فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان، يدعو الله الذين آمنوا به، وتعاقدوا معه، أن يفوا بعقدهم؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم... دور القوامة على البشرية؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية، والعواطف الذاتية، والملابسات العارضة في الحياة.. يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية؛ وقبله كذلك؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحًا وندوبًا من هذا الصد؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض. فهذا كله شيء؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر. شيء يناسب دورها العظيم:
{ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب}.
إنها قمة في ضبط النفس؛ وفي سماحة القلب.. ولكنها هي القمة التي لابد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء.
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس.. التبعة التي لابد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجًا من السلوك الذي يحققه الإسلام، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام. وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه.
وهو تكليف ضخم؛ ولكنه- في صورته هذه- لا يعنت النفس البشرية، ولا يحملها فوق طاقتها. فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب، ومن حقها أن تكره. ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن.. ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى؛ لا في الإثم والعدوان؛ ويخوفها عقاب الله، ويأمرها بتقواه، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط، وعلى التسامي والتسامح، تقوى لله، وطلبًا لرضاه.
ولقد استطاعت التربية الإسلامية، بالمنهج الرباني، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية، والاعتياد لهذا السلوك الكريم.. وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه.. كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور: «أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا».. كانت حمية الجاهلية، ونعرة العصبية. كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى؛ وكان الحلف على النصرة، في الباطل قبل الحق. وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق. وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله.. يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا».. وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى، وهو يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت، وإن ترشد غزية أرشد!

ثم جاء الإسلام.. جاء المنهج الرباني للتربية.. جاء ليقول للذين آمنوا:
{ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب}.
جاء ليربط القلوب بالله؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله. جاء ليخرج العرب- ويخرج البشرية كلها- من حمية الجاهلية، ونعرة العصبية، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء.
وولد «الإنسان» من جديد في الجزيرة العربية.. ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله.. وكان هذا هو المولد الجديد للعرب؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض.. ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا».
كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء!
والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية، وأفق الإسلام؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا». وقول الله العظيم: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.
وشتان شتان!. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}.
الشعائر معالم الدِّين، وتعظيم ذلك وإجلاله خلاصة الدين، ولا يكون ذلك إلا بالاستسلام عند هجوم التقدير، والتزام الأمر بجميل الاعتناق، وإخلال الشعائر (يكون) بالإخلال بالأوامر.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلاَ الهَدْىَ وَلاَ القَلاَئِدَ}.
تعظيم المكان الذي عظَّمه الله، وإكرامُ الزمان الذي أكرمه الله. وتشريف الإعلام على ما أمر به الله- هو المطلوب من العبيد أمرًا، والمحبوب منه حالًا.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}.
وبالحريِّ لمن يقصد البيت ألا يخالف ربَّ البيت.
والابتغاء للفضل والرضوان بتوقِّي موجبات السخط، ومجانبة العصيان.
قوله جلّ ذكره: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا}.
وإذا خرجتم عن أمر حقوقنا فارجعوا إلى استجلاب حظوظكم، فأمّا ما دمتم تحت قهر بطشنا فلا نصيب لكم منكم، وإنكم لنا.
قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ...} أي لا يحملكم بغضُ قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام على ألا تجاوزوا حدَّ الإذن في الانتقام، أي كوّنوا قائمين بنا، متجردين عن كل نصيب وحَظٍّ لكم.
قوله جلّ ذكره: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى}.
البِرُّ فِعْلُ ما أُمِرْتَ به، والتقوى تَرْكُ ما زُجِرتَ عنه.
ويقال البِرُّ إيثار حقه- سبحانه، والتقوى تركُ حظِّك.
ويقال البِرُّ موافقة الشرع، والتقوى مخالفةُ النَّفْس.
ويقال المعاونة على البِرِّ بحُسْنِ النصيحة وجميل الإشارة للمؤمنين، والمعاونة على التقوى بالقبض على أيدي الخطائين بما يقتضيه الحال من جميل الوعظ وبليغ الزجر، وتمام المنع على ما يقتضيه شرط العلم.
والمعاونة على الإثم والعدوان بأن تعمل شيئًا مما يقتدى بك لا يرضاه الدِّين، فيكون قولُك الذي تفعله ويقتدى بك (فيه) سُنَّةً تظهرها و(عليك) نبُوُّ وِزْرِها. وكذلك المعاونة على البر والتقوى أي الاتصاف بجميل الخِصال على الوجه الذي يُقْتدَى بكل فيه.
قوله جلّ ذكره: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ}.
العقوبة ما تعقب الجُرْم بما يسوء صاحبه. وأشد العقوبة حجاب المُعَاقَبِ عن شهود المُعَاقِب؛ فإنَّ تَجرُّعَ كاساتِ البلاء بشهود المُبْلِي أحلى من العسل والشهد. اهـ.

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا} وفى سورة الفتح: {يبتغون فضلا من الله ورضوانا} وكذا في سورة الحشر فيسأل عن موجب اختصاص سورة المائدة بما ورد فيها من إضافة اسم الرب تعالى إليهم بخلاف السورتين.
والجواب والله أعلم أن آية المائدة مبنية على تأنيس وتقريب واستلطاف وقد أحرز قوله: {من ربهم} هذه المعانى الثلاثة حسبما يتبين بعد.
ومن التأنيس أيضا افتتاح خطاب من قصد بها بقوله: {يأيها الذين آمنوا} مع انهم نهوا عن عدة منهيات والنهى مما يثير الخوف لمن قصد بالنهى، ثم يحكمه ويقويه ما وصف به آم البيت الحرام من ابتغاء الفضل والرضوان إلى ما تعضيده إضافة التخصيص في قوله: {من ربهم} إذ لا يحصل ذلك من أن لو قيل: يبتغون فضلا من الله عوض قوله: {من ربهم} وإذاية من خص بتقريب ليست كإذاية من ليس كذلك، والمعصية قد تكون واحدة ثم تعظم بإيقاعها على صفة ما، وتأمل ما ورد في الزنا بحليلة الجار والزنا كله كبيرة ولكن وقوعه بحليلة الجار زيادة وذلك لحرمته، وكذلك ما عظم الشرع من الإلحاد في البيت الحرام والإلحاد كله كفر ولكن في وقوعه في البيت الحرام زيادة، وتأمل هذا في الكتاب العزيز وفى صحيح الأخبار تجد ذلك كثيرا، كما أن هذه الإضافة في قوله: {من ربهم} مشعرة إذا اقترن بها بعض القرائن بالتلطف والتقريب وتأنيس من عنى بها وتخويف من انتهك حرمة من جرت الكناية عنه بها تخصيصا وتأنيسا فلهذا خص هذا الموضوع بها وقدم أيضا تأنيس من خوطب بالنهى إذا هم امثلوا فأنسوا من شدة الخوف الحاصل من مجموع ما ذكرنا فلمجموع ما قصد في هذه الآية من التأنيس والتخويف والاستلطاف خصت بما ورد فيها.
فإن قلت قد ترد هذه الإضافة حيث لا يقصد التلطف ولا التأنيس كقوله تعالى: {وللذيم كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير} إلى أمثال هذا مما يكثر قلت: أما آية الفتح فلم ينجر فيها تخويف مرتكب ولا بنيت على ذلك ولا داعية إلى ما يستدعى التأنيس كما في آية المائدة وهذا مع أن المذكورين في آية الفتح أعظم الأمة قدرا وأجلهم خطرا وهم أهل المزية والاختصاص فلم تين الآية الا على مدحهم وبيان مزيتهم التي لا يدركها غيرهم ولم ينجر فيها تخويف يدعو إلى تأنيس من خوطب بها كما في آية المائدة بل وردت هذه مورد البشارة وتعريف حال الأنعام، وعلى ذلك وردت آية الحشر من الثناء والمدحة ولم يتخللها نهى ولا تخويف ولا ورود تفضيل بذكر مخالفى تلك الأحوال فقال تعالى: {للفقراء المهاجرين} إلى قوله: {يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} فقد وضح الوجه في ورود كل من هه الآى على ما ورد وإن عكس الوارد فيها لا يناسب على ما تمهد والله سبحانه أعلم.
قوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} وقال تعالى فيما بعد: {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا} فاتفقت الآيتان على وصية المؤمنين وحضهم على مكارم الأخلاق والعفو ممن تقدمت منه إساءة أكسبت بغضه فكأن قد قيل لهم: لا يحملنكم ما وقر في صدوركم من بغضكم إياهم على متقدم إساءتهم بصدهم إياكم عن المسجد الحرام عام الحديبية ومنعكم عن الاعتمار لا يحملنكم ذلك على الانتقام منهم والانتصار لأنفسكم والعفو أقرب للتقوى وقد ملكتم فاسجحو، خوطب المؤمنون بهذا بعد فتح مكة وقهر مفار العرب وإعلاء كلمة الله فندبوا إلى العفو عما تقدم ولا يحاسب من انقاد واستجاب في دين الله بما كان تقدم من عدوانهم وان وقر في النفوس من بغضهم على إساءتهم ما وقر فاستوت الآيتان بأمر المؤمنين بمكارم الأخلاق ثم اختلف تعليق ما حذروا منه أن يحملهم عليه لحظ ما بقى في نفوسهم فقيل في الآية الأولى: {أن تعتدوا} وفى الثانية: {على ألا تعدلوا} والاعتداء أشد وأعظم من عدم العدل فللسائل أن يسأل عن وجه ما ورد في كل من الموضعين ومناسبته لما تقدمه.
والجواب عن ذلك والله أعلم: أن الآية الأولى ورد فيها الإفصاح بعلة البغضاء الحاملة على الانتصار والانتقام وهى صدهم عن البيت الحرام عام الحديبية وذلك قوله تعالى: {أن صدوكم} أى من أجل أن صدوكم أى منعوكم فـ {أن} هنا مصدرية في موضع المفعول من أجله فلما وقع الافصاح بسبب الشنئان ناسب النظم الافصاح بالعقوبة عليه وهو الاعتداء بالانتقام والمجازاة السيئة بالسيئة لولا ما ندب سبحانه إليه من التخلف الايمانى المشروع للمؤمنين تقديمه واختياره فقيل: {أن تعتدوا} أى لا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا أى على الاعتداء أولا يكسبنكم ذلك المرتكب الفارط منه الاعتداء ولما لم يرد في الآية الثانية إفصاح بجريمة بل بنيت على أمر المؤمنين بالعدل فقا تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} فلما أمروا بالعدل ناسب ذلك وصيتهم وأمرهم ألا يحملهم شيء على ترك العدل الذي أمروا به فقيل {على ألا تعدلوا}.
فوضح جليل الالتئام والمناسبة وورود كل من المنهى عن ارتكابه في الآيتين على ما يجب ويناسب ولا يمكن خلافه والله أعلم. اهـ.

.من فوائد الثعلبي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} الآية نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة بن هند بن شرحبيل البكري، وقال: إنه لما أتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو الناس؟ فقال: «إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة». فقال: حسنٌ إلاّ إن لي مَنْ لا أقطع أمرًا دونهم ولعلي أُسلم وآتي بهم.