فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَمَنِ اضطر في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَمَنِ اضطر في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}:

.قال الفخر:

هذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى، يعني أنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حالة الاضطرار، ومن قوله: {ذلكم فِسْقٌ} إلى هاهنا اعتراض وقع في البين، والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو الدين المرضي عند الله تعالى، ومعنى اضطر أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة، والمخمصة المجاعة.
قال أهل اللغة: الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع، وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن.
يقال: رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة والجمع خمائص وخمصانات، وقوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير متعمد، وأصله في اللغة من الجنف الذي هو الميل، قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182] أي ميلًا، فقوله غير {مُتَجَانِفٍ} أي غير مائل وغير منحرف، ويجوز أن ينتصب {غَيْرِ} بمحذوف مقدر على معنى فتناول غير متجانف، ويجوز أن ينصب بقوله: {اضطر} ويكون المقدر متأخرًا على معنى: فمن اضطر غير متجانف لاثم فتناول فإن الله غفور رحيم، ومعنى الإثم هاهنا في قول أهل العراق أن يأكل فوق الشبع تلذذًا، وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصيًا بسفره، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في تفسير سورة البقرة في قوله: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [البقرة: 173] وقوله: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعني يغفر لهم أكل المحرم عندما اضطر إلى أكله، ورحيم بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَمَنِ اضطر} متصل بذكر المحرمات وما بينهما، وهو سبع جمل على ما قال الطيبي اعتراض بما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسق عظيم، وحرمتها في جملة الدين الكامل.
والنعمة التامة.
والإسلام المرضى، والاضطرار الوقوع في الضرورة، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات {فِى مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها الموت أو مباديه {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائدًا على ما يمسك رمقه، فإن ذلك حرام كما روي عن ابن عباس.
ومجاهد.
وقتادة رضي الله تعالى عنهم وبه قال أهل العراق، وقال أهل المدينة: يجوز أن يشبع عند الضرورة، وقيل: المراد غير عاص بأن يكون باغيًا، أو عاديًا بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجًا في معصيته، وروي هذا أيضًا عن قتادة {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في الحقيقة، وقد أقيم سببه مقامه، وقيل: إنه مقدر في الكلام. اهـ.

.قال السلمي:

قوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}.
قيل فيه: قطعك عن الكل قطعًا وجذبك إليه جذبًا بهذه الآية {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وقال ابن عطاء: لا تجعل لهم من قلبك نصيبًا وأفرد قلبك لى، تجدنى بصفة الفردانية مقبلًا عليك.
وقال سهل: أعجز الناس من خشى ما لا ينفعه ولا يضره، والذى بيده الضر والنفع يخاطبه بقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}.
قوله عز وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [الآية: 3].
قال أبو حفص: كمال الدين في شيئين: في معرفة الله واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال جعفر بن محمد: اليوم إشارة إلى يوم بعث فيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ويوم رسالته.
وقيل: اليوم: إشارة إلى الأزل، والإتمام: إشارة إلى الوقت، والرضا: إشارة إلى الأبد.
وقيل: {أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بأن خصصتكم من بين عبادى بمشاهدة المصطفى صلى الله عليه وسلم يخاطب به أصحابه، وجعلتكم حجة لمن بعدكم من الأمة إلى يوم القيامة.
وقيل: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بالمعرفة.
وقال شقيق في هذه الآية: كمال الدين في الأمن والفراغ، إذا كنت آمنًا بما تكفَّل الله لك صرت فارغًا لعبادته.
قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}.
قيل: شرائط الإسلام كثيرة: منها سلامة روحك من جنايات سرك، وسلامة سرك من جنايات صدرك، وسلامة صدرك من جنايات قلبك، وسلامة قلبك من جنايات نفسك، وسلامة الخلق من جنايات شخصك وهيكلك وجوارحك، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».
وقيل: كمال الدين التبرِّى من الحول والقوة والرجوع في الكل إلى منزلة الكل.
قال الواسطى رحمة الله عليه: الإسلام خصلة مرضية ولكن لا يهتدى إليه الكل، والإسلام مرضى ولكن لا يلبسه الكل، والمرضى من أتى به ولكن على شرائط الاستقامة.
وقال أبو يعقوب السوسى: الإسلام دار عليها أربعة أبواب وأربع قناطر ثم المراتب بعد ذلك، من لم يدخل الدار ولم يعبر القناطر لم يصل إلى المراتب. فأول باب منها أداء الفرائض ثم اجتناب المحارم ثم الأمن بالرزق ثم الصبر على المكروه، فإذا دخل الدار استقبلته القناطر، فأول قنطرة منها الرضاء بالقضاء. والثانى: التوكل على الله.
والثالث: الشكر لنعماء الله. والرابع: إخلاص العمل لله، فمن لم يعبر هذه القناطر لا يصل إلى المراتب. اهـ.

.قال في البحر المديد:

قال بعض الحكماء: الدنيا كلها كالميتة، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلًا وشربًا وملبسًا ومركبًا، حتى يتحقق له الوصول، فما بقي لأحد حينئٍذ ما يقول، وعلامة الوصول: هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشيء سواه، إن افتقر اغتنى في فقره، وإن ذل عز في ذله، وإن فقد وجد في فقده، وهكذا في تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل، ولو سقطت السماء على الأرض. والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال في الميزان:

بحث علمي في فصول ثلاثة:
1- العقائد في اكل اللحم: لا ريب أن الإنسان كسائر الحيوان والنبات مجهز بجهاز التغذى يجذب به إلى نفسه من الأجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه وينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد والبلع إلا ان يمتنع منه لتضرر أو تنفر.
أما التضرر فهو كأن يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا لمسمومية ونحوها فيمتنع عندئذ عن الأكل، أو يجد الأكل يضر ضرا معنويا كالمحرمات التي في الاديان والشرائع المختلفة، وهذا القسم امتناع عن الأكل فكرى.
وأما التنفر فهو الاستقذار الذي يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الإنسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه، وقد شوهد ذلك في بعض الاطفال والمجانين، ويلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، والنصارى يستطيبونه، ويتغذى الغربيون من انواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان والضفدع والفأر وغيرها، وهذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني والقريحة المكتسبة.
فتبين أن الإنسان في التغذى باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، وأن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن امتناعه عما يمتنع عنه إنما هو عن فكر أو طبع ثانوى.
وقد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، وهذا تفريط يقابله في جانب الافراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من افريقية وغيرها أنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الإنسان.
وقد كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوان حتى أمثال الفأر والوزغ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطحية وما أكل السبع، وكان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون مما قتلتموه ولا تأكلون مما قتله الله؟! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللحم واللحم إذا لم يتضرر به بدن الإنسان ولو بعلاج طبى فنى فجهاز التغذى لا يفرق بين هذا وذاك؟.
وكانت العرب أيضا تأكل الدم، كانوا يملؤون المعى من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا اجدبوا جرحوا ابلهم بالنصال وشربوا ما ينزل من الدم، واكل الدم رائج اليوم بين كثير من الأمم غير المسلمة.
وأهل الصين من الوثنية اوسع منهم سنة، فهم- على ما ينقل- يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب والهر، وحتى الديدان والاصداف وسائر الحشرات.
وقد اخذ الإسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من الإنسان، ثم فسره في ذوات الاربع بالبهائم كالضأن والمعز والبقر والابل على كراهية في بعضها كالفرس والحمار، وفى الطير- بغير الجوارح- مما له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، وفى حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه.
ثم حرم دماءها وكل ميتة منها وما لم يذك بالاهلال به لله عز اسمه، والغرض في ذلك أن تحيا سنة الفطرة، وهى اقبال الإنسان على أصل أكل اللحم، ويحترم الفكر الصحيح والطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا، وتجويز ما يستقذر ويتنفر منه.
2- كيف أمر بقتل الحيوان والرحمة تأباه؟ ربما يسأل السائل فيقول: إن الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الإنسان من ألم العذاب ومرارة الفناء والموت وغريزة حب الذات التي تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه والفرار من ألم العذاب والموت تستدعى الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لأنه يؤلمهم ما يؤلمنا، ويشق عليهم ما يشق علينا، والنفوس سواء.
وهذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، ونحرمهم نعمة البقاء التي هي أشرف نعمة؟ والله سبحانه أرحم الراحمين، فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان وهما جميعا في أنهما خلقه سواء؟.
والجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية.
توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شيء إلا وفى إمكانه أن يتحول إلى آخر، وأن يتحول الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة لا يوجد واحد إلا ويعدم آخر، ولا يبقى هذا إلا ويفنى ذاك، فعالم المادة عالم التبديل، والتبدل، وإن شئت فقل: عالم الأكل والمأكول.
فالمركبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الأرض تأكلها وتفنيها.
ثم النبات يتغذى بالأرض ويستنشق الهواء ثم الأرض تأكله وتجزئه إلى أجزائه الاصلية وعناصره الاولية، ولا يزال أحدهما يراجع الاخر.
ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء، وبعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذى الذي يخصها إلا ذلك، وهى تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق والبعوض وهى تتغذى بدم الإنسان وسائر الحيوان ونحوه، ثم الأرض تأكل الجميع.