فصل: من فوائد الماوردي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإشارة من التردية إلى من هلك في أودية التفرقة، وعمي عن استبصار رشد الحقيقة؛ فهو يهيم في مفاوز الظنون، وينهك في متاهات المنى.
والإشارة من النطيحة إلى من صَارَعَ الأمثال، وقارع الأشكال، وناطح كلاب الدنيا فحطموه بكلب حرصهم، وهزموه بزيادة تكلبهم، وكذلك الإشارة من:
قوله جلّ ذكره: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}.
وأكيلة السبع ما ولغت فيه كلاب الدنيا، فإن الدنيا جيفة، وأَكَلَةُ الجيفِ الكلابُ ويستثنى منه المزكى وهو ما تقرر من متاع الدنيا لله؛ لأن زادَ المؤمِنِ من الدنيا: ما كان لله فهو محمود، وما كان للنَّفْس فهو مذموم.
قوله جلّ ذكره: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ}.
فهو ما أُرْصِدَ لغير الله، ومقصودُ كلِّ حريص- بموجب شرعه- معبودُه من حيث هواه قال الله تعالى: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] يعني اتخذ هواه إلهه.
{وَأَن تَسَتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ}، الإشارة منه إلى كل معاملة ومُصَاحبةٍ بُنِيَتْ على استجلاب الحظوظ الدنيوية- لا على وجه الإذن- إذ القمار ذلك معناه. وقَلَّتْ المعاملات المجرَّدَة عن هذه الصفة فيما نحن فيه من الوقت.
قوله جلّ ذكره: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}.
أي إيثار هذه الأشياء انسلاخ عن الدين.
قوله جلّ ذكره: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشُونِ}.
أي بعدما أزَحتُم عن قلوبكم آثار الحسبان، وتحققتم بأن المتفرد بالإبداع نحن فلا تلاحظوا سواي، ولا يُظَلِّلَنْ قلوبكم إشفاقٌ من غيري.
ويقال إذا كانت البصائرُ متحققة بأن النَّفع والضر، والخير والشر لا تحصل شطية منها إلا بقدرة الحق- سبحانه، فمن المحال أن تنطوي- من مخلوق- على رَغَبٍ أو رَهَبٍ.
قوله جلّ ذكره: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
إكمالُه الدين- وقد أضافه إلى نفسه- صَوْنُه العقيدة عن النقصان؛ وهو أنه لما أزعج قلوب المتعرفين لطلب توحيده أَمَّلها بأنوار تأييده وتسديده، حتى وضعوا النظر مَوْضِعَه من غير تقصيرٍ، وحتى وصلوا إلى كمال العرفان من غير قصور.
ويقال إكمالُ الدِّين تحقيقُ القَبُولِ في المآلِ، كما أن ابتداءَ الدِّين توفيقُ الحصول في الحال: فلولا توفيقه لم يكن للدين حصول، ولولا تحقيقه لم يكن للدين قبول.
ويقال إكمال الدين أنه لم يبق شيء يعلمه الحق سبحانه من أوصافه وقد علَّمك.
ويقال إكمال الدين أن ما تقصر عنه عقلك من تعيين صفاته- على التفصيل- أكرمك بأن عرَّفك ذلك من جهة الإخبار.
وإنما أراد بذكر {اليَوْمَ} وقتَ نزول الآية. وتقييد الوقت في الخطاب بقوله: {اليَوْمَ} لا يعود إلى عين إكمال الدِّين، ولكن إلى تعريفنا ذلك الوقت.
والدِّين موهوبٌ ومطلوبٌ؛ فالمطلوب ما أمكن تحصيله، والموهوبُ ما سبق منه حصوله.
قوله جلّ ذكره: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى}.
النعمة- على الحقيقة- ما لا يقطعك عن المنعم بل يوصلك إليه والنعمة المذكورة هاهنا نعمة الدِّين، وإتمامها وفاء المآل، واقتران الغفران وحصوله. فإكمال الدين تحقيق المعرفة، وإتمام النعمة تحصيل المغفرة. وهذا خطاب لجماعة المسلمين، ولا شك في مغفرة جميع المؤمنين، وإنما الشك يعتري في الآحاد والأفراد هل يبقى على الإيمان؟
قوله جلّ ذكره: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}.
وذلك لما قَسَمَ للخَلْق أديانَهم؛ فخصّ قومًا باليهودية، وقومًا بالنصرانية، إلى غير ذلك من النِّحَلِ والمِلَلِ، وأفرد المسلمين بالتوحيد والغفران.
وقدَّمَ قومٌ الإكمالَ على الإتمام، فقالوا: الإتمام يقبل الزيادة، فلذلك وَصَفَ به النعمة لقبول النِّعم للزيادة، ولا رتبةَ بعد الكمال فلذلك وصف به الدين.
ويقال لا فرق بين الدِّين والنعمة المذكورة ها هنا، وإنما ذُكِرَ بلفظين على جهة التأكيد، ثم أضافه إلى نفسه فقال: {نِعْمَتِى} وإلى العبد فقال: {دِينِكُمْ}.
فَوَجْهُ إضافته إلى العبد من حيث الاكتساب، ووجه إضافته إلى نفسه من حيث الخَلْق. فالدين من الله عطاء، ومن العبد عناء، وحقيقة الإسلام الإخلاص والانقياد والخضوع لجريان الحكم بلا نزاعٍ في السِّرِّ.
قوله جلّ ذكره: {فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
الإشارة من هذه الآية أنه لو وقع لسالكٍ فترة، أو لمريدٍ في السلوك وقفة، ثم تنبَّه لعظيم وقاعة فبادر إلى جميع الرَّجْعَةِ باستشعار التحسّر على ما جرى تَدارَكَتْه الرحمةُ، ونظر الله سبحانه إليه بقبول الرجعة.
والإشارة من قوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير معرِّج على الفترة، ولا مستديم لعُقْدةِ الإصرار، ويحتمل أن يكون معناه من نزل عن مطالبات الحقائق إلى رُخَصِ العلم لضعفٍ وَجَدَه في الحال فربما تجري معه مُساهلةٌ إذا لم يفسخ عَقْدَ الإرادة. اهـ.

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} فيها تأويلان:
أحدهما: أنه كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره.
والثاني، أنه كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير ذكاة.
{وَالدَّمُ} فيه قولان:
أحدهما: أن الحرام منه ما كان مسفوحًا كقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} الثاني: أنه كل دم مسفوح وغير مسفوح، إلا ما خصته السنة من الكبد والطحال، فعلى القول الأول لا يحرم السمك، وعلى الثاني يحرم.
{وَلَحْمُ الْخِنزيرِ} فيه قولان:
أحدهما: أن التحريم يختص بلحم الخنزير دون شحمه، وهذا قول داود.
والثاني: أنه يعم اللحم وما خالطه من شحم وغيره، وهو قول الجمهور، ولا فرق بين الأهلي منه والوحشي.
{وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يعني ما ذبح ليغر الله من الأصنام والأوثان، أصله من استهلال الصبي إذا صاح حين يسقط من بطن أمه، ومنه أهلال المُحْرِم بالحج والعمرة، قال ابن أحمر:
يهل بالفرقد ركبانها ** كما يهل الراكب المعتمر

{وَالْمُنْخَنِقَةُ} فيها قولان:
أحدهما: أنها تخنق بحبل الصائد وغيره حتى تموت، وهو قول السدي، والضحاك.
والثاني: أنها التي توثق، فيقتلها خناقها.
{وَالْمَوقُوذَةُ} هي التي تضرب بالخشب حتى تموت، يقال: (وقذتها أقذها وقذًا، وأوقذها أيقاذًا، إذا أثخنتها ضربًا)، ومنه قول الفرزدق:
شغارة تقذ الفصيل برجلها ** فطَّارة لقوادم الأبكار

{وَالْمُتَردِيَةُ} هي التي تسقط من رأس جبل، أو بئر حتى تموت.
{وَالنَّطِيحَةُ} هي الشاة التي تنطحها أخرى حتى تموت.
{وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فيه قولان:
أحدهما: يعنى من المنخنقة وما بعدها، وهو قول علي رضي الله عنه، وابن عباس، وقتادة، والحسن، والجمهور.
والثاني: أنه عائد إلى ما أكل السبع خاصة، وهو محكي عن الظاهرية. وفى مأكولة السبع التي تحل بالذكاة قولان:
أحدهما: أن تكون لها عين تطرف أو ذنب يتحرك.
والثاني: أن تكون فيها حركة قوية لا كحركة المذبوح، وهو قول الشافعي، ومالك.
{.... وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} معناه أن تطلبوا علم ما قُسِّمَ أو لم يُقَسَّم من رزق أو حاجة بالأزلام، وهي قداح ثلاثة مكتوبة على أحدها: أمرني ربي، والآخر: نهاني ربي، والثالث: غفل لا شيء عليه، فكانوا إذا أرادوا سفرًا، أو غزوًا، ضربوا بها واستسقسموا، فإن خرج أمرني ربي فعلوه، وإن خرج نهاني ربي تركوه، وإن خرج الأبيض أعادوه، فنهى الله عنه، فَسُمِّي ذلك استقسامًا، لأنهم طلبوا به علم ما قُسِمَ لهم.
وقال أبو العباس المبرد: بل هو مشتق من قَسَم اليمين، لأنهم التزموا ما يلتزمونه، باليمين.
{ذَلِكُمْ فِسْقٌ} أى خروج عن أمر الله وطاعته، وفعل ما تقدم نهيه عنه، {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} فيه قولان:
أحدهما: أن ترتدوا عنه راجعين إلى دينهم.
والثاني: أن يقدروا على إبطاله ويقدحوا في صحته.
قال مجاهد: كان ذلك يوم عرفة حين حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، بعد دخول العرب الإِسلام حتى لم ير النبي صلى الله عليه وسلم مشركًا.
{فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} أى لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، واخشونِ، أن تخالفوا أمري.
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فيه قولان:
أحدهما: أنه يوم عرفة في حجة الوداع ولم يعش الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلاَّ إحدى وثمانين ليلة، وهذا قول ابن عباس: والسدي.
والثاني: أنه زمان النبي صلى الله عليه وسلم كله إلى أنْ نَزَل ذلك عليه يوم عرفة، وهذا قول الحسن.
وفي إكمال الدين قولان:
أحدهما: يعني أكملت فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي، ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض من تحليل ولا تحريم، وهذا قول ابن عباس والسدي.
والثاني: يعني اليوم أكملت لكم حجتكم، أن تحجوا البيت الحرام، ولا يحج معكم مشرك، وهذا قول قتادة، وسعيد ابن جبير.
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بإكمال دينكم.
{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} أي رضيت لكم الاستسلام لأمري دينًا، اي طاعة.
روى قبيصة قال: قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لعظموا اليوم، الذي أُنْزِلت فيه عليهم، فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه، فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أُنزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما- بحمد الله- لنا عيد.
{فَمَنِ آضْطُرَّ} أي أصابه ضر الجوع.
{فِي مَخْمَصَةٍ} أي في مجاعة، وهي مَفْعَلة مثل مجهلة ومبخلة ومجبنة ومخزية من خمص البطن، وهو اصطباره من الجوع، قال الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ** وجاراتكم غرقى يبتن خماصا

{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثمٍ} فيه قولان:
أحدهما: غير متعمد لإِثم، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.
والثاني: غير مائل إلى إثم، وأصله من جنف القوم إذا مالوا، وكل أعوج عند العرب أجنف.
وقد روى الأوزاعي عن حسان عن عطية عن أبي واقد الليثي قال: قلنا يا رسول الله إنا بأرض يصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: «إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَجْنِفُوا بها، فَشَأْنُكُم بِّهَا» واختلف في وقت نزول هذه السورة على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها نزلت في يوم عرفة، روى شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: نزلت سورة المائدة جميعًا وأنا آخذة بزمان ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء وهو واقف بعرفة فكادت من ثقلها أن تدق عضد الناقة.
والثاني: أنها نزلت في مسيره صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو راكب، فبركت به راحلته من ثقلها.
والثالث: أنها نزلت يوم الاثنين بالمدينة، وهو قول ابن عباس، وقد حُكِيَ عنه القول الأول. اهـ.