فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن فالذي أُحل هو ما أمسكت ما علمت من الجوارح، وليست الجوارح التي يعلمها الإنسان، اي أن الحق أحل لنا الطيبات وأكل ما أمسكت علينا الكلاب التي علمناها الصيد. و«الجوارح» مفردها «جارح» ومعناها «كاسب»، ولذلك تسمى أيدينا جوارح، وعيوننا جوارح، وآذاننا جوارح؛ لأننا نكسب بها المدركات.
فالعين جارحة تكسب المرئي، والأذن جارحة تكسب المسموع. والأنف جارحة تكسب المشموم. واللمس جارحة لأننا نكسب بها الملموس. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60]
و{ما جرحتم} أي ما كسبتم، إذن فالجارحة هي الكاسبة. وقوله الحق: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} مقصود به الحيوانات التي نعلمها كيف تصطاد لنا، وسميت جوارح، لأنها كاسبة لأصحابها الصيد، فالإنسان يطلقها لتكسب له الصيد، أو أنها في الغالب تجرح ما اصطادته. وكلا المعنيين يصح ويعبِّر.
والأصل في ما عَلّم الإنسان من الجوارح هو الكلاب، وألحق بالكلاب غيرها مثل الفهود والنمور والصقور. والحق قال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} أي ما بذلتم من جهد في تدريب هذه الجوارح للصيد، فالإنسان لا يطلق الكلب أو الصقر ليصطاد، لكنه يقوم- أولًا- بتدريب الحيوان على ذلك.
ومثال ذلك: عندما يقوم مدرب القرود بتدريب كل قرد عل الألعاب المختلفة، وكذلك مدرب «السيرك» الذي يقوم بتدريب الأسود والفيلة، فهذا الفيل الضخم يقف بأربعة أرجل على اسطوانة قطرها متر واحد، وذلك كله ممكن بالتدريب بما علمكم الله وألهمكم أيها البشر وبما أعطاكم من طول البال وسعة الحيلة.
وننتبه هنا إلى نقطة هامة: إن الإنسان يقوم بتدريب الحيوان على ألعاب ومهام مختلفة ولكن الفيل- على سبيل المثال- لا يقدر على تدريب ابنه الفيل الصغير على الألعاب نفسها. وهذا هو الفارق بين الإنسان والفيل، فابن الإنسان يتعلم من والده وقد يتفوق عليه، لكن تدريب الحيوان مقصور على الحيوان نفسه ولا يتعداه إلى غيره من الحيوانات من الجنس نفسه أو الذرية فلا يستطيع الحيوان الذي درّبته ورَّوضته وعلمته أن ينقل ذلك إلى ذريته ونسله فلا يستطيع أن يعلم ابنه.
وكلمة «مكلب» تعني الإنسان الذي يعلم الكلاب ويدربها على عملية الصيد. وقال البعض: إن «مكلب» أي الرجل الذي يقتني الكلاب؛ لكنا نقول: إن الإنسان قد يقتني الكلاب لكنه لا يقوم بتدريبها، إذن المكلب هو الذي يحترف تدريب الكلاب، ومثله مثل سائس الخيل الذي يدرب الخيل؛ فالحصان يحتاج إلى تدريب قبل أن يمتطيه الإنسان أو قبل أن يستخدمه في جر العربات.
ولماذا ذكر الله «المكلبين» ولم يذكر مدربي الفهود؟. لأن الغالب أن الكلب شبه مستأنس، أما استئناس الفهد فأمر صعب بعض الشيء. و«مكلبين» تعني المنقطعين لتعليم الكلاب عملية الصيد. ويعرف معلم الكلاب أن الكلب قد تعلم الصيد بأنه إذا ما أغراه بالصيد فإن الكلب يذهب إليه. وإذا ما زجره المدرب فهو يرجع من الطريق. وإذا ما ذهب الكلب إلى الصيد بعد تعليمه وتدريبه وأمره المدرب أن يحمل الصيد ويأتي؛ فالكلب يطيع الأمر.
ويأتي بالصيد سليمًا ولا يأكل منه. فهذه أمارة وعلامة على أن الكلب تعلم الصيد ويمكن تلخيصها في هذه الخطوات: إذا أرسلته للصيد ذهب، وإذا زجرته انزجر، وإذا استدعيته جاء ويأتي بالصيد سليمًا لا يأكل منه. فإن أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم؛ لأنه أمسك الصيد على نفسه، ولم يمسكه على صاحبه. ولذلك حدد الحق عملية الصيد بقوله عن الحيوانات التي تؤدي هذه المهمة: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.
ومن ضمن عملية التدريب هناك إطار إيماني، فالتدريب العضلي هو عملية يعلمها المكلِّب للكلب أما الإطار الإيماني فهو ذكر اسم الله على الصيد: {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} وذلك حتى يكون الصيد حلالًا، ولا يقع في دائرة {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ}. وإذا ما هجم الكلب على الصيد وقتله، يكون الصيد حلالًا، إن كان صاحب الكلب قد قال: «بسم الله والله أكبر» قبل أن يرسل الكلب إلى الصيد. وإن لم يذكر اسم الله فعليه أن ينتظر إلى أن يعود الكلب بالصيد، فإن كان في الصيد الحياة فليذكِّه أي يذبحه، ويذكر اسم الله، وإن مات الصيد قبل ذلك فلا يأكل منه. وكذلك إذا اصطاد الإنسان بالبندقية.. إن ذكر اسم الله أولًا وقبل أن يطلق الرصاصة فليأكل من الصيد.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} هذه هي القضية العامة، ومن بعد ذلك يحدد لنا الحق ألا نأكل الكلاب، ولكن هذه الكلاب التي نعلمها الصيد وتصطاد لنا ما نأكله بشرط أن تذكر اسم الله على الصيد قبل إطلاق الكلب للصيد، أو بعد أن تذبح الصيد الذي اصطاده الكلب، فذكر اسم الله مسألة أساسية في تناول النعم، لأننا نذكر المذلل والمسخر، ولا يصح أن نأخذ النعمة من وراء صاحبها دون أن نتذكره بكلمة.
ويذيل الحق الآية بقوله: {واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} وتقوى الله في هذا المجال تعني ألا يؤدي الإنسان هذه الأمور شكليًا، وعلى المؤمن أن يتقي الله في تنفيذ أوامره بنية خالصة ودقة سلوك؛ لأنه سبحانه سريع الحساب بأكثر من معنى، فمهما طالت دنياك فهي منتهية. ومادام الموت هو نهاية الحياة فالحياة قصيرة بالنسبة للفرد. وإياك أن تستطيل عمر الدنيا؛ لأن عمر الدنيا لك ولغيرك فلا تحسب الأمر بالنسبة إليك على أساس عمر غيرك الذي قد يطول عن عمرك. إذن مدة الحياة محدودة، ومادام الموت قد جاء، فعلى المؤمن أن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته».
والإنسان منا يعرف من خبر القرآن أن الموت مثل النوم. لا يعرف الإنسان منا كم ساعة قد نامها، ونعرف من خبر أهل الكهف أنهم تساءلوا فيما بينهم:
{وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19]
إذن هم لم يتبينوا أنهم ناموا ثلاثمائة عام وتسعة أعوام إلا بعد أن سألوا، وكذلك من يموت فهو لن يدري كم مات إلا يوم البعث. أو أنه سبحانه سريع الحساب أي أن له حسابًا قبل حساب الآخرة، وهو حساب الدنيا. فعندما يرتكب العبد المخالفات التي نهى عنها الله، ويأكل غير ما حلل الله، فهو سبحانه قادر على أن يجازي العبد في الدنيا في نفسه بالأمراض أو التعب أو المرض النفسي، ويقف الأطباء أمام حالته حائرين. وقوله الحق: {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} يصح ان تكون السرعة في الحساب في الدنيا ويصح أن تكون في الآخرة.
أو أنه سبحانه سريع الحساب بمعنى أنه يحاسب الجميع في أقل من لمح البصر، فالبعض يظن ظنًا خاطئًا أنهم سيقفون يوم القيامة في طابور طويل ليتلقى كل واحد حسابه. لا، هو سبحانه يحاسب الجميع بسرعة تناسب طلاقة قدرته. ولذلك عندما سئل الإمام علي- كرم الله وجهه-: كيف سيحاسب الله كل الناس في وقت واحد ويقال إن مقداره كنصف يوم من أيام البشر؟. فقال الإمام علي: فكما يرزقهم جميعًا في وقت واحد هو قادر على حسابهم في وقت واحد.
فسبحانه لم يجعل البشر تقف طابورا في الرزق، بل كل واحد يتنفس وكل واحد يأكل، وكل إنسان يسعى في أرض الله لينال من فضله. ولا أحد بقادر على أن يحسب الزمن على الله؛ لأن الزمن إنما يُحسب على الذي يحدث الحدث وقدرته عاجزة، لذلك يحتاج إلى زمن.
إننا عندما ننقل حجرًا متوسط الحجم من مكانه فإن ذلك لا يكلف الرجل القوي إلا بعضًا من قُوَّته، لكن هذا العمل بالنسبة لطفل صغير يحتاج إلى وقت طويل، فما بالنا بخالق الإنسان والكون؟ وما بالنا بالفاعل الذي هو قوة القوى؟ هو لا يحتاج إلى زمن، وهو سريع الحساب بكل المعاني. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} اسْمُ الطَّيِّبَاتِ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الطَّيِّبُ الْمُسْتَلَذُّ، وَالْآخَرُ: الْحَلَالُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ضِدَّ الطَّيِّبِ هُوَ الْخَبِيثُ، وَالْخَبِيثُ حَرَامٌ، فَإِذَا الطَّيِّبُ حَلَالٌ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ الِاسْتِلْذَاذُ، فَشَبَّهَ الْحَلَالَ بِهِ فِي انْتِفَاءِ الْمَضَرَّةِ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ} يَعْنِي الْحَلَالَ، وَقَالَ: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} فَجَعَلَ الطَّيِّبَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْخَبَائِثِ، وَالْخَبَائِثُ هِيَ الْمُحَرَّمَاتُ؛ وَقَالَ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} وَهُوَ يَحْتَمِلُ: مَا حَلَّ لَكُمْ، وَيَحْتَمِلُ: مَا اسْتَطَبْتُمُوهُ.
فَقَوْلُهُ: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا اسْتَطَبْتُمُوهُ وَاسْتَلْذَذْتُمُوهُ مِمَّا لَا ضَرَرَ عَلَيْكُمْ فِي تَنَاوُلِهِ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ، فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَى الْحَلَالِ الَّذِي لَا تَبِعَةَ عَلَى مُتَنَاوِلِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَحْتَجَّ بِظَاهِرِهِ فِي إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَلَذَّةِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ.
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ غِيلَانَ الْعَمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سَلْمَى عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْتُلَ الْكِلَابَ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أُحِلَّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أُمِرْت بِقَتْلِهَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} الْآيَةُ».
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنُ عَبْدُوسِ بْنِ كَامِلٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجُشَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرِ النُّوَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «لَمَّا سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْكِلَابِ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ لِي حَتَّى نَزَلَتْ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ تَنَاوَلَتْ مَا عَلَّمْنَا مِنْ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ يَنْتَظِمُ الْكَلْبَ وَسَائِرَ جَوَارِحِ الطَّيْرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ إبَاحَةَ سَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَهُوَ الْأَكْلُ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، فَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ: قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ مِنْ صَيْدِ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ؛ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حِينَ سَأَلَ عَنْ صَيْدِ الْكِلَابِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}، وَحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ فِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا أُحِلَّ مِنْ الْكِلَابِ الَّتِي أُمِرُوا بِقَتْلِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ؛ وَلَيْسَ يُمْتَنَعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُنْتَظِمَةً لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْكِلَابِ وَبِصَيْدِهَا جَمِيعًا، وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ تَقْتَضِي الْكِلَابَ أَنْفُسَهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} يُوجِبُ إبَاحَةَ مَا عَلَّمْنَا، وَإِضْمَارُ الصَّيْدِ فِيهِ يَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ، وَفِي فَحَوَى الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ صَيْدِهَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فَحَمَلَ الْآيَةَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِيهِمَا عَلَى الْفَائِدَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا.
وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ شَرْطَ إبَاحَةِ الْجَوَارِحِ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّمَةً، لِقَوْلِهِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} وَقَوْلُهُ: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ}.
وَأَمَّا الْجَوَارِحُ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّهَا الْكَوَاسِبُ لِلصَّيْدِ عَلَى أَهْلِهَا، وَهِيَ الْكِلَابُ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ الَّتِي تَصْطَادُ وَغَيْرُهَا، وَاحِدُهَا «جَارِحٌ» وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْجَارِحَةُ لِأَنَّهُ يَكْسِبُ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} يَعْنِي: مَا كَسَبْتُمْ؛ وَمِنْهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ}؛ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاصْطِيَادِ بِكُلِّ مَا عُلِّمَ الِاصْطِيَادَ مِنْ سَائِرِ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنْ الطَّيْرِ.
وَقِيلَ فِي الْجَوَارِحِ إنَّهَا مَا تَجْرَحُ بِنَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ، قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إذَا صَدَمَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ وَلَمْ يَجْرَحْهُ فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرَحْ بِنَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} فَإِنَّمَا يَحِلُّ صَيْدُ مَا يَجْرَحُ بِنَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ.
وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا فَلَيْسَ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَا مُرَادَيْنِ بِاللَّفْظِ، فَيُرِيدُ بِالْكَوَاسِبِ مَا يُكْسَبُ بِالِاصْطِيَادِ فَيُفِيدُ الْأَصْنَافَ الَّتِي يَصْطَادُ بِهَا مِنْ الْكِلَابِ وَالْفُهُودِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَجَمِيعِ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، وَيُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ فِي شَرْطِ الذَّكَاةِ وُقُوعَ الْجِرَاحَةِ بِالْمَقْتُولِ مِنْ الصَّيْدِ وَأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ ذَكَاتِهِ.