فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والعقود جمع عقد بفتح العين، وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعل مّا.
وحقيقته أنّ العقد هو ربط الحبل بالعروة ونحوها، وشدّ الحبل في نفسه أيضًا عقد.
ثم استعمل مجازًا في الالتزام، فغلب استعماله حتّى صار حقيقة عرفية، قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم ** شدّوا العِناج وشدّوا فوقه الكَرَبَا

فذكر مع العقد العناج وهو حبل يشدّ القربة، وذكر الكَرَب وهو حبل آخر للقربة: فرَجَعَ بالعقد المجازيّ إلى لوازمه فتَخيّل معه عناجًا وكربًا، وأراد بجميعها تخييل الاستعارة.
فالعقد في الأصل مصدر سمّي به ما يعقد، وأطلق مجازًا على التزام من جانبين لشيء ومقابله، والموضع المشدود من الحبل يسمّى عُقدة.
وأطلق العقد أيضًا على الشيء المعقود إطلاقًا للمصدر على المفعول، فالعهود عقود، والتحالف من العقود، والتبايع والمؤاجرة ونحوهما من العقود، وهي المراد هنا.
ودخل في ذلك الأحكام التي شرعها الله لنا لأنّها كالعقود، إذ قد التزمها الداخل في الإسلام ضمنًا، وفيها عهد الله الذي أخذه على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به.
ويقع العقد في اصطلاح الفقهاء على إنشاء تسليم أو تحمّل من جانبين؛ فقد يكون إنشاء تسليم كالبيع بثمن ناض؛ وقد يكون إنشاء تحمّل كالإجارة بأجر ناض، وكالسلم والقراض؛ وقد يكون إنشاء تحمّل من جانبين كالنكاح، إذ المهر لم يُعتبر عوضًا وإنَّما العوض هو تحمّل كلّ من الزوجين حقوقًا للآخر.
والعقود كلّها تحتاج إلى إيجاب وقبول.
والأمر بالإيفاء بالعقود يدلّ على وجوب ذلك، فتعيّن أنّ إيفاء العاقد بعقده حقّ عليه، فلذلك يقضي به عليه، لأنّ العقود شرعت لسدّ حاجات الأمّة فهي من قسم المناسب الحاجيّ، فيكون إتمامها حاجيًّا؛ لأنّ مكمّل كلّ قسم من أقسام المناسب الثلاثة يلحق بمكمَّلِه: إنْ ضروريًّا، أو حاجيًا، أو تحسينًا.
وفي الحديث المسلمون على شروطهم إلاّ شرطًا أحلّ حرامًا أو حرّم حلالًا.
فالعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها مجرّد الصيغة تلزم بإتمام الصيغة أو ما يقوم مقامها، كالنكاح والبيع.
والمراد بما يقوم مقام الصيغة نحو الإشارة للأبكم، ونحو المعاطاة في البيوع.
والعقود التي اعتبر الشرع في انعقادها الشروعَ فيها بعد الصيغة تلزم بالشروع، كالجُعل والقِراض.
وتمييزُ جزئيَّات أحد النوعين من جزئيات الآخر مجال للاجتهاد.
وقال القرافيّ في الفرق التاسع والمائتين: إنّ أصل العقود من حيث هي اللزوم، وإنّ ما ثبت في الشرع أو عند المجتهدين أنّه مبنيّ على عدم اللزوم بالقول فإنَّما ذلك لأنّ في بعض العقود خفاء الحقّ الملتزم به فيُخشى تطرّق الغرر إليه، فوسَّع فيها على المتعاقدين فلا تلزمهم إلاّ بالشروع في العمل، لأنّ الشروع فرع التأمّل والتدبّر.
ولذلك اختلف المالكيَّة في عقود المغارسة والمزارعة والشركة هل تلحق بما مصلحته في لزومه بالقول، أو بما مصلحته في لزومه بالشروع.
وقد احتجّ في الفرق السادس والتسعين والمائة على أنّ أصل العقود أن تلزم بالقول بقوله تعالى: {أوفوا بالعقود}.
وذكر أنّ المالكيَّة احتجّوا بهذه الآية على إبطال حديث: خيار المجلس؛ يعني بناء على أنّ هذه الآية قرّرت أصلًا من أصول الشريعة، وهو أنّ مقصد الشارع من العقود تمامها، وبذلك صار ما قرّرته مقدّمًا عند مالك على خبر الآحاد، فلذلك لم يأخذ مالك بحديث ابن عمر «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا».
واعلم أنّ العقد قد ينعقد على اشتراط عدم اللزوم، كبيع الخيار، فضبطه الفقهاء بمدّة يحتاج إلى مثلها عادة في اختيار المبيع أو التشاور في شأنه.
ومن العقود المأمور بالوفاء بها عقود المصالحات والمهادنات في الحروب، والتعاقد على نصر المظلوم، وكلّ تعاقد وقع على غير أمر حرام، وقد أغنت أحكام الإسلام عن التعاقد في مثل هذا إذ أصبح المسلمون كالجسد الواحد، فبقي الأمر متعلّقًا بالإيفاء بالعقود المنعقدة في الجاهلية على نصر المظلوم ونحوه: كحلف الفضول.
وفي الحديث: «أوفُوا بعقود الجاهلية ولا تُحدثوا عقدًا في الإسلام» وبقي أيضًا ما تعاقد عليه المسلمون والمشركون كصلح الحُدَيْبِية بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش.
وقد رُوِي أنّ فرات بن حيّان العِجْلي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال: «لعلّك تسأل عن حلف لُجَيْم وتَيْمَ، قال: نعم، قال: لا يزيده الإسلام إلاّ شدّة».
قلت: وهذا من أعظم ما عرف به الإسلام بينهم في الوفاء لغير من يعتدي عليه.
وقد كانت خزاعة من قبائل العرب التي لم تناو المسلمين في الجاهلية، كما تقدّم في قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم} في سورة آل عمران (173). اهـ.

.قال الفخر:

قال الشافعي رحمه الله: إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا، وقال أبو حنيفة رحمه الله: بل يصح.
حجة أبي حنيفة أنه نذر الصوم والذبح فيلزمه الصوم والذبح، بيان الأول أنه نذر صوم يوم العيد، ونذر ذبح الولد، وصوم يوم العيد ماهية مركبة من الصوم ومن وقوعه في يوم العيد، وكذلك ذبح الولد ماهية مركبة من الذبح ومن وقوعه في الولد، والآتي بالمركب يكون آتيًا بكل واحد من مفرديه، فملتزم صوم يوم العيد وذبح الولد يكون لا محالة ملتزمًا للصوم والذبح.
إذا ثبت هذا فنقول: وجب أن يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} ولقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ولقوله: {يُوفُونَ بالنذر} [الإنسان: 7] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ف بنذرك» أقصى ما في الباب أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعًا في يوم العيد، وفي خصوص كون الذبح واقعًا في الولد، إلاّ أن العام بعد التخصيص حجة.
وحجة الشافعي رحمه الله: أن هذا نذر في المعصية فيكون لغوًا لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نذر في معصية الله». اهـ.
قال الفخر:
قال أبو حنيفة رحمه الله: خيار المجلس غير ثابت، وقال الشافعي رحمه الله: ثابت، حجة أبي حنيفة أنه لما انعقد البيع والشراء وجب أن يحرم الفسخ، لقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} وحجة الشافعي تخصيص هذا العموم بالخبر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا». اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام}:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى، وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة، شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة، فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قالوا: كل حي لا عقل له فهو بهيمة، من قولهم: استبهم الأمر على فلان ءذا أشكل، وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، قال تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء} إلى قوله: {والخيل والبغال والحمير} [النحل: 5- 8] ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير.
وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما فَهُمْ لَهَا مالكون وذللناها لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71، 72] وقال: {وَمِنَ الإنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} إلى قوله: {ثمانية أزواج مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} وإلى قوله: {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 142 144] قال الواحدي رحمه الله: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء.
إذا عرفت هذا فنقول: في لفظ الآية سؤالات: الأول: أن البهيمة اسم الجنس، والأنعام اسم النوع فقوله: {بَهِيمَةُ الانعام} يجري مجرى قول القائل: حيوان الإنسان وهو مستدرك.
الثاني: أنه تعالى لو قال: أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تامًا بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية.
الثالث: أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان، ولفظ الأنعام بلفظ الجمع، فما الفائدة فيه؟
والجواب عن السؤال الأول من وجهين:
الأول: أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان، وهذه الإضافة بمعنى {مِنْ} كخاتم فضة، ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا: نفس الشيء وذاته وعينه.
الثاني: أن المراد بالبهيمة شيء، وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة.
الثاني: أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال: هذا من بهيمة الأنعام.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه.
واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه الله في أن الجنين مذكى بذكاة الأم. اهـ.

.قال الألوسي:

{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} شروع في تفصيل الأحكام التي أمر بإيفائها، وبدأ سبحانه بذلك لأنه مما يتعلق بضروريات المعاش، والبهيمة من ذوات الأرواح ما لا عقل له مطلقًا، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وسمي بهيمة لعدم تمييزه وإبهام الأمر عليه.
ونقل الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن سبب تسمية البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب الخلق لا أن الأمر أبهم عليها، وذكر ما يدل على عقلها وعلمها، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
وقال غير واحد: البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان كثوب خز أي أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها، واعترض بأن البهيمة اسم جنس، والأنعام نوع منه، فإضافتها إليه كإضافة حيوان إنسان وهي مستقبحة، وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة كمدينة بغداد فإن لفظ بغداد لما كان غير عربي لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان مسماه وتوضيحه وكشجر الأراك فإنه لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن، وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه على ما قيل، ولذا لا يقال: النَّعم إلا لها أضيف إليه بهيمة إشارة إلى ما قصد به، وذكر البهيمة وإفرادها لإرادة الجنس، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها وألحق بهما الظباء وبقر الوحش، وقيل: هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب، وروي ذلك عن الكلبي.
والفراء، وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما، وجوز بعض المحققين في إضافة المشبه للمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل ملابسة المشبه اختصاصًا بينهما، أو بمعنى من البيانية على جعل المشبه نفسه المشبه به، وفائدة هذه الإضافة هنا الإشعار بعلة الحكم المشتركة بين المتضايفين كأنه قيل: أحلت لكم البهيمة المشبهة بالأنعام التي بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها في مناط الحكم، وقيل: المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم فيكون مفاد الآية صريحًا حل أكلها، وبه قال الشافعي، واستدل عليه بغير ما خبر، ويفهم منها حل الأنعام، وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لإظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر. اهـ.