فصل: من فوائد أبي حيان في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} هذه السورة مدنية، نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، ومنها ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما نزل عام الفتح.
وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة، أو في سفر، أو بمكة، فهو مدني.
وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى: المائدة، والعقود، والمنقذة، والمبعثرة.
ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال، فبين في هذه السورة أحكامًا كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل.
قالوا: وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها، وسنبينها أوّلًا فأوّلًا إن شاء الله تعالى.
وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا لقرآن، فقال: نعم، أعمل مثل بعضه، فاحتجب أيامًا كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلًا عامًا، ثم استثنى استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلاد انتهى.
والظاهر أنّ النداء لأمة الرسول المؤمنين.
وقال ابن جريج: هم أهل الكتاب.
وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد، وهو العهد، قاله: الجمهور، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي.
وقال الزجاج: العقود أوكد من العهود، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني، وتبعه الزمخشري فقال: هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه.
قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم ** شدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا

والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلاميًا أم جاهليًا وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية فقال: «لعلك تسأل عن حلف تيم الله» قال: نعم يا نبي الله.
قال: «لا يزيده الإسلام إلا شدة».
وقال صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان: «ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو ادّعى به في الإسلام لأجبت» وكان هذا الحلف أنّ قريشًا تعاقدوا على أنْ لا يجدوا مظلومًا بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول.
وكان الوليد بن عقبة أميرًا على المدينة، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال: لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي، ثم لأقومن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول.
فقال عبد الله بن الزبير: لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه، أو نموت جميعًا.
وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيميّ فقالا مثل ذلك، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه.
ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمانٍ، ودية، ونكاح، وبيع، وشركة، وهبة، ورهن، وعتق، وتدبير، وتخيير، وتمليك، ومصالحة، ومزارعة، وطلاق، وشراء، وإجارة، وما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة: كحجٍ، وصومٍ، واعتكافٍ، وقيام، ونذر وشبه ذلك.
وقال ابن عباس ومجاهد: هي العهود التي أخذها الله على عباده فيما أحل وحرم، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال: هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف، وأنه كلام قدم مجملًا ثم عقب بالتفصيل.
وقال قتادة: هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، قال: وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدًا في الإسلام» وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما: هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره.
وقال ابن زيد أيضًا، وعبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإيمان، وعقدة النكاح، وعقدة العهد، وعقدة البيع، وعقدة الحلف.
وقيل: هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها، وقال ابن جريج: هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول.
وقال ابن شهاب: قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره:
هذا بيان من الله ورسوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} إلى قوله: {إن الله سريع الحساب} وقيل: العقود هنا الفرائض.
{أحلت لكم بهيمة الأنعام} قيل: هذا تفصيل بعد إجمال.
وقيل: استئناف تشريع بيَّن فيه فساد تحريم لحوم السوائب، والوصائل، والبحائر، والحوام، وأنها حلال لهم.
وبهيمة الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه فهو بمعنى مِن، لأن البهيمة أعم، فأضيفت إلى أخص.
فبهيمة الأنعام هي كلها قاله: قتادة، والضحاك، والسدي، والربيع، والحسن.
وهي الثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى.
وقال ابن قتيبة: هي الإبل، والبقرة، والغنم، والوحوش كلها.
وقال قوم منهم الضحاك والفراء: بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء، وبقر الوحش وحمرة.
وكأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام البهائم، والإضرار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه، وتقدم الكلام في مدلول لفظ الأنعام.
وقال ابن عمر وابن عباس: بهيمة الأنعام هي الأجنة التي تخرج عند ذبح أمّهاتها فتؤكل دون ذكاة، وهذا فيه بعد.
وقيل: بهيمة الأنعام هي التي ترعى من ذوات الأربع، وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد الإبهام فصار له نظر مّا.
{إلا ما يتلى عليكم} هذا استثناء من بهيمة الأنعام والمعنى: إلا ما يتلى عليكم تحريمه من نحو قوله: {حرمت عليكم الميتة} وقال القرطبي: ومعنى يتلى عليكم يقرأ في القرآن والسنة، ومنه {كل ذي ناب من السباع حرام}.
وقال أبو عبد الله الرازي: ظاهر هذا الاستثناء مجمل، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملًا، إلا أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله: {حرمت عليكم} إلى قوله: {وما ذبح على النصب} ووجه هذا أنّ قوله: أحلت لكم بهيمة الأنعام، يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه.
فبيّن تعالى أنها إن كانت ميتة أو مذبوحة على غير اسم الله، أو منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة، أو افترسها السبع فهي محرمة انتهى كلامه.
وموضع ما نصب على الاستثناء، ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة.
قال ابن عطية: وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل، وعلى أن تكون إلا عاطفة، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك: جاء الرجل إلا زيد، كأنك قلت: غير زيد انتهى.
وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة، لأنّ الذي قبله موجب.
فكما لا يجوز: قام القوم إلا زيد على البدل، كذلك لا يجوز البدل في: إلا ما يتلى عليكم.
وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية.
وقوله: وذلك لا يجوز عند البصريين، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف.
وقوله: إلا من نكرة، هذا استثناء مبهم لا يدرى من أي شيء هو.
وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصرى ولا كوفي.
وأما العطف فلا يجيزه بصرى ألبتة، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتًا لما قبله في مثل هذا التركيب.
وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة، أو ما قاربها من أسماء الأجناس، فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم.
ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقاربًا للنكرة من أسماء الأجناس، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف.
{غير محلي الصيد وأنتم حرم} قرأ الجمهور غير بالنصب.
واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال.
ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، واختلفوا في صاحب الحال.
فقال الأخفش: هو ضمير الفاعل في أوفوا.
وقال الجمهور، والزمخشري، وابن عطية وغيرهما: هو الضمير المجرور في أحلّ لكم.
وقال بعضهم: هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به، وهو الله تعالى.
وقال بعضهم: هو ضمير المجرور في عليكم.
ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله: إلا ما يتلى عليكم، هو استثناء من بهيمة الأنعام.
وأنّ قوله: غير محلى الصيد، استثناء آخر منه.
فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام، وفي المستثنى منه والتقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون، بخلاف قوله: {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} على ما يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء.
قال: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذا معناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى.
وقال ابن عطية: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير، وقدروا تقديمات وتأخيرات، وذلك كله غير مرضي، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه.
وهو أيضًا ممن خلط على ما سنوضحه.
فأمّا قول الأخفش: ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية، بل هي منشئة أحكامًا، وذلك لا يجوز.
وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم، وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد، ويصير التقدير: أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم، وهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام أنفسها.
وإنْ أريد به الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى: وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم، وهذا تركيب قلق معقد، ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا.
ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه.