فصل: (سورة المائدة: آية 4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره يا لأزلام لتعرف الحال فسقًا؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوم وقال: {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} واعتقاد أنّ إليه طريقًا وإلى استنباطه، وقوله: أمرنى ربى، ونهاني ربى: افتراء على اللَّه. وما يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم- فقد روى أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر الْيَوْمَ لم يرد به يومًا بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شابا، وأنت اليوم أشيب، فلا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك. ونحوه «الآن» في قوله:
الآنَ لمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِى ** وَعَضَضْتُ مِنْ نَابِى عَلَى لَجذَمِ

وقيل: أريد يوم نزولها، وقد نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث بعد ما حرّمت عليكم. وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأن اللَّه عز وجل وفي بوعده من إظهاره على الدين كله فَلا تَخْشَوْهُمْ بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين مقهورين بعد ما كانوا غالبين وَاخْشَوْنِي وأخلصوا لي الخشية أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ كفيتكم أمر عدوّكم، وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم. أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم وأن لم يحجّ معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو أتممت نعمتي عليكم بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بذلك، لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا يعنى اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}، {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً}. فإن قلت: بم اتصل قوله فَمَنِ اضْطُرَّ؟ قلت: بذكر المحرّمات. وقوله: {ذلِكُمْ فِسْقٌ} اعتراض أكد به معنى التحريم، وكذلك ما بعده لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل. ومعناه: فمن اضطرّ إلى الميتة أو إلى غيرها فِي مَخْمَصَةٍ في مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير منحرف إليه، كقوله: {غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ}.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لا يؤاخذه بذلك.

.[سورة المائدة: آية 4]

{يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)}.
في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ كأنه قيل: يقولون لك ما ذا أحلّ لهم. وإنما لم يقل: ما ذا أحلّ لنا، حكاية لما قالوه لأنّ يسألونك بلفظ الغيبة، كما تقول أقسم زيد ليفعلنّ. ولو قيل: لأفعلنّ وأُحِلَّ لنا، لكان صوابا. و«ما ذا» مبتدأ، و{أُحِلَّ لَهُمْ} خبره كقولك: أى شيء أحل لهم؟ ومعناه: ما ذا أحل لهم من المطاعم كأنهم حين تلا عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحلّ لهم منها، فقيل: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أى ما ليس بخبيث منها، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطيبات أى أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف. أو تجعل {ما} شرطية، وجوابها {فَكُلُوا} والجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. والمكلب: مؤدّب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها، ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف، واشتقاقه من الكلب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتقّ من لفظه لكثرته من جنسه. أو لأن السبع يسمى كلبًا. ومنه قوله عليه السلام «اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك» فأكله الأسد. أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: هو كلب بكذا، إذا كان ضاريا به. وانتصاب مُكَلِّبِينَ على الحال من علمتم. فإن قلت. ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرًا في علمه مدرّبا فيه، موصوفا بالتكليب. وتُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف. وفيه فائدة جليلة وهي أن على كلّ آخذ علمًا أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علمًا وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل.
فكم من آخذ عن غيره متقن، قد ضيع أيامه وعضّ عند لقاء النحارير أنامله مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من علم التكليب، لأنه إلهام من اللَّه ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه.
وقرئ {مُكَلِّبِينَ} بالتخفيف. وأفعل وفعل يشتركان كثيرًا. والإمساك على صاحبه أن لا يأكل منه، لقوله عليه السلام لعديّ بن حاتم «و إن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه» وعن على رضى اللَّه عنه: إذا أكل البازي فلا تأكل. وفرق العلماء، فاشترطوا في سباع البهائم ترك الأكل لأنها تؤدّب بالضرب، ولم يشترطوه في سباع الطير. ومنهم من لم يعتبر ترك الأكل أصلا ولم يفرق بين إمساك الكل والبعض. وعن سلمان، وسعد بن أبى وقاص، وأبى هريرة رضى اللَّه عنهم: إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وذكرت اسم اللَّه عليه فكل. فإن قلت: إلام رجع الضمير في قوله وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ قلت. إما أن يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما علمتم من الجوارح. أى سموا عليه عند إرساله.

.[سورة المائدة: آية 5]

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)}.
طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: هو ذبائحهم. وقيل: هو جميع مطاعمهم. ويستوي في ذلك جميع النصارى. وعن على رضى اللَّه عنه: أنه استثنى نصارى بنى تغلب وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي. وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس. وهو قول عامة التابعين، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه. وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبى حنيفة. وقال صاحباه: هم صنفان: صنف يقرؤن الزبور ويعبدون الملائكة. وصنف لا يقرؤن كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. وأما المجوس فقد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وقد روى عن أبى المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضًا فأمر المجوسي أن يذكر اسم اللَّه ويذبح فلا بأس. وقال أبو ثور: وإن أمره بذلك في الصحة فلا بأس وقد أساء وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا عليكم أن تطعموهم، لأنه لو كان حراما عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم. الْمُحْصَناتُ الحرائر أو العفائف. وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق، وكذلك نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات، فعند أبى حنيفة: هن كالمسلمات، وخالفه الشافعي، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويحتج بقوله: «و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ» ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد أكثر اللَّه المسلمات، وإنما رخص لهم يومئذ مُحْصِنِينَ أعفاء وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ صدائق، والخدن يقع على الذكر والأنثى وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ بشرائع الإسلام وما أحلّ اللَّه وحرّم. اهـ.

.مباحث نفيسة للشنقيطي:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل بعمومها على إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقًا ولو سموا عليها غير الله أو سكتوا ولم يسموا الله ولا غيره لأن الكل داخل في طعامهم وقد قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدى ومقاتل بن حيان أن المراد بطعامهم ذبائحهم كما نقله عنهم ابن كثير ونقله البخاري عن ابن عباس ودخول ذبائحهم في طعامهم أجمع عليه المسلمون مع أنه جاءت آيات أخر تدل على أن ما سمي عليه غير الله لا يجوز أكله وعلى أن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يجوز أكله أيضًا، أما التي دلت على منع أكل ما ذكر عليه اسم غير الله فكقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} في سورة البقرة وقوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في المائدة والنحل وقوله في الأنعام: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} والمراد بالإهلال رفع الصوت باسم غير الله عند الذبح.
وأما التي دلت على منع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه فكقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فإنه يفهم عدم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه والجواب عن هذا مشتمل على مبحثين:
الأول: في وجه الجمع بين عموم آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مع عموم الآيات المحرمة لما أهل به لغير الله فيما إذا سمّى الكتابي على ذبيحته غير الله بأن أهل بها للصليب أو عيسى أو نحو ذلك.
المبحث الثاني: في وجه الجمع بين آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أيضًا مع قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيما إذا لم يسم الكتابي الله ولا غيره على ذبيحته.
أما المبحث الأول، فحاصله أن بين قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وبين قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} عمومًا وخصوصًا من وجه تنفرد آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في الخبز والجبن من طعامهم مثلًا وتنفرد آية {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} في ذبح الوثني لوثنه ويجتمعان في ذبيحة الكتابي التي أهل بها لغير الله كالصليب أو عيسى فعموم قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يقتضي تحريمها وعموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يقتضي حليتها وقد تقرر في علم الأصول أن الأعمين من وجه يتعارضان في الصورة التي يجتمعان فيها فيجب الترجيح بينهما والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر كما قدمنا في سورة النساء في الجمع بين قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} مع قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وكما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
وإن يك العموم من وجه ظهر ** فالحكم بالترجيح حتما معتبر

فإذا حققت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذين العمومين أيهما أرجح فالجمهور على ترجيح الآيات المحرمة وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك ورواه إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد ذكره صاحب المغنى وهو قول ابن عمر وربيعة كما نقله عنهما البغوي في تفسيره وذكره النووي في شرح المهذب عن على وعائشة ورجح بعضهم عموم آية التحليل بأن الله أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون كما احتج به الشعبي وعطاء على إباحة ما أهلوا به لغير الله قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن عموم آيات المنع أرجح وأحق بالاعتبار من طرق متعدده: منها قوله صلى الله عليه وسلم: «والإثم ما حاك في النفس» الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه».