فصل: فَصْلٌ فِي طَعَامِ الْوَثَنِيِّينَ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مُفَسِّرِي السَّلَفِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْصَنَاتِ هُنَا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: هُنَّ الْحَرَائِرُ. وَجَمَاعَةٌ: هُنَّ الْعَفَائِفُ عَنِ الزِّنَا، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، فَإِذَا جَازَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُهُمَا مَعًا، وَإِلَّا فَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْحَرَائِرُ. وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الزَّوَانِي يُعْرَفُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَمَا هُنَا لَا يُنَافِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهِنَّ الْعَجْزُ عَنِ الْحَرَائِرِ، كَمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، فَالْكِتَابِيَّاتُ بِالْأَوْلَى، وَالْحِلُّ هَنَا مُطْلَقٌ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ فِي الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِنَسْخِ مَا اشْتُرِطَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ هُنَالِكَ بِمَا هُنَا، وَتَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْإِمَاءُ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخِطَابِ الْأَحْرَارُ، وَالْحَرَائِرُ بِالرِّقِّ أَمْرٌ عَارِضٌ؛ وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى النَّصِّ عَلَى نِكَاحِهِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَالْغَالِبُ فِيهِنَّ عَدَمُ الْعِفَّةِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا- خِلَافًا لِمَنْ أَدْخَلَ الْإِمَاءَ فِي عُمُومِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ- لَا يَبْقَى وَجْهٌ لِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ إِلَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنِ الْأَمَةَ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمُحْصَنَاتِ بِمَعْنَى الْعَفِيفَاتِ، فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ اشْتِرَاطِ اسْتِطَاعَةِ عَدَمِ نِكَاحِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ لِصِحَّةِ نِكَاحِهَا، إِمَّا بِقِيَاسِ الْأَوْلَى، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الشَّرْطِ نَفْسِهِ هُنَا مِنْ قَبِيلِ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِقَيْدِ الْمُقَيِّدِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي حَالِ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ كَمَا هُنَا، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لِضَعْفِ الْخِلَافِ فِيهِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، وَالْأَمَةُ لَا تَأْخُذُ مَهْرَهَا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (4: 25) فَهُوَ عَيْنُ مَا هُنَا، وَقَدْ رَجَّحْنَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَهْرَ الْأَمَةِ حَقٌّ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ، لَا لِمَوْلَاهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْإِمَاءَ لَا يُعْطَيْنَ مُهُورَهُنَّ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأُجُورَ هِيَ الْمُهُورُ؟ غَايَةُ مَا يَقُولُهُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَمَةَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا يَسْتَثْنُونَ الْمَهْرَ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ بِدَلِيلِ الْآيَةِ: أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُبْقِيَ لَهَا الْمَهْرَ الَّذِي تَأْخُذُهُ مِنْ زَوْجِهَا، وَأَنْ يَأْخُذَهُ بِحَقِّ الْمِلْكِ.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} عَلَى تَرْجِيحِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفَ أَقْوَى مِمَّا ذُكِرَ؛ إِذْ يَكُونُ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ عَيْنَ الشَّرْطِ فِي النِّسَاءِ، وَقَوْلُهُ: مُحْصِنِينَ هُنَا حَالٌ، وَهِيَ قَيْدٌ فِي عَامِلِهَا فَتُفِيدُ الشَّرْطِيَّةَ؛ أَيْ هُنَّ حِلٌّ لَكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فِعْلًا أَوْ فَرْضًا حَالَ كَوْنِكُمْ مُحْصَنِينَ إِلَخْ. وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنِينَ هُنَا الْأَعِفَّاءُ عَنِ الزِّنَا فِعْلًا أَوْ قَصْدًا دُونَ الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّهُمُ الْأَصْلُ فِي الْخِطَابِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَيُطْلَقُ «الْمُحْصِنُ» بِكَسْرِ الصَّادِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَبِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، فَالزَّوَاجُ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُحْصَنًا، وَالْمَرْأَةُ مُحْصَنَةٌ يُعِفُّ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ، وَيَجْعَلُهُ فِي حِصْنٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الْفَاحِشَةِ جَهْرًا أَوْ عَلَى الشُّيُوعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمُسَافَحَةِ، أَوْ سِرًّا، أَوِ اخْتِصَاصًا بِاتِّخَاذِ خِدْنٍ مِنَ الْأَخْدَانِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّاحِبِ وَالصَّاحِبَةِ بِأَلَّا يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ صَاحِبٌ أَوْ خَلِيلٌ يَزْنِي بِهَا سِرًّا، وَلَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: كَيْفَ نَتَزَوَّجُ نِسَاءَهُمْ- يَعْنِي نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهُمْ عَلَى غَيْرِ دِينِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَمَنْ يَكْفُرُ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَأَحَلَّ اللهُ تَزْوِيجَهُنَّ عَلَى عِلْمٍ. اهـ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ لَا مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا، وَأَنَّ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغْرَبَ بَعْضُهُمْ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاسْتَنْكَرُوهُ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَوَعَظُوهُمْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا الْآيَةُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْإِذْعَانِ لِمَا أَحَلَّهُ اللهُ وَحَرَّمَهُ، وَمَنْ لَمْ يُذْعِنْ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ كَفَرَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ حَبِطَ عَمَلُهُ أَيْ بَطَلَ ثَوَابُهُ، وَخَسِرَ فِي الْآخِرَةِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ وَالْعَمَلِ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ تَفْسِيرَ {يَكْفُرُ بِالْإِيمَانِ} بِالْكُفْرِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: «أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِهِ، وَلَا يُحَرِّمُ الْجَنَّةَ إِلَّا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ» وَوَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ، بِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْمُرَادِ لَا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا ابْتَعَثَهُمْ بِهِ مِنْ دِينِهِ، وَالْكُفْرُ جُحُودُ ذَلِكَ، وَفَسَّرَهَا هُوَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَأْبَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَيَمْتَنِعْ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَالطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ- فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَذَلِكَ الْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَمَنْ أَبَى التَّصْدِيقَ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَالْإِقْرَارَ بِهِ فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ. اهـ. وَوَجَّهَ الرَّازِيُّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِأَنَّهُ مَجَازٌ حَسَّنَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَبُّ الْإِيمَانِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَنِ اسْتَنْكَرُوا نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ، أَيْ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَفَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَمَا أَحَلَّ اللهُ وَحَرَّمَ، أَيْ كَمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَمُجْمَلُ مَعْنَى الْآيَةِ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَا بَحِيرَةَ وَلَا سَائِبَةَ وَلَا وَصِيلَةَ وَلَا حَامٍ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ عَلَيْكُمْ قَطُّ، وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ كَذَلِكَ أَيْضًا، فَلَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنَ اللُّحُومِ الَّتِي ذَكَّوْا حَيَوَانَهَا، أَوْ صَادُوهَا كَيْفَمَا كَانَتْ تَذْكِيَتُهُ وَصَيْدُهُ عِنْدَهُمْ، وَأَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِمَّا تُذَكُّونَ وَتَصْطَادُونَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لَحْمُ الْأُضْحِيَّةِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ خَاصًّا بِقَوْمٍ لَا يَشْمَلُهُمْ وَصْفُهُمْ؛ كَالْمَنْذُورِ عَلَى أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ بِالذَّوَاتِ أَوْ بِالْوَصْفِ. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، حِلٌّ لَكُمْ كَذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ، وَمَا قَرَّرَهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (4: 24) لَمْ يُحَرِّمْهُنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ إِذَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي تَفْرِضُونَهَا لَهُنَّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِلَّا وَجَبَ لَهُنَّ مَهْرُ الْمِثْلِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونُوا قَاصِدِينَ بِالزَّوَاجِ إِحْصَانَ أَنْفُسِكُمْ وَأَنْفُسِهِنَّ، لَا الْفُجُورَ الْمُرَادُ بِهِ سَفْحُ الْمَاءِ جَهْرًا وَلَا سِرًّا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا هُوَ الِاحْتِيَاطُ وَبَحْثُ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَالتَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ إِنْشَاءٌ لِحِلِّهَا الْعَامِّ الدَّائِمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهُ بَلْ قَالَ: حِلٌّ لَكُمْ وَهُوَ خَبَرٌ مُقَرِّرٌ لِلْأَصْلِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ: مَسْأَلَةُ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَسْأَلَةُ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا مِنْ قَبْلُ وَأُحِلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا بِتَحْرِيمٍ مِنَ اللهِ وَلَا بِتَحْرِيمِ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ كَمَا حَرَّمُوا بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ. فَهَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ، وَسَكَتَ عَنْهُ الْبَاحِثُونَ فِي نُكَتِ الْبَلَاغَةِ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كَلَامِهِمْ، وَحِكْمَةُ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْحِلِّ قَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَى الْغُلَاةِ أَنْ يُحَرِّمُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَهُ مَعَ النَّصِّ الصَّرِيحِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ طَعَامَنَا حِلٌّ لَهُمْ دُونَ نِسَائِنَا، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُزَوِّجَهُمْ مِنَّا؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ وَسَمَاحَتَهُ لَا يَظْهَرَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ؛ لِسُلْطَانِ الرَّجُلِ عَلَيْهَا، هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ لِمَنْ يَفْهَمُ الْعِبَارَةَ مُجَرَّدًا مِنْ تَقَالِيدِ الْمَذَاهِبِ، فَمَنْ فَهِمَ مِثْلَ فَهْمِنَا، فَفَهْمُهُ حَاكِمٌ عَلَيْهِ، وَلَا نُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَنَا فِيهِ تَقْلِيدًا.

.فَصْلٌ فِي طَعَامِ الْوَثَنِيِّينَ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ:

أَخَذَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ مَفْهُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ طَعَامَ الْوَثَنِيِّينَ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي اللَّقَبِ؛ كَالدِّقَاقِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَالْقُرْآنُ لَمْ يُحَرِّمْ طَعَامَ الْوَثَنِيِّينَ وَلَا طَعَامَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مُطْلَقًا كَمَا حَرَّمَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ، بَلْ حَرَّمَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، كَمَا حَرَّمَ مَا كَانَ يَأْكُلُهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَحَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، فَالصَّابِئُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمَجُوسُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ، وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، غَيْرَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلَا نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُحَدِّثُونَ، وَلَكِنَّهُ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَيُقَالُ: إِنِ الْفَرِيقَيْنِ كَانَا أَهْلَ كِتَابٍ، فَفَقَدُوهُ بِطُولِ الْأَمَدِ.
وَهَذَا مَا كُنْتُ أَعْتَقِدُهُ قَبْلَ أَنْ أَرَى فِيهِ نَقْلًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِنَا وَعُلَمَاءِ الْمِلَلِ وَالتَّارِيخِ مِنَّا، وَذَكَرْتُهُ فِي الْمَنَارِ غَيْرَ مَرَّةٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ (الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ) لِأَبِي مَنْصُورٍ عَبْدِ الْقَاهِرِ بْنِ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيِّ (الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 429) فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ: إِنَّ الْمَجُوسَ يَدَّعُونَ نُبُوَّةَ زَرَادُشْتَ، وَنُزُولَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَالصَّابِئِينَ يَدَّعُونَ نُبُوَّةَ (هَرْمَسَ) و(وَالِيسْ) (وَدُورِيتُوسَ) و(أَفْلَاطُونَ) وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَسَائِرُ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ مُقِرُّونَ بِنُزُولِ الْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الَّذِينَ أَقَرُّوا بِنُبُوَّتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْوَحْيَ شَامِلٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ عَنْ عَاقِبَةِ الْمَوْتِ، وَعَنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَجَنَّةٍ وَنَارٍ يَكُونُ فِيهِمَا الْجَزَاءُ عَنِ الْأَعْمَالِ السَّالِفَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ.
وَقَدْ نَشَرْنَا فِي فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ سُؤَالًا مِنْ جَاوَهْ عَنْ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمَةِ كَالْوَثَنِيَّةِ الصِّينِيَّةِ، وَأَجَبْنَا عَنْهُ بِمَا نَصُّهُ (ص 261).
ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ الْمُسْلِمَةِ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى حِلِّ الزَّوَاجِ بِالْكِتَابِيَّةِ وَحُرْمَةِ الزَّوَاجِ بِالْمُشْرِكَةِ، وَيُرِيدُونَ مِنَ الْكِتَابِيَّةِ: الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَأَحَلَّ بَعْضُهُمُ الْمَجُوسِيَّةَ أَيْضًا، وَبِالْمُشْرِكَةِ: الْوَثَنِيَّةَ مُطْلَقًا، بَلْ عَدُّوا جَمِيعَ النَّاسِ وَثَنِيِّينَ مَا عَدَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُمْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ لَقَبُ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَمَا يَذْكُرُ أَهْلَ الْأَدْيَانِ يَعُدُّ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا صِنْفًا، وَأَهْلَ الْكِتَابِ صِنْفًا آخَرَ يَعْطِفُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَكَذَا الْمَجُوسُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
وَالَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظِ الْمُشْرِكِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شُبْهَةُ كِتَابٍ، بَلْ كَانُوا أُمِّيِّينَ.
وَالْأَصْلُ فِي الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ آيَتَانِ فِي الْقُرْآنِ؛ إِحْدَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (2: 221) الْآيَةَ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْمَائِدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (5: 5) وَقَدْ زَعَمَ مَنْ حَرَّمَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّاتِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِتِلْكَ، وَرَدُّوهُ بِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ الْمُشْرِكِينَ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ الْمَائِدَةِ مُخَصِّصَةً لِآيَةِ الْبَقَرَةِ، مُسْتَثْنِيَةً أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ عُمُومِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ نَصٌّ مُسْتَقِلٌّ فِي جَوَازِ التَّزَوُّجِ بِنِسَائِهِمْ.
وَقَدْ سَكَتَ الْقُرْآنُ عَنِ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي حُكْمِ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ لَهُمْ كِتَابٌ أَوْ شُبْهَةُ كِتَابٍ؛ كَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، وَمِثْلُهُمُ الْبُوذِيُّونَ وَالْبَرَاهِمَةُ وَأَتْبَاعُ (كُونْفُوشْيُوسَ) فِي الصِّينِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا الَّذِينَ حَرَصَ بَعْضُهُمْ عَلَى إِدْخَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِدَادِ الْمُشْرِكِينَ، لَا يَتَرَدَّدُونَ فِي إِدْخَالِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّفْرِقَةِ وَالْمُغَايَرَةِ، فَكَمَا غَايَرَ الْقُرْآنُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (98: 1) وَقَوْلِهِ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} (3: 186) وَذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِقِسْمَيْهِمْ فِي مَعْرِضِ الْمُغَايَرَةِ فِي قَوْلِهِ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (5: 82) الْآيَةَ، كَذَلِكَ ذَكَرَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ وَعَدَّهُمْ صِنْفَيْنِ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (22: 17) فَهَذَا الْعَطْفُ فِي مَقَامِ تَعْدَادِ أَهْلِ الْمِلَلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ طَائِفَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، لَيْسَتَا مِنَ الصِّنْفِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْكِتَابُ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا إِلَهِيَّةٌ، وَلَكِنْ بُعْدُ الْعَهْدِ وَطُولُ الزَّمَانِ جَعَلَ أَصْلَهَا مَجْهُولًا لَنَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَنْ جَاءُوا بِهَا مِنَ الْمُرْسَلِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (35: 24) وَقَالَ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (13: 7) وَإِنَّمَا قَوِيَتْ فِيهِمُ الْوَثَنِيَّةُ لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِأَنْبِيَائِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (57: 16) وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِسْقَ الْكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ هِدَايَةِ كُتُبِهِمْ، وَدُخُولَ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَالشِّرْكِ عَلَيْهِمْ- لَمْ يَسْلُبْهُمُ امْتِيَازَهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَدَّهُمْ صِنْفًا آخَرَ، كَمَا أَنَّ فِسْقَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَدُخُولَ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الصِّنْفِ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمُسْلِمِينَ وَلَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَعْنِيهِمُ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِقَوْلِهِمْ: لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَيُطَبِّقُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» وَبِهَذَا يُرَدُّ قَوْلُ مَنْ حَاوَلُوا إِدْخَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَتَحْرِيمَ التَّزَوُّجِ بِنِسَائِهِمْ؛ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ اتِّخَاذِهِمْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (9: 31) فَإِنَّ إِطْلَاقَ اللَّقَبِ عَلَى صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ، لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ صِنْفٍ آخَرَ لَهُ فِيهِ إِنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِثْلُ فِعْلِهِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} (2: 221) لاسيما إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى الصِّنْفِ الْآخَرِ لَيْسَ هُوَ أَخَصَّ صِفَاتِهِ، وَلَيْسَ عَامًّا شَامِلًا لِأَفْرَادِهِ؛ كَاتِّخَاذِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا يَتَّبِعُونَهُمْ فِيمَا يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ وَصْفَهُمُ الْأَخَصَّ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ كَثِيرِينَ مِنْهُمْ يُخَالِفُونَ رُؤَسَاءَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَمِنْهُمُ الْمُوَحِّدُونَ كَأَصْحَابِ (آرْيُوسَ) عِنْدَ النَّصَارَى، وَقَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِيهِمُ الْمُوَحِّدُونَ الْقَائِلُونَ بِنُبُوَّةِ الْمَسِيحِ بِسَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِي أُورُبَّةَ وَأَمِرِيكَةَ، وَكَانُوا قَلُّوا بِاضْطِهَادِ الْكَنِيسَةِ لَهُمْ.