فصل: من فوائد السعدي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما قول: من جعله حالًا من الفاعل.
وقدّره: وأحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم، قال كما تقول: أحلت لك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة، فهو فاسد.
لأنهم نصوا على أنّ الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسيًا منسيًا، ولا يجوز وقوع الحال منه.
لو قلت: أنزل المطر للناس مجيبًا لدعائهم، إذ الأصل أنزل الله المطر مجيبًا لدعائهم لم يجز، وخصوصًا على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلًا كما وضعت صيغته مبنيًا للفاعل، وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها.
وأما ما نقله القرطبي عن البصريين، فإنْ كان النقل صحيحًا فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى، فنقول: إنما عرض الإشكال في الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالًا من المأمورين بإيفاء العقود، أو من المحلل لهم، أو من المحلل وهو الله تعالى، أو من المتلو عليهم.
وغرّهم في ذلك كونه كتب محلي بالياء، وقدّره هم أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة.
وأصله: غير محلين الصيد وأنتم حرم، إلا في قول من جعله حالًا من الفاعل المحذوف، فلا يقدر فيه حذف النون، بل حذف التنوين.
وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله: محلي الصيد، من باب قولهم: حسان النساء.
والمعنى: النساء الحسان، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل.
والمحل صفة للصيد لا للناس، ولا للفاعل المحذوف.
ووصف الصيد بأنه محل على وجهين: أحدهما: أنْ يكون معناه دخل في الحل كما تقول: أحل الرّجل أي: دخل في الحل، وأحرم دخل في الحرم.
والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حل، أي حلالًا بتحليل الله.
وذلك أن الصيد على قسمين: حلال، وحرام.
ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال.
ألا ترى إلى قول بعضهم: إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعًا؟ وقد تجوزت العرب فأطلقت الصيد على ما يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ** ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

وقال آخر:
وقد ذهبت سلمى بعقلك كله ** فهل غير صيد أحرزته حبائله

وقال آخر:
وميّ تصيد قلوب الرّجال ** وأفلت منها ابن عمر وحجر

ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب.
فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم: أحرم الرّجل، وأعرق، وأشأم، وأيمن، وأتهم، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها.
ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم: أعشبت الأرض، وأبقلت، وأغد البعير، وألبنت الشاة، وغيرها، وأجرت الكلبة، وأصرم النخل، وأتلت الناقة، وأحصد الزرع، وأجرب الرّجل، وأنجبت المرأة.
وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلًا باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ، أو صار ذا حل، اتضح كونه استثناء من استثناء، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم.
لأنّ المستثنى من المحلل محرم، والمستثنى من المحرم محلل.
بل إن كان المعنى بقوله: بهيمة الأنعام، الأنعام أنفسها، فيكون استثناء منقطًا.
وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها، فيكون استثناء متصلًا على أحد تفسيري المحل، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين.
(فإن قلت): ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضًا؟ (قلت): الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم، وإن كان حلالًا لغيره، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم.
وعلى هذا التفسير يكون قوله: إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله: حرمت عليكم الميتة الآية، استثناء منقطعًا، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها، فيصير لكنْ ما يتلى عليكم أي: تحريمه فهو محرم.
وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش، فيكون الاستثناءان راجعين إلى المجموع على التفصيل، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول.
وإذا لم يمكن ذلك، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز.
وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك: قام القوم إلا زيدًا، إلا عمرًا، إلا بكرًا (فإن قلت): ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد، لا من صفة الناس، ولا من صفة الفاعل المحذوف، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء، فدل ذلك على أنه من صفات الناس، إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك.
(قلت): لا يعكر على هذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيرًا رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو: باييد بياءين بعد الألف، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف، وبنقصهم منه ألفًا.
وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين، وهذا كثير في الرسم.
وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على {سندع الزبانية} من غير واو اتباعًا للرسم.
على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الازد، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء، فكتب محلي بالياء على الوقف على هذه اللغة، وهذا توجيه شذوذ رسمي، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه.
وقرأ ابن أبي عبلة: غير بالرفع، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله: بهيمة الأنعام، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلًا للموصوف في الجنسية، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء، وخرج أيضًا على الصفة للضمير في يتلى.
قال ابن عطية: لأن غير محلى الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدًا انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلي الصيد وأنتم حرم جملة حالية.
وحرم جمع حرام.
ويقال: أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة، أو بهما، فهو محرم وحرام، وأحرم الرجل دخل في الحرم.
وقال الشاعر:
فقلت لها فيئ إليك فإنني ** حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي: ملب.
ويحتمل الوجهين قوله: وأنتم حرم، إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة، وهو قول الفقهاء.
وقال الزمخشري: وأنتم حرم، حال عن محل الصيد كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى.
وقد بينا فساد هذا القول، بأنّ الأنعام مباحة مطلقًا لا بالتقييد بهذه الحال.
{إن الله يحكم ما يريد} قال ابن عباس: يحل ويحرم.
وقيل: يحكم فيما خلق بما يريد على الإطلاق وهذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الأنعام، والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقًا في الحل والحرم إلا في اضطرار، واستثناء الصيد في حالة الإحرام، وتضمن ذلك حله لغير المحرم، فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله: إن الله يحكم ما يريد.
فموجب الحكم والتكليف هو إرادته لا اعتراض عليه، ولا معقب لحكمه، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاة المصالح.
ولذلك قال الزمخشري: إنّ الله يحكم ما يريد من الأحكام، ويعلم أنه حكمة ومصلحة.
وقال ابن عطية: وقد نبه على ما تضمنته هذه الآية من الأحكام ما نصه هذه الآية مما يلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام، ولمن عنده أدنى بصيرة.
ثم ذكر ابن عطية الحكاية التي قدمناها عن الكندي وأصحابه، وفي مثل هذا أقول من قصيدة مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معارضًا لقصيدة كعب منه في وصف كتاب الله تعالى:
جار على منهج الأعراب أعجزهم ** باق مدى الدهر لا يأتيه تبديل

بلاغة عندها كعّ البليغ فلم ** ينبس وفي هديه طاحت أضاليل

. اهـ.

.من فوائد السعدي في الآية:

قال رحمه الله:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}.
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم.
والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} بالتناصر على الحق، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع.
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها.
ثم قال ممتنا على عباده: {أُحِلَّتْ لَكُمْ} أي: لأجلكم، رحمة بكم {بَهِيمَةُ الأنْعَامِ} من الإبل والبقر والغنم، بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها، والظباء وحمر الوحش، ونحوها من الصيود.
واستدل بعض الصحابة بهذه الآية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح.
{إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} تحريمه منها في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ} إلى آخر الآية. فإن هذه المذكورات وإن كانت من بهيمة الأنعام فإنها محرمة.
ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال والأوقات، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم، أي: متجرئون على قتله في حال الإحرام، وفي الحرم، فإن ذلك لا يحل لكم إذا كان صيدا، كالظباء ونحوه.
والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش.
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} أي: فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا لحكمته، كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم.
وأحل لكم بهيمة الأنعام رحمة بكم، وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض، من الميتة ونحوها، صونا لكم واحتراما، ومن صيد الإحرام احتراما للإحرام وإعظاما. اهـ.