فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قال صاحب الكشاف {جَرَمَ} يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد، وتارة إلى اثنين، تقول: جرم ذنبًا نحو كسبه، وجرمته ذنبًا نحو كسبته إياه، ويقال: أجرمته ذنبًا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنبًا، وعليه قراءة عبد الله {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} بضم الياء، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين.
والثاني: أن تعتدوا، والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه. اهـ.

.قال الفخر:

الشنآن البغض، يقال: شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ.
ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها، ويقال: رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان، ويقال شنآن بغير صرف، وفعلان قد جاء وصفًا وقد جاء مصدرًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ}.
عطف على قوله: {لا تحِلّوا شعائر الله} لِزيادة تقرير مضمونه، أي لا تحلّوا شعائر الله ولو مع عدوّكم إذا لم يبدأوكم بحرب.
ومعنى {يجر منّكم} يكسبنّكم، يقال: جرَمه يجرمه، مثل ضَرب.
وأصله كسب، من جرم النخلة إذا جذّ عراجينها، فلمّا كان الجرم لأجل الكسب شاع إطلاق جرَم بمعنى كسب، قالوا: جَرم فلان لنفسه كذا، أي كسب.
وعدّي إلى مفعول ثان وهو {أن تعتدوا}، والتقدير: يكسبكم الشنآن الاعتداء.
وأمّا تعديته بعلى في قوله: {ولا يجرمنّكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا} [المائدة: 8] فلتضمينه معنى يحملنّكم.
والشنآن بفتح الشين المعجمة وفتح النون في الأكثر، وقد تسكّن النون إمَّا أصالة وإمَّا تخفيفًا هو البغض.
وقيل: شدّة البغض، وهو المناسب، لعطفه على البغضاء في قول الأحوص:
أنمِي على البغضاء والشنآن

وهو من المصادر الدالّة على الاضطراب والتقلّب، لأنّ الشنآن فيه اضطراب النفس، فهو مثل الغَليان والنزَوان.
وقرأ الجمهور: {شَنَئان} بفتح النون.
وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر بسكون النون.
وقد قيل: إنّ ساكن النون وصف مثل غضبان، أي عدوّ، فالمعنى: لا يجرمنّكم عدوّ قوم، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف.
وإضافة شنآن إذا كان مصدرًا من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي بُغضكم قومًا، بقرينة قوله: {أنْ صدّوكم}، لأنّ المبغض في الغالب هو المعتدى عليه.
وقرأ الجمهور: {أن صدّوكم} بفتح همزة (أنْ).
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بكسر الهمزة على أنَّها (إن) الشرطية، فجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبل الشرط.
والمسجدُ الحرام اسم جعل علَمًا بالغلبة على المكان المحيط بالكعبة المحصور ذي الأبواب، وهو اسم إسلاميّ لم يكن يُدعى بذلك في الجاهليّة، لأنّ المسجد مكان السجود ولم يَكن لأهل الجاهليّة سجود عند الكعبة، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} في سورة البقرة (144)، وسيأتي عند قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبْده ليلًا من المسجد الحرام} [الإسراء: 1].
{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
تعليل للنهي الذي في قوله: {ولا يَجْرَمنَّكم شَنئان قوم}.
وكان مقتضى الظاهر أن تكون الجملة مفصولة، ولكنَّها عُطفت: ترجيحًا لما تضمَّنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل، يعني: أنّ واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البرّ والتقوى، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم، كان الشأن أن يُعينوا على البرّ والتقوى، لأنّ التعاون عليها يكسب محبّة تحصيلها، فيصير تحصيلها رغبة لهم، فلا جرم أن يعينوا عليها كلّ ساع إليها، ولو كان عدوًّا، والحجّ بِرّ فأعينوا عليه وعلى التقوى، فهم وإن كانوا كفّارًا يُعاونُون على ما هو برّ: لأنّ البرّ يَهدي للتقوى، فلعلّ تكرّر فعله يقرّبهم من الإسلام.
ولمَّا كان الاعتداء على العدوّ إنَّما يكون بتعاونهم عليه نبّهوا على أنّ التعاون لا ينبغي أن يكون صدًّا عن المسجد الحرام، وقد أشرنا إلى ذلك آنفًا؛ فالضمير والمفاعلة في {تعاونوا} للمسلمين، أي ليعن بعضكم بعضًا على البرّ والتقوى.
وفائدة التعاون تيسير العمل، وتوفير المصالح، وإظهار الاتّحاد والتناصر، حتّى يصبح ذلك خلقًا للأمّة.
وهذا قبل نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28].
وقوله: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} تأكيد لمضمون {وتعاونوا على البرّ والتقوى} لأنّ الأمر بالشيء، وإن كان يتضمّن النهي عن ضدّه، فالاهتمام بحكم الضدّ يقتضي النهي عنه بخصوصه.
والمقصود أنّه يجب أن يصدّ بعضكم بعضًا عن ظلم قوم لكُم نحوَهم شنآن. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى، والباقون بالفتح.
قالوا: والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان، وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفًا.
قال الواحدي: ومما جاء مصدرًا قولهم: لويته حقه ليانا، وشنان في قول أبي عبيدة.
وأنشد للأحوص.
وإن عاب فيه ذو الشنان وفندا.. فقوله: ذو الشنان على التخفيف كقولهم: إني ظمان، وفلان ظمان، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها. اهـ.
قال الفخر:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {إن صَدُّوكُمْ} بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف، يعني لأن صدوكم.
قال محمد بن جرير الطبري: وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، وهذه السورة نزلت بعد الحديبية، وكان هذا الصد متقدمًا لا محالة على نزول هذه الآية. اهـ.

.قال ابن عطية:

أمر الله تعالى الجميع بالتعاون {على البر والتقوى} قال قوم: هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيدًا ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان}
قال القتبي: العدوان على وجهين:
عدوان في السبيل كقوله: {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين} [البقرة: 193] وكقوله: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] والثاني عدوان في الظلم كقوله: {يا أيها الذين ءامنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة: 9] وكقوله: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ} [سورة المائدة: 2] يعني به حجاج أهل اليمامة، وصارت الآية عامة في جميع الناس. اهـ.

.قال تقي الدين ابن تيمية:

ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم فإن التعاون نوعان:
الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين فهذا مما أمر الله به ورسوله ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية متوهما أنه متورع وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وإمساك.
والثاني: تعاون على الإثم والعدوان كالإعانة على دم معصوم أو أخذ مال معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك فهذا الذي حرمه لله ورسوله.
نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق وقد تعذر ردها إلى أصحابها ككثير من الأموال السلطانية فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك من الإعانة على البر والتقوى إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال- إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم- أن يصرفها- مع التوية إن كان هو الظالم- إلى مصالح المسلمين هذا هو قول جمهور العلماء كمالك وأبو حنيفة وأحمد وهو منقول عن غير واحد من الصحابة وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية كما هو منصوص في موضع آخر.
وإن كان غيره قد أخذها فعليه هو أن يفعل بها ذلك وكذلك لو امتنع السلطان من ردها كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وهي مبينة لقوله: {اتقوا الله حق تقاته} وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم أخرجاه في الصحيحين.
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتبطيل المفاسد وتقليلها فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها هو المشروع والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه أو على المظلمة فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم مثال ذلك ولي اليتيم والوقف إذا طلب ظالم منه مالا فاجتهد في دفع ذلك- بمال أقل منه إليه- أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع فهو محسن وما على المحسنين من سبيل.
وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم لا يتوكل للظالمين في الأخذ.
كذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ولا ارتشاء توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء كان محسنا.
لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد وآخذا ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذي يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم ثم يقذفون في النار. اهـ.