فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}.
أشعر كلام بعض المفسّرين بالتَّوقّف في توجيه اتّصال قوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} بقوله: {أوفوا بالعقود}.
ففي «تلخيص الكواشي»، عن ابن عباس: المراد بالعقود ما بَعد قوله: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} اهـ.
وقال ابن عاشور:
ويتعيَّن أن يكون مراد ابن عباس ما مبْدؤه قوله: {إلا ما يتلى عليكم} الآيات.
وأمّا قول الزمخشري {أحلَّت لكم بهيمة الأنعام} تفصيل لمجمل قوله: {أوفوا بالعُقود} فتأويله أنّ مجموع الكلام تفصيل لا خصوص جملة {أحلّت لكم بهيمة الأنعام}؛ فإنّ إباحة الأنعام ليست عقدًا يجب الوفاء به إلاّ باعتبار ما بعده من قوله: {إلاّ ما يتلى عليكم}.
وباعتبار إبطال ما حرّم أهل الجاهلية باطلًا ممّا شمله قوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة} [المائدة: 103] الآيات.
والقول عندي أنّ جملة {أحلّت لكم بهيمة الأنعام} تمهيد لما سَيَرِد بعدها من المنهيات: كقوله: {غيْر محِلّي الصّيد} وقوله: {وتعاونوا على البِرّ والتقوى} [المائدة: 2] التي هي من عقود شريعة الإسلام فكان الابتداء بذكر بعض المباح امتنانًا وتأنيسًا للمسلمين، ليتلقّوا التكاليف بنفوس مطمئنّة؛ فالمعنى: إنْ حرّمنا عليكم أشياء فقد أبحنا لكم أكثر منها، وإن ألزمناكم أشياء فقد جعلناكم في سعة من أشياء أوفر منها، ليعلموا أنّ الله ما يريد منهم إلاّ صلاحهم واستقامتهم.
فجملة {أُحِلَّت لكم بهيمة الأنعام} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا لأنّها تصدير للكلام بعد عنوانه.
والبهيمة: الحيوان البرّي من ذوي الأربع إنسِيّها ووحشيّها، عدا السباعَ، فتشمل بقر الوحش والظباء.
وإضافة بهيمة إلى الأنعام من إضافة العامّ للخاصّ، وهي بيانية كقولهم: ذبابُ النحل ومدينة بغداد.
فالمراد الأنعام خاصّة، لأنَّها غالب طعام الناس، وأمّا الوحش فداخل في قوله: {غير محلّي الصيد وأنتم حرم}، وهي هنا لدفع توهّم أن يراد من الأنعام خصوص الإبل لغلبة إطلاق اسم الأنعام عليها، فذكرت (بهيمة) لشمول أصناف الأنعام الأربعة: الإبل، والبقر، والغنم، والمعز.
والإضافة البيانيَّة على معنى (مِن) التي للبيان، كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30].
والاستثناء في قوله: {إلاّ ما يتلى عليكم} من عموم الذوات والأحوال، وما يتلى هُو ما سيفصّل عند قوله: {حُرّمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]، وكذلك قوله: {غير مُحلِّي الصيد وأنتم حرم}، الواقع حالًا من ضمير الخطاب في قوله: {أحِلت لكم}، وهو حال مقيّد معنى الاستثناء من عموم أحوال وأمكنة، لأنّ الحُرم جمع حرام مثل رَدَاح على رُدُح.
وسيأتي تفصيل هذا الوصف عند قوله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس} في هذه السورة (97). اهـ.

.قال الفخر:

قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالًا مباحًا بحكم الله.
قالوا: والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها، والإيلام قبيح إلاّ أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح.
واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقًا كثيرة بسبب هذه الشبهة فقالت المكرمية: لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لعلّ الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها.
وهذا كالمكابرة في الضروريات، وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقًا، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقًا بجناية ولا ملحقًا بعوض.
وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلمًا، قالوا: والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة لطلب الصحة، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذلك القول في الذبح.
وقال أصحابنا: إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه، والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

وفي الآية ردّ على المجوس فإنهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها قالوا: لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح خصوصًا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم.
وزعموا لعنهم الله تعالى أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور، والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداءًا بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم، والتزموا أن البهائم مكلفة عالمة بما يجري عليها من الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولولا ذلك لما تصور انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف.
وزعم البعض منهم أنه ما من جنس من البهائم إلا وفيهم نبي مبعوث إليهم من جنسهم، بل زعم آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير والشر، ونسب نحوًا من ذلك الإمام الشعراني إلى السادة الصوفية، وأبى أهل الظاهر ذلك كل الإباء، ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من الله تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون، ولايخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم، وأجاب المعتزلة بما ردّه أهل السنة، وأجابوا بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه، والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط الكلام فيهما في علم الكلام، وكذا القول بالنور والظلمة، وقال بعض المحققين: لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلًا جعل شيء مما دونه غداءًا له مأذونًا بذبحه وإيلامه اعتناءًا بمصلحته حسبما تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار. اهـ.

.قال الفخر:

قال بعضهم: قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} مجمل؛ لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلابد من إضمار فعل، وليس إضمار بعض الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة، إلاّ أن قوله تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء ومنافع وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] دل على أن المراد بقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} ألحق به نوعين من الاستثناء: الأول: قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملًا أيضًا، إلاّ أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هده الآية وهو قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ ما ذكيتم وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] ووجه هذا أن قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام} يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبيّن الله تعالى أنها إن كانت ميتة، أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة.
النوع الثاني: من الاستثناء قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ}. اهـ.

.قال الألوسي:

وقال بعض الناس: الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو الكل، وفيه نظر لأن ظهور تقدير الأكل مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان.
نعم ذكر ابن السبكي وغيره أن قوله تعالى: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} مجمل للجهل بمعناه قبل نزول مبينه، ويسري الإجمال إلى ما تقدم، ولكن ذاك ليس محل النزاع، والاستثناء متصل من بهيمة بتقدير مضاف محذوف مما يتلي أي إلا محرم ما يتلى عليكم، وعنى بالمحرم الميتة وما أهل لغير الله به إلى آخر ما ذكر في الآية الثالثة من السورة، أو من فاعل يتلى أي إلا ما يتلى عليكم آية محرمة لتكون ما عبارة عن البهيمة المحرمة لا اللفظ المتلو، وجوز اعتبار التجوز في الإسناد من غير تقدير وليس بالبعيد؛ وأما جعله مفرغًا من الموجب في موقع الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد كما قال الشهاب جدًا؛ وذهب بعضم إلى أنه منقطع بناءًا على الظاهر لأن المتلو لفظ، والمستثنى منه ليس من جنسه؛ والأكثرون على الأول، ومحل المستثنى النصب، وجوز الرفع على ما حقق في النحو. اهـ.
قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ}.

.قال الفخر:

إنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها، فعرفنا أن ما كان منها صيدًا، فإنه حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيدًا فإنه حلال في الحالين جميعًا والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما، يقال: أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم، كما يقال: أجنب فهو مجنب وجنب، ويستوي فيه الواحد والجمع، يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب.
قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فاطهروا} [المائدة: 65].
واعلم أنا إذا قلنا: أحرم الرجل فله معنيان:
الأول: هذا، والثاني: أنه دخل الحرم فقوله: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} يشتمل على الوجهين، فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرمًا بالحج أو العمرة، وهو قول الفقهاء. اهـ.

.قال الألوسي:

{غَيْرَ مُحِلّى الصيد} حال من الضمير في لكم على ما عليه أكثر المفسرين، والصيد يحتمل المصدر والمفعول، وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} حال عما استكن في محل والحرم جمع حرام وهو المحرم، ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الاصطياد، أو أكل الصيد في الإحرام، وفسر الزمخشري عدم إحلال الصيد في حالة الإحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال: كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد وأنتم حرم لئلا يكون عليكم حرج، ولم يحمل الإحلال على اعتقاد الحل ظنًا منه أن تقييد الإحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه، وقد يقال: إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لو كان المراد عدم اعتقاد ناشيء من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبي عنه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار إليه شيخ مشايخنا جرجيس أفندي الإربلي رحمة الله تعالى عليهم.
واعترض في «البحر» على ما ذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم، وهي قد أحلت لهم مطلقًا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره، ودفع بأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانًا لإنعام الله تعالى عليهم بما رخص لهم من ذلك وبيانًا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم.