فصل: من فوائد القرطبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك، لأن أول قتالهم في «حنين» في «شوال». وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع.
فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال، فإنه يجوز للمسلمين القتال، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء.
وقوله: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} أي: ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة، أو غيرهما، من نعم وغيرها، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها، ولا تقصروا به، أو تحملوه ما لا يطيق، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله، بل عظموه وعظموا من جاء به.
{وَلا الْقَلائِدَ} هذا نوع خاص من أنواع الهدي، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله، وحملا للناس على الاقتداء، وتعليما لهم للسنة، وليعرف أنه هدي فيحترم، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة.
{وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي: قاصدين له {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} أي: من قصد هذا البيت الحرام، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به، والصلاة، وغيرها من أنواع العبادات، فلا تتعرضوا له بسوء، ولا تهينوه، بل أكرموه، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم.
ودخل في هذا الأمر الأمرُ بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك.
وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم.
والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه- يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله، كما قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أي: إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد، وزال ذلك التحريم. والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل.
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا} أي: لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم، حيث صدوكم عن المسجد، على الاعتداء عليهم، طلبا للاشتفاء منهم، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله، ويسلك طريق العدل، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه، أو يخون من خانه.
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أي: ليعن بعضكم بعضا على البر. وهو: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله وحقوق الآدميين.
والتقوى في هذا الموضع: اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله، من الأعمال الظاهرة والباطنة. وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها، بكل قول يبعث عليها وينشط لها، وبكل فعل كذلك.
{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ} وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها، ويحرج. {وَالْعُدْوَانِ} وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} على من عصاه وتجرأ على محارمه، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ...} الآية.
فيه ثلاث عشرة مسألة:
الأُولى قوله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} خطاب للمؤمنين حقًّا؛ أي لا تَتَعدَّوا حدود الله في أمر من الأُمور.
والشّعائر جمع شَعيرة على وزن فَعِيلة.
وقال ابن فارس: ويقال للواحدة شِعَارة؛ وهو أحسن.
والشعيرة البَدَنة تُهدى، وإشعارها أن يُجَزّ سَنامها حتى يسيل منه الدّم فيعلم أنها هَديٌ.
والإشعار الإعلام من طريق الإحساس؛ يقال: أشعر هَدْيه أي جعل له علامة ليُعرف أنه هَدْيٌ؛ ومنه المشاعر المعالم، واحدها مَشعر وهي المواضع التي قد أُشعِرت بالعلامات.
ومنه الشّعر؛ لأنه يكون بحيث يقع الشّعور؛ ومنه الشّاعر؛ لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره؛ ومنه الشّعير لشَعرته التي في رأسه؛ فالشّعائر على قولٍ ما أُشعر من الحيوانات لتُهْدى إلى بيت الله، وعلى قولٍ جميع مناسك الحجّ؛ قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: الصّفا والمَرْوة والهَديُ والبُدْن كل ذلك من الشعائر.
وقال الشاعر:
نُقَتِّلهم جِيلًا فجِيلًا تراهُمُ ** شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بها يُتَقَرَّبُ

وكان المشركون يَحجّون ويَعتمرون ويُهدون فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم؛ فأنزل الله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله}.
وقال عطاء بن أبي ربَاح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه.
وقال الحسن: دين الله كله؛ كقوله: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] أي دين الله.
قلت: وهذا القول هو الراجح الذي يقدّم على غيره لعمومه.
وقد اختلف العلماء في إشعار الهَدْي وهي:
الثانية فأجازه الجمهور؛ ثم اختلفوا في أي جهة يُشعَر؛ فقال الشافعي وأحمد وأبو ثَوْر: يكون في الجانب الأيمن؛ ورُوي عن ابن عمر.
وثبت عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن؛ أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح.
ورُوي أنه أشعر بُدْنه من الجانب الأيسر؛ قال أبو عمر بن عبد البرّ: هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس؛ والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس، قال: ولا يصح عنه غيره.
وصفحة السَّنام جانبه، والسَّنام أعلى الظهر.
وقالت طائفة: يكون في الجانب الأيسر؛ وهو قول مالك، وقال: لا بأس به في الجانب الأيمن.
وقال مجاهد: من أيّ الجانبين شاء؛ وبه قال أحمد في أحد قوليه.
ومنع من هذا كلّه أبو حنيفة وقال: إنه تعذيب للحيوان، والحديث يردّ عليه؛ وأيضًا فذلك يجري مجرى الوَسْم الذي يُعرف به المِلْك كما تقدّم؛ وقد أوْغَل ابن العربي على أبي حنيفة في الردّ والإنكار حين لم ير الإشعار فقال: كأنه لم يسمع بهذه الشّعيرة في الشّريعة! لهي أشهر منه في العلماء.
قلت: والذي رأيته منصوصًا في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنّة بل هو مباح؛ لأن الإشعار لمّا كان إعلامًا كان سنّة بمنزلة التّقليد، ومن حيث أنه جرح ومُثْلَة كان حرامًا، فكان مشتملًا على السنّة والبدعة فجُعلَ مباحًا.
ولأبي حنيفة أن الإشعار مُثْلَة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروهًا؛ وما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما كان في أوّل الابتداء حين كانت العرب تنتهب كلّ مال إلا ما جُعل هَدْيًا، وكانوا لا يعرفون الهَدْي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر؛ هكذا رُوي عن ابن عباس.
وحُكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتُريديّ رحمه الله تعالى أنه قال: يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البَضْع على وجه يخاف منه السِّراية، أما ما لم يجاوز الحدّ فُعِل كما كان يُفعَل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن؛ وهكذا ذكر أبو جعفر الطَّحاويّ.
فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار، فقد سمعوه ووصل إليهم وعَلِموه؛ قالوا: وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحدٌ محرِما؛ لأن مباشرة المكروه لا تُعدّ من المناسك.
الثالثة قوله تعالى: {وَلاَ الشهر الحرام} اسم مفرد يدلّ على الجنس في جميع الأشهر الحُرُم وهي أربعة: واحد فرد وثلاثة سَرْدٌ، يأتي بيانها في «براءة»؛ والمعنى: لا تستحلّوها للقتال ولا للغارة ولا تبدّلوها؛ فإن استبدالها استحلال، وذلك ما كانوا يفعلونه من النَّسيء؛ وكذلك قوله: {وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد} أي لا تستحلّوه، وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قِلاَدة.
فنهى سبحانه عن استحلال الهَدْي جملة، ثم ذكر المقلَّد منه تأكيدًا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد.
الرابعة قوله تعالى: {وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد} الهديُ ما أُهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة؛ الواحدة هَدْيَةٌ وهَدِيَّة وهَدْيٌ.
فمن قال: أراد بالشّعائر المناسك قال: ذكر الهَدْي تنبيهًا على تخصيصها.
ومن قال: الشّعائر الهدي قال: إن الشعائر ما كان مُشعَرا أي مُعْلَما بإسالة الدّمِ من سَنامه، والهديُ ما لم يُشعَر، اكتفى فيه بالتقليد.
وقيل: الفرق أن الشعائر هي البُدن من الأنعام.
والهَدْي البقر والغنم والثّياب وكل ما يُهدى.
وقال الجمهور: الهَديُ عامّ في جميع ما يتقرّب به من الذّبائح والصّدقات؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «المُبَكِّر إلى الجمعة كالمُهْدِي بَدَنة» إلى أن قال: «كَالمُهدِي بَيْضة» فسمّاها هَدْيًا؛ وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصّدقة؛ وكذلك قال العلماء: إذا قال جعلت ثوبي هَدْيًا فعليه أن يتصدّق به؛ إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسَوْقُها إلى الحرم وذبحها فيه، وهذا إنما تُلقّي من عُرف الشّرع في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} [البقرة: 196] وأراد به الشّاة؛ وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] وقال تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي} [البقرة: 196] وأقله شاة عند الفقهاء.
وقال مالك: إذا قال ثوبي هَدْيٌ يجعل ثمنه في هَدي.
{وَالْقَلاَئِدَ} ما كان الناس يتقلّدونه أَمَنَةً لهم؛ فهو على حذف مضاف، أي ولا أصحاب القلائد ثم نُسخ.
قال ابن عبّاس: آيتان نسختا من «المائدة» آية القلائد وقوله: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] فأمّا القلائد فنسخَها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا.
وأمّا الأُخرى فنسخها قوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: 49] على ما يأتي.
وقيل: أراد بالقلائد نفس القلائد؛ فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يُتَقَلَّد به طَلَبًا للأمن؛ قاله مجاهد وعطاء ومُطَرِّف بن الشِّخِّير. والله أعلم.
وحقيقة الهدي كلّ مُعطًى لم يذكر معه عِوَض.
واتفق الفقهاء على أن من قال: لِلَّه عليّ هدى أنه يبعث بثمنه إلى مكة.
وأما القلائد فهي كل ما عُلّق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لِلّه سبحانه؛ من نَعل أو غيره، وهي سُنّة إبراهيميّة بقيت في الجاهلية وأقرّها الإسلام، وهي سنّة البقر والغنم.