فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} يقتضي أنّ الدّين كان ناقصًا قبل ذلك وذلك يوجب أنّ الدين الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم أكثر عمره كان ناقصًا، وإنما وجد الدّين الكامل في آخر عمره مدّة قليلة. أجيب: بأنّ الدين لم يكن ناقصًا بل كان أبدًا كاملًا وكانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالمًا في أوّل وقت المبعث بأنّ ما هو بعد العدم وأمّا في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبدًا كان كاملًا إلا أنّ الأوّل كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلهذا قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بإكماله، وقيل: بدخول مكة آمنين ورضيت أي: اخترت لكم الإسلام دينًا من بين الأديان، وهو الذي عند الله لا غير قال الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} (آل عمران،).
وقوله تعالى: {فمن اضطرّ} متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو إن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامّة والإسلام المرضي، والمعنى: فمن اضطرّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات {في مخمصة} أي: مجاعة {غير متجانف} أي: مائل {لإثم} أي: معصية بأن يأكل ذلك تلذّذًا ومجاوزًا حدّ الرخصة كقوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} (البقرة،) {فإنّ الله غفور} له ما أكل {رحيم} به في إباحته فلا يؤاخذه ومن المائل إلى الإثم قاطع الطريق ونحوه فلا يحل له الأكل مما ذكر قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون فمن اضطرّ في الوصل والباقون بالضم. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب}.
استئناف بيانيّ ناشئ عن قوله: {أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم} [المائدة: 1]، فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام.
ومعنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها، لأنَّه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا.
وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها.
وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير، لاستيعاب محرّمات الحيوان.
وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك، إلاّ ما ورد في السنّة من تحريم الحُمُر الأهلية، على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها، والظاهر أنَّه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف.
وألحَق مالك بها الخيلَ والبغال قياسًا، وهو من قياس الأدْون، ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان {الخيلَ والبغالَ والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8].
وهو قول أبي حنيفة خلافًا لصاحبيه، وهو استدلال لا يعرف له نظير في الأدلّة الفقهية.
وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: يَجوز أكل الخيل.
وثبت في الصحيح، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: ذبحنا فرسًا على عهد رسول الله فأكلناه.
ولم يُذكر أنّ ذلك منسوخ.
وعن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر ورخَّص في لحوم الخيل.
وأمّا الحُمُر الأهلية فقد ورد في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها في غزوة خيبر.
فقيل: لأنّ الحُمر كانت حَمولتهم في تلك الغَزاة.
وقيل: نهى عنها أبدًا.
وقال ابن عباس بإباحتها.
فليس لتحريم هذه الثلاثة على الإطلاق وجه بيّن من الفقه ولا من السنّة.
والميْتة الحيوان الذي زالت منه الحياة، والموتُ حالة معروفة تنشأ عن وقوف حركة الدم باختلال عمل أحد الأعضاء الرئيسية أو كلّها.
وعلَّة تحريمها أنّ الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرًّا بسبب العدوى، وتمييز ما يُعدي عن غيره عسير، ولأنّ الحيوان الميّت لا يُدرى غالبًا مقدار ما مضى عليه في حالة الموت، فربَّما مضت مدّة تستحيل معها منافع لحمه ودمه مضارّ، فنيط الحكم بغالب الأحوال وأضبطها.
والدم هنا هو الدم المُهراق، أي المسفوح، وهو الذي يمكن سيلانه كما صرّح به في آية الأنعام (145)، حَملًا لمطلقِ هذه الآية على مقيّد آية الأنعام، وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العِرق وما عليه من الجِلد، وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السنّ واختلاف أصناف العروق.
والظاهر أنّ علّة تحريمه القذارة: لأنّه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواءَ، ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه، ولا تعرّض في الآية لذلك، أو لأنَّه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرّة التي لا يحاط بمعرفتها، أو لما يحدثه تعوّد شرب الدم من الضراوة التي تعود على الخُلق الإنساني بالفساد.
وقد كانت العرب تأكل الدم، فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوَبَر ويأكلونه، ويسمّونه العِلْهِز بكسر العين والهاء.
وكانوا يملأون المَصير بالدم ويشوونها ويأكلونها، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {إنَّما حرّم عليكم الميتة والدم} في سورة البقرة (173).
وإنَّما قال: {ولحمَ الخنزير} ولم يقل والخنزير كما قال: {وما أهلّ لغير الله به} إلى آخر المعطوفات.
ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلاّ بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير.
ولم يأت المفسّرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر.
وقد بيّنا ذلك في نظير هذه الجملة من سورة البقرة (173).
ويبدو لي أنّ إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أنّ المحرّم أكل لحمه لأنّ اللحم إذا ذكر له حكم فإنَّما يراد به أكله.
وهذا إيماء إلى أنّ ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره، إذا انتزع منه في حياته بالجزّ، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ، إذا اعتبرنا الدبغ مطهّرًا جلد الميتة، اعتبارًا بأنّ الدبغ كالذكاة.
وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داود الظاهري وأبي يوسف أخذًا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم «أيما إهاب دبغ فقد طهر». رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس.
وعلّة تحريم الخنزير أنّ لحمه يشتمل على جراثيم مضرّة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضرارًا عظيمة، منها مرض الديدان التي في المعدة.
{وما أهلّ لغير الله به} هو ما سُمّي عليه عند الذبح اسمُ غير الله.
والإهلالُ: الجهر بالصوتتِ ومنه الإهلال بالحجّ، وهو التلبية الدالّة على الدخول في الحجّ، ومنه استهلّ الصبي صارخًا.
قيل: ذلك مشتقّ من اسم الهلال، لأنّ العرب كانوا إذا رأوا هلال أوّل ليلة من الشهر رفعوا أصواتهم بذلك ليَعلم الناس ابتداءَ الشهر، ويحتمل عندي أن يكون اسم الهلال قد اشتقّ من جَهر الناس بالصوت عند رؤيته.
وكانوا إذا ذبحوا القرابين للأصنام نادَوا عليها باسم الصنم، فقالوا: باسم اللاّت، باسم العُزّى.
{والمنخنقة} هي التي عرض لها ما يخنقها.
والخَنْق: سَدّ مجاري النفَس بالضغط على الحلق، أو بسدّه، وقد كانوا يربطون الدابّة عند خشبة فربما تخبّطت فانخنقت ولم يشعروا بها، ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها.
ولذلك قيل هنا: المنخنقة، ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله: {والموقوذة}، فهذا مراد ابن عباس بقوله: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها.
وحكمة تحريم المنخنقة أنّ الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرّة لآكله.
{والموقوذة}: المضروبة بحجر أو عصا ضربًا تموت به دون إهراق الدم، وهو اسم مفعول من وقَذ إذا ضرب ضربًا مثخِنًا.
وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنَّه وصف بهيمة.
وحكمة تحريمها تُماثل حكمة تحريم المنخنقة.
{والمتردّية}: هي التي سقطت من جَبَل أو سقطت في بئر تردّيًا تموت به، والحكمة واحدة.
{والنطيحة} فعيلة بمعنى مَفعولة.
والنطح ضربُ الحيوان ذي القرنين بقَرنيه حيوانًا آخر.
والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى فماتت.
وتأنيث النطيحة مثل تأنيث المنخنقة، وظهرت علامة التأنيث في هذه الأوصاف وهي من باب فَعيل بمعنى مفعول لأنَّها لم تجر على موصوف مذكور فصارت بمنزلة الأسماء.
{وما أكل السبع}: أي بهيمة أكَلَها السبع، والسبع كلّ حيوان يفترس الحيوان كالأسد والنمر والضبع والذئب والثعلب، فحرّم على الناس كلّ ما قتله السبع، لأنّ أكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالبًا بل بالضرب على المقاتل.
وقوله: {إلاّ ما ذكّيتم} استثناء من جميع المذكور قبله من قوله: {حرّمت عليكم الميتة}؛ لأنّ الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها، يرجع إلى جميعها عند الجمهور، ولا يرجع إلى الأخيرة إلاّ عند أبي حنيفة والإمام الرازي، والمذكورات قبلُ بعضها محرّمات لذاتها وبعضها محرّمات لصفاتها.
وحيث كان المستثنى حالًا لا ذاتًا، لأنّ الذكاة حالة، تعيَّن رجوع الاستثناء لِما عدا لحمَ الخنزير، إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يُذكّ وتحليلِه إذا ذكِّي، لأنّ هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله.
ثم إنّ الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلّق بالحيوان الميّت، فعُلِم عدم رجوع الاستثناء إلى الميْتة لأنَّه عبث، وكذلك إنَّما تتعلّق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلّقها بالدم، وكذا ما أهِلّ لغير الله به، لأنهم يهلّون به عند الذكاة، فلا معنى لتعلّق الذكاة بتحليله، فتعيّن أنّ المقصود بالاستثناء: المنخنقة، والموقوذة، والتمردّية، والنطيحة، وما أكل السبع، فإنّ هذه المذكورات تعلّقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك، فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يُبح أكلها لأنّها حينئذٍ ميْتة، وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها.
والمقصود أنّها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حيّة.
وهذا البيان ينبّه إلى وجه الحصر في قوله تعالى: {قل لا أجدُ فيما أوحي إليّ محرّمًا على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنَّه رجْس أو فسقًا أهلّ لغير الله به} [الأنعام: 145].
فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئًا ولم يذكرالمنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا، لأنّها تحرُم في حال اتّصال الموت بالسبب لا مطلقًا.
فعَضّوا على هذا بالنواجذ.
وللفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة: فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامةُ حياة، قبل الذبح أو النحر، من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكًا يدلّ على الحياة عرفًا، وليس هو تحريك انطلاق الموت.
وهذا قول مالك في «الموطّأ»، ورواية جمهور أصحابه عنه.