فصل: قال في الأمثل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فنظام التكوين وناموس الخلقة الذي له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذي وضع حكم التغذى باللحوم ونحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، وهو الذي سوى الإنسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا.
وفى مقدم جهازه الغذائى أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن، فلا هو مثل الغنم والبقر من الأنعام لا تستطيع قطعا ونهشا، ولا هو كالسباع لا تستطيع طحنا ومضغا.
ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها.
كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من مؤتمر الخلقة، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، وإباحة العمل المهدى إليه بتسليم أحدهما وإنكار الاخر؟.
والإسلام دين فطرى لا هم له إلا إحياء آثار الفطرة التي أعفتها الجهالة الإنسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدى إليه الخلقة وتقضى به الفطرة.
وهو كما يحيى بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيى أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذى أعنى حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوى من اللحوم، وحكم الاحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة، وهذان الحكمان أيضا ينتهى أصولهما إلى تصرف من التكوين، وقد اعتبرهما الإسلام فحرم ما يضر نماء الجسم، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الإنساني، مثل ما أهل به لغير الله، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالازلام ونحو ذلك، وحرم الخبائث التي تستقذرها الطباع.
وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الإنسان وكثير مما إعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الامور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الالام والاسقام والمصائب وأنواع العذاب.
ثم الرحمة الإنسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الإطلاق كالعدل، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازى مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا بعدوان، وفيه هلاك الأرض ومن عليها.
ومع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموما، ونهى عن زجر الحيوان في القتل، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه قبل زهاق روحه- ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة- ونهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه ووضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه، ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.
ومع ذلك كله الإسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الأحكام المصلحة لنظام المجتمع الإنساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، ومرجع ذلك إلى اتباع حكم العقل.
وأما حديث الرحمة الإلهية وأنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعورى الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه، ولذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى وبالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات.
فتبين من جميع ما مر أن الإسلام يحاكى في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التي قيد بها الاباحة والشرائط التي اشترطها جميعا أمر الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم!.
3- لماذا بنى الإسلام على التذكية؟ وهذا سؤال آخر يتفرع على السؤال المتقدم، وهو أنا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة والخلقة فهلا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة ونحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيؤه الموت العارض حتف الانف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، وحكم الرحمة بالامساك عن تعذيب الحيوان وزجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية والذبح؟.
وقد تبين الجواب عنه مما تقدم في الفصل الثاني، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب الاتباع بل اتباعه يفضى إلى إبطال أحكام الحقائق.
وقد عرفت أن الإسلام مع ذلك لم يأل جهدا في الأمر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظا لهذه الملكة اللطيفة بين النوع.
على أن الاقتصار على إباحة الميتة وأمثالها مما لا ينتج التغذى به إلا فساد المزاج ومضار الابدان هو بنفسه خلاف الرحمه، وبعد ذلك كله لا يخلو عن الحرج العام الواجب نفيه. اهـ.

.قال في الأمثل:

والمحرمات التي وردت في هذه الآية، بحسب الترتيب الذي جاءت عليه كما يلي:
أوّلا: الميتة.
ثانيًا: الدم.
ثالثًا: لحم الخنزير.
رابعًا: الحيوانات التي تذبح باسم الأصنام، أو باسم غير اسم الله، كما كان يفعل الجاهليّون، وقد تحدثنا عن هذه اللحوم الأربعة المحرمة في الجزء الأوّل من تفسيرنا هذا.
خامسًا: الحيوانات المخنوقة، سواء كان الخنق بسبب الفخ الذي تقع فيه أو بواسطة الإِنسان أو بنفسها، وكان الجاهليون يخنقون الحيوانات أحيانًا للإِنتفاع بلحومها وقد أشارت الآية إِلى هذا النوع باسم «المنخنقة».
وورد في بعض الروايات أنّ المجوس كان من عادتهم أن يخنقوا الحيوانات التي يريدون أكلها، ولهذا يمكن أن تشملهم الآية أيضًا.
سادسًا: الحيوانات التي تموت نتيجة تعرضها للضرب والتعذيب، أو التي تموت عن مرض وسمّيت في الآية بـ «الموقوذة».
ونقل القرطبي في تفسيره أن عرب الجاهلية اعتادوا على ضرب بعض الحيوانات حتى الموت إِكرامًا لأصنامهم وتقربًا لها.
سابعًا: الحيوان الذي يموت نتيجة السقوط من مكان مرتفع، وقد سمي هذا النوع في الآية بـ «المتردية».
ثامنًا: الحيوان الذي يموت جراء نطحه من قبل حيوان آخر، وقد سمت الآية هذا النوع من الحيوانات بـ «النطيحة».
تاسعًا: الحيوان الذي يقتل نتيجة هجوم حيوان متوحش عليه، وسمي هذا النوع في الآية بـ «ما أكل السبع».
وقد يكون جزءًا من فلسفة تحريم هذه الأنواع من الحيوانات، هو عدم نزفها المقدار الكافي من الدم لدى الموت أو القتل، لأنّه ما لم تقطع عروق رقابها لا تنزف الدم بمقدار كاف، ولما كان الدم محيطًا مناسبًا جدًا لنمو مختلف أنواع الجراثيم، وبما أنّه يتفسخ حين يموت الحيوان قبل الأجزاء الاُخرى من الجسد، لذلك يتسمم لحم الحيوان ولا يمكن أن يعد هذا اللحم من اللحوم السليمة، وغالبًا ما يحصل هذا التسمم عندما يموت الحيوان على أثر مرض أو من جراء التعذيب أو نتيجة تعرضه لملاحقة حيوان متوحش آخر.
من جانب آخر فإِنّ الشرط المعنوي للذبح لا يتحقق في أي نوع من تلك الحيوانات، أي شرط ذكر اسم الله وتوجيه الحيوان صوب القبلة لدى الذبح.
لقد ذكرت الآية شرطًا واحدًا لو تحقق لأصبحت لحوم الحيوانات المذكورة حلالا، وهذا الشرط هو أن يذبح الحيوان قبل موته وفق الآداب والتقاليد الإِسلامية، ليخرج الدم منه بالقدر الكافي فيحل بذلك لحمه، ولذلك جاءت عبارة {إلاّ ما ذكيتم} بعد موارد التحريم مباشرة.
ويرى بعض المفسّرين أن هذا الإِستثناء يخص القسم الأخير فقط، أي ذلك الذي جاء تحت عنوان: {وما أكل السبع} لكن أغلب المفسّرين يرون أنّ الإِستثناء يشمل جميع الأنواع المذكورة، والنظرية الأخيرة أقرب للحقيقة من غيرها.
وهنا قد يسأل البعض: لماذا لم تدخل جميع أنواع الحيوانات المحرمة في الآية في إطار «الميتة» التي ذكرت كأوّل نوع من المحرمات الأحد عشر في الآية، أليست الميتة في مفهومها تعني كل الأنواع المذكورة؟
والجواب هو: أنّ الميتة لها معان واسعة من حيث مفهوم الفقهي الشرعي، فكل حيوان لم يذبح وفق الطريقة الشرعية يدخل في إِطار مفهوم الميتة، أمّا المعنى اللغوي للميتة فيشمل- فقط- الحيوان الذي يموت بصورة طبيعية. ولهذا السبب فإِن الأنواع المذكورة في الآية- غير الميتة- لا تدخل من الناحية اللغوية ضمن مفهوم الميتة، وهي محتاجة إِلى البيان والتوضيح.
عاشرًا: كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخورًا حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة، وكانوا يسمون هذه الصخور بـ «النصب» حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.
والفرق بين النصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام، وقد حرم الإِسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى: {وما ذُبح على النّصب}.
وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إِنّما يحمل طابعًا معنويًا وليس ماديًا. وفي الحقيقة فإِن هذا النوع يعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول العبارة القرآنية: {وما أُهل لغير الله به} وقد ذكر تشخيصًا في الآية بسبب رواجه لدى عرب الجاهلية.
أحد عشر: وهناك نوع آخر من اللحوم المحرمة، وهو اللحوم التي تذبح وتوزع بطريقة القمار، وتوضيح ذلك هو أنّ عشرة من الأشخاص يتراهنون فيما بينهم فيشترون حيوانًا ويذبحونه، ثمّ يأتون بعشرة سهام كتب على سبعة منها عبارة «فائز»، وعلى الثلاثة الأخرى كتبت عبارة «خاسر»، فتوضع في كيس وتسحب واحدة واحدة باسم كل من الأشخاص العشرة على طريقة الإِقتراع، فالأشخاص الذين تخرج النبال السبعة الفائزة باسمائهم يأخذون قسمًا من اللحم دون أن يدفعوا ثمنًا لما أخذوه من اللحم، أمّا الأشخاص الثلاثة الآخرون الذين تخرج النبال الخاسرة باسمائهم فيتحملون ثمن الحيوان بالتساوي، فيدفع كلّ واحد منهم ثلث قيمة الحيوان دون أن يناله شيء من لحمه.
وقد سمى الجاهليون هذه النبال بـ «الأزلام» وهي صيغة جمع من «زلم» وقد حرم الإِسلام هذا النوع من اللحوم، لا بمعنى وجود تأصل الحرمة في اللحم، بل لأنّ الحيوان كان يذبح في عمل هو أشبه بالقمار، ويجب القول هنا أن تحريم القمار وأمثاله لا ينحصر في اللحوم فقط، بل إن القمار محرم في كل شيء وبأيّ صورة كان.
ولكي تؤكّد الآية موضوع التحريم وتشدد على حرمة تلك الأنواع من اللحوم تقول في الختام: {ذلكم فسق}.
الاعتدال في تناول اللحوم:
إِنّ الذي نستنتجه من البحث المار الذكر ومن المصادر الإِسلامية الأُخرى، هو أنّ الإِسلام اتبع في قضية تناول اللحوم أُسلوبًا معتدلا تمام الاعتدال جريًا على طريقته الخاصّة في أحكامه الأُخرى.
ويختلف اُسلوبه هذا اختلافًا كبيرًا مع ما سار عليه الجاهليون في أكل لحم النصب والميتة والدم وأشباه ذلك، وما يسير عليه الكثير من الغربيين في الوقت الحاضر في أكل حتى الديدان والسلاحف والضفادع وغيرها.