فصل: من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ تَضَمُّنِ اسْمِ النَّعَمِ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ: الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ لِتَأْنِيسِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَأَمَّا الْوَحْشِيَّةُ فَلَمْ أَعْلَمْهُ إلَى الْآنَ إلَّا اتِّبَاعًا لِأَهْلِ اللُّغَةِ.
أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يَقْتَضِي دُخُولَ الْبَقَرِ وَالْحُمُرِ وَالظِّبَاءِ تَحْتَ قَوْلِهِ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ؛ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إنْسِيُّهَا وَوَحْشِيُّهَا غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أَيْ مَا لَمْ تَكُونُوا مُحْرِمِينَ.
فَإِنْ كَانَ هَذَا مُتَعَلِّقًا فَقَدْ قَالَ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ}.
فَجَعَلَ الصَّيْدَ وَالنَّعَمَ صِنْفَيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ الظِّبَاءَ وَالْبَقَرَ وَالْحُمُرَ الْوَحْشِيَّةَ فِيهِ لِيَعُمَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الْإِحْلَالِ مَاذَا يَصْنَعُ بِصِنْفِ الصَّيْدِ الطَّائِرِ كُلِّهِ؟ فَالدَّلِيلُ الَّذِي أَحَلَّهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحِلُّ الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ.
وَقَدْ يَنْتَهِي الْعِيُّ بِبَعْضِهِمْ إلَى أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الْإِبِلُ لِنِعْمَةِ أَخْفَافِهَا فِي الْوَطْءِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَافِرُ وَلَا الظِّلْفُ لِجَسَاوَتِهِ وَتَحَدُّدِهِ.
وَيُقَالُ لَهُ: إنَّ الْأَنْعَامَ إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهِ لِمَا يُتَنَعَّمُ بِهِ مِنْ لُحُومِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ.
وَبِهَذِهِ الْآيَةِ كَانَ يَدْخُلُ صِنْفُ الْوَحْشِيِّ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ أَشْعَارٍ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهِ حِسًّا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ مِنْهَا عُرْفًا.
فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّفْظَ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظُ فِي النَّحْلِ وَيَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْأَلْفَاظَ تُحْمَلُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُعْتَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا؛ إذْ لَا يُعْتَادُ ذَلِكَ مِنْ أَوْبَارِهَا.
وَهَا هُنَا انْتَهَى تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: قَالُوا: مِنْ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وَقِيلَ مِنْ قَوْلِهِ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}.
وَاَلَّذِي يُتْلَى هُوَ الْقُرْآنُ، لَيْسَ السُّنَّةَ.
قُلْنَا: كُلُّ كِتَابٍ يُتْلَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} وَكُلُّ سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُك وَجَارِيَتُك فَرَدٌّ عَلَيْك، وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ».
وَلَيْسَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إلَى رَسُولِهِ عِلْمًا مِنْ كِتَابِهِ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، وَالْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ».
فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك لَعَنْت كَيْتَ وَكَيْتَ.
فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَلَيْسَ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ.
فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ.
أَوَمَا قَرَأْتِ: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ قَالَتْ: بَلَى.
قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ.
قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَى أَهْلَك يَفْعَلُونَهُ.
قَالَ: فَاذْهَبِي فَانْظُرِي، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا.
فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: يُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ الْآنَ، أَوْ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتٍ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى تَعْجِيلِ الْحَاجَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَحْصُولِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لَنَا شَيْئًا وَحَرَّمَ عَلَيْنَا شَيْئًا اسْتِثْنَاءً مِنْهُ.
فَأَمَّا الَّذِي أَبَاحَ لَنَا فَسَمَّاهُ وَبَيَّنَهُ.
وَأَمَّا الَّذِي اسْتَثْنَاهُ فَوَعَدَ بِذِكْرِهِ فِي حِينِ الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَأْخِيرٌ لِلْبَيَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ.
الثَّانِي: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْوَحْشِيَّةِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
الثَّالِثُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا فَإِنَّهُ صَيْدٌ لَا يَحِلُّ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي تَنْقِيحِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ مَعْنَاهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْأَخْفَشُ، وَقَالَا: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي نِظَامِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا كَانَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ حَالٌ؛ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لَا مُحِلِّينَ لِلصَّيْدِ فِي إحْرَامِكُمْ».
وَنَكْثُ الْعَهْدِ وَنَقْضُ الْعَقْدِ مُحَرَّمٌ، وَالْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ مُسْتَمِرٌّ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي كُلِّ حَالٍ.
وَلَوْ اخْتَصَّ الْوَفَاءَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ لَكَانَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافٍ عَلَى رَأْيِ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ.
وَذَلِكَ بَاطِلٌ أَوْ يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَقَلَّ مِنْ أَحْوَالِ الْوَفَاءِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا تَهْجِينٌ لِلْكَلَامِ وَتَحْقِيرٌ لِلْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أُحِلَّتْ لَكُمْ الْوَحْشِيَّةُ، فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْمُحَلَّلَاتِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لاسيما عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَمْلٌ لِلَفْظِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عَلَى الْوَحْشِيَّةِ دُونَ الْإِنْسِيَّةِ، وَذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلَّفْظِ بِالْمَعْنَى التَّابِعِ لِمَعَانِيهِ الْمُخْتَلَفِ مِنْهَا فِيهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا فَإِنَّهُ صَيْدٌ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ الصَّيْدُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
وَهَذَا أَشْبَهُهَا مَعْنًى، إلَّا أَنَّ نِظَامَ تَقْدِيرِهِ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى قَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ أَضْمَرَ فِيهِ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ تَقْدِيرُهُ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، غَيْرَ مُحِلِّينَ صَيْدَهَا وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى، وَيَقِلُّ فُضُولُ الْكَلَامِ، وَيَجْرِي عَلَى قَانُونِ النَّحْوِ.
وَفِيهَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ؛ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ، تَثْنِيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ: وَهِيَ تَثْنِيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ تَرِدُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَكَرَّرَ، وَيَكُونَ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ}.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعًا مِنْ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا: إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ، فَقَوْلُهُ: {إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأَظْهَرْهُمَا، وَقَوْلُهُ: إلَّا الصَّيْدَ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ أَيْضًا مَعَهُ.
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: فِي تَمْثِيلٍ لِهَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ الْحَارِثَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَنَا حِلٌّ عَلَى فَرَسٍ لِي، فَكُنْت أَرْقَى عَلَى الْجِبَالِ، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إذْ رَأَيْت النَّاسَ مُشْرِفِينَ لِشَيْءٍ، فَذَهَبْت لِأَنْظُرَ، فَإِذَا هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ، فَقُلْت لَهُمْ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: لَا نَدْرِي.
فَقُلْت: هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ.
قَالُوا: هُوَ مَا رَأَيْت.
وَكُنْت نَسِيت سَوْطِي.
فَقُلْت لَهُمْ: نَاوِلُونِي سَوْطِي.
فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ، فَنَزَلْت وَأَخَذْته ثُمَّ صِرْت فِي أَثَرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إلَّا ذَاكَ حَتَّى عَقَرْته؛ فَأَتَيْت إلَيْهِمْ فَقُلْت: قُومُوا فَاحْتَمِلُوا.
فَقَالُوا: لَا نَمَسُّهُ، فَحَمَلْته حَتَّى جِئْتُهُمْ بِهِ، فَأَبَى بَعْضُهُمْ، وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ.
قُلْت: أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكْته، فَحَدَّثْته الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِي: أَبَقِيَ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ قُلْت: نَعَمْ.
قَالَ: فَكُلُوا فَهُوَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ»
.
فَأُحِلَّ لَهُمْ الْحُمُرُ مُطْلَقًا إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إلَّا مَا صَادُوهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ مِنْهَا؛ وَمَا صَادَهُ غَيْرُهُمْ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ، فَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ مَا وَقَعَ إلَيْهِمْ بِصَيْدِهِمْ، إلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ إذَا صِيدَ لَهُمْ، فَإِنْ حُرِّمَ فَإِنَّمَا هُوَ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: مَضَى فِي سَرْدِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ قَالَ فِي جَنِينِ النَّاقَةِ أَوْ الشَّاةِ أَوْ الْبَقَرَةِ أَوْ نَحْوِهَا: إنَّهَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الْمُحَلَّلَةِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَلَالٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ، إلَّا أَنْ يُذَكَّى؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَقَلَّ وَنَبَتَ شَعْرُهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِضْعَةً كَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ؛ قَالَ مَالِكٌ.
وَتَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ».
وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَاخْتَلَفُوا فِي ذِكْرِ «ذَكَاةِ» الثَّانِيَةِ، هَلْ هِيَ بِرَفْعِ التَّاءِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ وَلَا يَفْتَقِرُ الْجَنِينُ إلَى ذَكَاةٍ، أَوْ هُوَ بِنَصْبِ التَّاءِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ غَيْرَ الثَّانِي، وَيَفْتَقِرُ إلَى الذَّكَاةِ.
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ، وَبَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ «أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَنِينِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، أَمْ يُعْتَبَرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ» الْحَقَّ فِيهَا، وَأَنَّهُ فِي مَذْهَبِنَا بِاعْتِبَارِ ذَكَاةِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَنُشِيرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
سُورَةُ الْمَائِدَةِ:
(وهي السُّورَةُ الْخَامِسَةُ، وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَيْهِ فِلُوجِلْ؟؟؟؟؟ وَمِائَةٌ وَثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ، وَمِائَةٌ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ؛ فَالْخِلَافُ فِيهَا عَلَى فَاصِلَتَيْنِ فَقَطْ).
هِيَ مَدَنِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَوْ فِي مَكَّةَ، وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (5: 3) إِلَخْ. نَزَلَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ غَدِيرِ خَمٍّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَامِنِ عَشَرِ ذِي الْحِجَّةِ مَرْجِعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ أَنَّ أَوَّلَ الْمَائِدَةِ نَزَلَ بِمِنًى، أَيْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَرَوَى عَنْ عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.