين كانوا أنصارا لعيسى ابن مريم أي خلصاء وأصحاب وأصفياء ويعضدونه ويؤمنون بالله قال الله جل وعلا: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} (112) سورة المائدة.
أولا المبحث الأول:
هذه الآية فيها قراءتان: القراءة الأولى المشهورة التي بين أيدينا {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا} والقراءة الثانية {هل تستطيع ربك} بالتاء بدلا من الياء وبنصب رب بدلا من رفعها، قلنا القراءة التي نقرؤها اليوم: {هل يستطيع ربك} على أن يستطيع فعل ورب فاعل، والقراءة الثانية {هل يستطيع ربك} سنبين الأمرين نبدأ بالثانية لأنها مبهمة: إذا قلنا بقراءة الكسائي ومن وافقه من القراء على أن الآية {هل تستطيع ربك} يصبح معنى الآية مع تقدير المحذوف: هل تستطيع خطاب لعيسى هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء! وهذه القراءة قلنا قرأ بها الكسائي وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه تختارها. يصير يصبح معنى الآية هل تستطيع- الخطاب لعيسى- أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء. وعلى القراءة الأولى وهي قراءتنا في المصحف الذي بين أيدينا يصبح معنى الآية {هل يستطيع ربك} الاستطاعة المعروفة لكن بالطبع ليس المقصود إظهار عجز الله كما سيأتي.
{هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} عندما يتكلم الإنسان مفسر أو غيره عن أمر لابد أن يستصحب واقع الحال هؤلاء الذين يتكلمون ويسألون عيسى هم أنصاره وحواريوه وأصفياؤه فلا يعقل أبدا أن الحواريين يشكون في قدرة؟ في قدرة الله، لو كانوا يشكون في قدرة الله لما أصبحوا أصلا مؤمنين فضلا على أن يكونوا حواريين لعيسى ابن مريم. لكن المقصود أنهم أرادوا أمرا زيادة في اليقين كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما نص القرآن بذلك {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (260) سورة البقرة. فالذي يظهر خروجا من خلافات المفسرين أن سؤال الحواريين هنا من نوع سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام.