فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ذلكم فِسْقٌ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} واستقسمته سألته أن يقسم، ثم قد يستعمل في معنى قسم قال: {وأن تستقسموا بالأزلام}، وما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنما هو بحسب الانطباق مصداقا، والمعنى بالحقيقة طلب القسمة بالأزلام التي هي آلات هذا الفعل، فاستعمال الآلة طلب لحصول الفعل المترتب عليها فيصدق الاستفعال.
فالمراد بالاستقسام بالأزلام المنهى عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور ونحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب.
وأما ما ذكره بعضهم أن المراد بالاستقسام بالأزلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير والشر في الأفعال، وتمييز النافع منها من الضار كمن يريد سفرا أو ازدواجا أو شروعا في عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها مما لا خير فيه- قالوا: وكان ذلك دائرا بين عرب الجاهلية، وذلك نوع من الطيرة، وسيأتى زيادة شرح له في البحث الروائي التالى- ففيه: أن سياق الآية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، وذلك أن الآية- وهى مقام عد محرمات الأطعمة، وقد أشير إليها قبلا في قوله: {إلا ما يتلى عليكم}- تعد من محرماتها عشرا، وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، ثم تذكر الاستقسام بالأزلام الذي من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، ومن معناه استعلام الخير والشر في الامور فكيف يشك بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية في تعين حمل اللفظ على استقسام اللحم قمارا؟ وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ذلكم فِسْقٌ}:

.قال الفخر:

فيه وجهان: الأول: أن يكون راجعًا إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصرًا عليه.
والثاني: أن يكون راجعًا إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم، فمن خالف فيه رادًا على الله تعالى كفر.
فإن قيل: على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقًا؟ أليس أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل، وهذا أيضًا من جملة الفأل فلم صار فسقًا؟
قلنا: قال الواحدي: إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام لقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] وقال: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65] وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة».
ولقائل أن يقول: لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلبًا لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم التعبير غيبًا أو كفرًا لأنه طلب للغيب، ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفرًا لأنه طلب للغيب، ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارًا، ومعلوم أن ذلك كله باطل، وأيضًا فالآيات إنما وردت في العلم، والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علمًا وإنما يستفيد من ذلك ظنًا ضعيفًا، فلم يكن ذلك داخلًا تحت هذه الآيات.
وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقًا وكفرًا، وهذا القول عندي أولى وأقرب. اهـ.

.قال الألوسي:

{ذلكم} أي الاستقسام بالأزلام، ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر {فِسْقٌ} أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن {ذلكم} إشارة إلى تناول جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون}:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما عدد فيما مضى ما حرّمه من بهيمة الأنعام وما أحله منها ختم الكلام فيها بقوله: {ذلكم فِسْقٌ} والغرض منه تحذير المكلفين عن مثل تلك الأعمال، ثم حرضهم على التمسك بما شرع لهم بأكمل ما يكون فقال: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان، فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم، وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم، فإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم، وأن تقبلوا على طاعة الله تعالى والعمل بشرائعه. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} فيه قولان:
الأول: أنه ليس المراد هو ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم، ونظيره قوله: كنت بالأمس شابًا واليوم قد صرت شيخًا، ولا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه.
والقول الثاني: أن المراد به يوم نزول هذه الآية، وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} فيه قولان:
الأول: يئسوا من أن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة.
والثاني: يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم، وذلك لأنه تعالى كان قد وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان، وهو قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} [التوبة: 33] [الفتح: 28] [الصف: 9] فحقق تلك النصرة وأزال الخوف بالكلية وجعل الكفار مغلوبين بعد أن كانوا غالبين، ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وهذا القول أولى. اهـ.

.قال الثعلبي:

{الْيَوْمَ يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} يعني عن أن يرجعوا إلى دينهم كفّارًا، وفيه لغتان قال: الشعبي وائس يايس إياسًا وإياسة.
قال النضر بن شميل: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نزلت الآية في يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر للهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء وكادت عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت.
وقال طارق بن شهاب: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: آية نقرؤها لو علينا نزلت في ذلك اليوم لاتخذناه عيدًا، قال: أية آية؟ قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ}، قال عمر: قد علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان، إنها نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقوفًا بعرفات وكلاهما بحمد اللّه لنا عيد، ولا يزال ذلك اليوم عيدًا للمسلمين ما بقي منهم أحد وقد صار من ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولا يجمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمر» قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص، فقال: «صدقت».
وكانت هذه الآية نعي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها أحد وثمانون يومًا أو نحوها. اهـ.

.قال الألوسي:

{اليوم} أي الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية، وقيل: يوم نزول الآية، وروي ذلك عن ابن جريج.
ومجاهد.
وابن زيد، وكان كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه عصر يوم الجمعة عرفة حجة الوداع، وقيل: يوم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، وقيل: سنة ثمان، وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى: {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.
والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها، أو من أن يعلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله تعالى وفي بوعده حيث أظهره على الدين كله.
وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلى الله عليه وسلم في الموقف فلم ير إلا مسلمًا، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله سبحانه: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس {واخشون} أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي. اهـ.

.قال الفخر:

قال قوم: الآية دالة على أن التقية جائزة عند الخوف، قالوا لأنه تعالى أمرهم بإظهار هذه الشرائع وإظهار العمل بها وعلل ذلك بزوال الخوف من جهة الكفار، وهذا يدل على أن قيام الخوف يجوز تركها. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا}:

.قال الفخر:

في الآية سؤال وهو أن قوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يقتضي أن الدين كان ناقصًا قبل ذلك، وذلك يوجب أن الدين الذي كان صلى الله عليه وسلم مواظبًا عليه أكثر عمره كان ناقصًا، وأنه إنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدة قليلة.
واعلم أن المفسرين لأجل الاحتراز عن هذا الإشكال ذكروا وجوهًا: الأول: أن المراد من قوله: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} هو إزالة الخوف عنهم وإظهار القدرة لهم على أعدائهم، وهذا كما يقول الملك عندما يستولي على عدوه ويقهره قهرًا كليًا: اليوم كمل ملكنا، وهذا الجواب ضعيف لأن ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصًا.
الثاني: أن المراد: إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعلم الحلال والحرام، وهذا أيضًا ضعيف لأنه لو لم يكمل لهم قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع كان ذلك تأخيرًا للبيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز.
الثالث: وهو الذي ذكره القفال وهو المختار: أن الدين ما كان ناقصًا، ألبتة، بل كان أبدًا كاملًا، يعني كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالمًا في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيد بعد العدم، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فالشرع أبدًا كان كاملًا، إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلأجل هذا المعنى قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. اهـ.

.قال السمرقندي:

فإن قيل: في ظاهر هذه الآية دليل أن الدّين يزيد حيث قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
قيل له: ليس فيها دليل، لأنه أخبر أنه أكمل في ذلك اليوم، وليس فيها دليل أنه لم يكمل قبل ذلك.
ألا ترى أنه قال في سياق الآية {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا} ليس فيه دليل أنه لم يرض قبل ذلك، ولكن معناه أنه قد أظهر وقرر، كما جاء في الخبر أن رجلًا أعتق ستة أعبد له في مرضه، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنين منهم يعني أظهر عتقهما، وقرر ولم يرد به الابتداء.
وقال مجاهد: معناه اليوم أتممت لكم ظهور دينكم وغلبة دينكم ونصرته.
وقال قتادة: معناه أخلص لكم دينكم. اهـ.