فصل: من فوائد ابن العربي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَهُوَ عُمُومٌ فِي إيجَابِ الْوَفَاءِ بِجَمِيعِ مَا يَشْرِطُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةً تُخَصِّصُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ يَمِينًا أَوْ نَذْرًا أَوْ شَرْطًا لِغَيْرِهِ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ وَيَكُونُ عَقْدُهُ لِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ مَا شَرَطَهُ وَأَوْجَبَهُ؟ قِيلَ لَهُ: أَمَّا النُّذُورُ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: مِنْهَا نَذْرُ قُرْبَةٍ، فَيَصِيرُ وَاجِبًا بِنَذْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِعْلُهُ قُرْبَةً غَيْرَ وَاجِبٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ} وقَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ نَفْسَهُ؛ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: «أَوْفِ بِنَذْرِك» حِينَ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»؛ فَهَذَا حُكْمُ مَا كَانَ قُرْبَةً مِنْ الْمَنْذُورِ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ بِعَيْنِهِ وَقِسْمٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا كَانَ مُبَاحًا غَيْرَ قُرْبَةٍ، فَمَتَى نَذَرَهُ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا وَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ، مِثْلُ قَوْلِهِ: «لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَ زَيْدًا وَأَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ وَأَمْشِيَ إلَى السُّوقِ» فَهَذِهِ أُمُورٌ مُبَاحَةٌ لَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرَبِ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِالْإِيجَابِ، كَمَا أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ؛ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: «لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا أَوْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَغْصِبَ فُلَانًا مَالَهُ» فَهَذِهِ أُمُورٌ هِيَ مَعَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ النَّذْرِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحَظْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي إيجَابِ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مِنْ الْمُبَاحَاتِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بِالنَّذْرِ، كَمَا أَنَّ مَا كَانَ مَحْظُورًا لَا يَصِيرُ مُبَاحًا وَلَا وَاجِبًا بِالنَّذْرِ، وَتَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا أَرَادَ يَمِينًا وَحَنِثَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَالنَّذْرُ يَنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْأَنْحَاءِ.
وَأَمَّا الْأَيْمَانُ فَإِنَّهَا تُعْقَدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ قُرْبَةٍ أَوْ مُبَاحٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، فَإِذَا عَقَدَهَا عَلَى قُرْبَةٍ لَمْ تَصِرْ وَاجِبَةً بِالْيَمِينِ، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ وَحَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «بَلَغَنِي أَنَّك قُلْت وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ الدَّهْرَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَقَالَ: إنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ إلَى أَنْ رَدَّهُ إلَى أَنْ يَصُومَ يَوْمًا وَيُفْطِرَ يَوْمًا، فَلَمْ يَلْزَمْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ بِالْيَمِينِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ لَا يُلْزَمُ بِهَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: «وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ غَدًا» ثُمَّ لَمْ يَصُمْهُ: فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَالْقِسْمُ الْآخَرُ مِنْ الْأَيْمَانِ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مُبَاحٍ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُ الْقُرْبَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ حَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»، وَقَالَ: «إنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا فَعَلْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}، رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لَمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْخَوْضِ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرُّجُوعِ إلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} قِيلَ فِي الْأَنْعَامِ إنَّهَا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِطْلَاقُ يَتَنَاوَلُ الْإِبِلَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً، وَيَتَنَاوَلُ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ إذَا كَانَتْ مَعَ الْإِبِلِ، وَلَا تَتَنَاوَلُهُمَا مُنْفَرِدَةً عَنْ الْإِبِلِ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
وَقِيلَ: إنَّ الْأَنْعَامَ تَقَعُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَعَلَى الظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الْحَافِرُ؛ لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ نُعُومَةِ الْوَطْءِ؛ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ اسْتِثْنَاؤُهُ الصَّيْدَ مِنْهَا بِقَوْلِهِ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَافِرَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْأَنْعَامِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} فَلَمَّا اسْتَأْنَفَ ذَكَرَهَا وَعَطَفَهَا عَلَى الْأَنْعَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي جَنِينِ الْبَقَرَةِ: «إنَّهَا بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ» وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ مِنْ الْأَنْعَامِ.
وَإِنَّمَا قال: {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْعَامُ كُلُّهَا مِنْ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: «أَحَلَّ لَكُمْ الْبَهِيمَةَ الَّتِي هِيَ الْأَنْعَامُ» فَأَضَافَ الْبَهِيمَةَ إلَى الْأَنْعَامِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ، كَمَا تَقُولُ نَفْسُ الْإِنْسَانِ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ مَعْقُودَةٌ بِشَرْطِ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْوَفَاءَ بِالْعُقُودِ شَرْطًا لِلْإِبَاحَةِ وَلَا أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمُجَازَاةِ، وَلَكِنَّهُ وَجَّهَ الْخِطَابَ إلَيْنَا بِلَفْظِ الْإِيمَانِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ الِاقْتِصَارَ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، بَلْ الْإِبَاحَةُ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ كُفَّارًا كَانُوا أَوْ مُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وَهُوَ حُكْمٌ عَامٌّ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ خَاصًّا بِخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُبَاحٌ لِسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا أَوْجَبَهُ وَفَرَضَهُ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا أَنْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ دَلِيلٌ؛ وَكَذَلِكَ قُلْنَا: إنَّ الْكُفَّارَ مُسْتَحَقُّونَ لِلْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الشَّرَائِعِ كَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ ذَبْحُ الْبَهَائِمِ مَحْظُورًا إلَّا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ بِهِ، فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِبَاحَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ فَحُكْمُهُ فِي حَظْرِهِ عَلَيْهِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ إنَّ ذَبْحَ الْبَهَائِمِ مَحْظُورٌ عَلَى الْكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ عُصَاةٌ فِي ذَبْحِهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْلُ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مُبَاحًا لَنَا.
وَزَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ لِلْمُلْحِدِ أَنْ يَأْكُلَ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَيس لَهُ أَنْ يَذْبَحَ.
وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ سَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ عُصَاةً بِذَبْحِهِمْ لِأَجْلِ دِيَانَاتِهِمْ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ ذَبَائِحُهُمْ غَيْرَ مُذَكَّاةٍ، مِثْلُ الْمَجُوسِيِّ لَمَّا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّبْحِ لِأَجْلِ اعْتِقَادِهِ لَمْ يَكُنْ ذَبْحُهُ ذَكَاةً، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابِيَّ غَيْرُ عَاصٍ فِي ذَبْحِ الْبَهَائِمِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ كَهُوَ لَنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «إنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ صِحَّةَ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِبَاحَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ فَحُكْمُ حَظْرِ الذَّبْحِ قَائِمٌ عَلَيْهِ» فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ السَّمْعِ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي إبَاحَةِ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ ذَكَاتِهِ؛ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ عَامِدًا لَكَانَ عِنْدَنَا عَاصِيًا بِذَلِكَ، وَكَانَ لِمَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا أَنْ يَأْكُلَهَا، وَلَمْ يَكُنْ كَوْنُ الذَّابِحِ عَاصِيًا مَانِعًا صِحَّةَ ذَكَاتِهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: «يَعْنِي قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيِّتَةُ وَالدَّمُ وَسَائِرُ مَا حُرِّمَ فِي الْقُرْآنِ».
وَقَالَ آخَرُونَ: «إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ».
فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي نَسَقِ هَذَا الْخِطَابِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} مِمَّا قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ، عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُجْمَلًا؛ لِأَنَّ مَا قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ هُوَ مَعْلُومٌ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} عُمُومًا فِي إبَاحَةِ جَمِيعِهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الْآيُ الَّتِي فِيهَا تَحْرِيمُ مَا حُرِّمَ مِنْهَا، وَجَعَلَ هَذِهِ الْإِبَاحَةَ مُرَتَّبَةً عَلَى آيِ الْحَظْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: إلَّا مَا يَبِينُ حُرْمَتُهُ؛ فَيَكُونُ مُؤْذِنًا بِتَحْرِيمِ بَعْضِهَا عَلَيْنَا فِي وَقْتٍ ثَانٍ، فَلَا يَسْلُبُ ذَلِكَ الْآيَةَ حُكْمَ الْعُمُومِ أَيْضًا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ بَعْضَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ الْآنَ تَحْرِيمًا يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي، فَهَذَا يُوجِبُ إجْمَالَ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} لِاسْتِثْنَائِهِ بَعْضَهَا، فَهُوَ مَجْهُولُ الْمَعْنَى عِنْدَنَا، فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَمِلًا عَلَى إبَاحَةٍ وَحَظْرٍ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ.
وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِنَا إذَا كَانَ فِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ الْإِجْمَالِ وَالْعُمُومِ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ، فَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا ذُكِرَ تَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يَقْتَضِي تِلَاوَةً مُسْتَقْبَلَةً لَا تِلَاوَةً مَاضِيَةً، وَمَا قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ تُلِيَ عَلَيْنَا فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى تِلَاوَةٍ تَرِدُ فِي الثَّانِي قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا قَدْ تُلِيَ عَلَيْنَا وَيُتْلَى فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى حَالٍ مَاضِيَةٍ دُونَ مُسْتَقْبَلَةٍ، بَلْ عَلَيْنَا تِلَاوَتُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا تَلَوْنَاهُ فِي الْمَاضِي، فَتِلَاوَةُ مَا قَدْ نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ مُمْكِنَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَتَكُونُ حِينَئِذٍ فَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ إبَانَةً عَنْ بَقَاءِ حُكْمِ الْمُحَرَّمَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَلَوْ أُطْلِقَ اللَّفْظُ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ مَعَ تَقَدُّمِ نُزُولِ تَحْرِيمِ كَثِيرٍ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَسْخَ التَّحْرِيمِ وَإِبَاحَةَ الْجَمِيعِ مِنْهَا.
قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى مَعْنَى: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ؛ فَيَكُونُ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} هُوَ الصَّيْدُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى الْمُحْرِمِينَ.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: {غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَيَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، وَهُوَ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ؛ وَذَلِكَ تَعَسُّفٌ فِي التَّأْوِيلِ.
وَيُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ إبَاحَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مَقْصُورًا عَلَى الصَّيْدِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَيْتَةَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْإِبَاحَةِ؛ فَهَذَا تَأْوِيلٌ لَا وَجْهَ لَهُ.
ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ؛ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِإِبَاحَةِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْمَحْظُورِ؛ إذْ كَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} سِوَى الصَّيْدِ مِمَّا قَدْ بُيِّنَ وَسَيُبَيِّنُ تَحْرِيمَهُ فِي الثَّانِي، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}.
فِيهَا عِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: قَالَ عَلْقَمَةُ: إذَا سَمِعْت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَإِذَا سَمِعْت: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فَهِيَ مَكِّيَّةٌ؛ وَهَذَا رُبَّمَا خَرَجَ عَلَى الْأَكْثَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَبُو سَلَمَةَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ لِعَلِيٍّ: يَا عَلِيُّ، أَشَعَرْت أَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ».
قَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي: هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ، أَمَّا أَنَّا نَقُولُ: سُورَةُ الْمَائِدَةِ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ فَلَا نُؤْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: فِي الْمَائِدَةِ ثَمَانِي عَشَرَةَ فَرِيضَةً.
وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فِي سِتَّةَ عَشَرَ مَوْضِعًا؛ فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ: إنَّ فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ فَرِيضَةً فَرُبَّمَا كَانَ أَلْفُ فَرِيضَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا نَحْنُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ لِلْأَحْكَامِ.